أحداث وقعت برمضان وغيرت مسار المسلمين: فتح مكة

يحفل تاريخ الأمة الإسلامية بأحداث ووقائع عظيمة شكلت منعطفات حاسمة في مسار المسلمين بصفة خاصة والبشرية بصفة عامة. وقد شكل شهر رمضان الكريم مسرحا زمنيا للعديد من تلك الأحداث نظرا لمكانته العظيمة في نفوس المسلمين، وتأثيره القوي في الرفع من عزائمهم وتقوية هِمَمِهِم. ومنها فتح مكة.

في رمضان من السنة الثامنة للهجرة (630م)، سجل التاريخ حدثا إسلاميا فريدا. فقد تمكن المسلمون من فتح مكة بعدما دخلوها غاضبين بسبب انتهاك قريشٍ لعهدها معهم في صلح الحديبية.

وقد جهز الرسولُ صلى الله عليه وسلم جيشاً من عشرة آلاف مقاتل لفتح المدينة، فتحرَّك الجيشُ حتى وصل مكة ودخلها سِلْماً بدون قتال.

وكان من نتائج هذا الفتح المبين تقوية شوكة المسلمين، وتقهقر جيوش المشركين، و إعجاب سكان مكة برحمة النبي وجيشه، فاعتنق الكثير منهم دينَ الإسلام، ومن بينهم سيد قريش، وكنانة أبو سفيان بن حرب، وزوجتُه هند بنت عتبة، وغيرهم كثير.

أسباب فتح مكة بعد عقد صلح الحديبية بين المسلمين وقريش

كان من بين بنود الصلح أن تتوقف الحرب بين الطرفين مدة عشر سنوات مقابل أن يلتزم الطرفان ببنود الصلح كاملة، وكان من البنود أن يدخل من شاء من قبائل العرب في عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأن يدخل من شاء من العرب في عهد قريش شريطة ألَّا يتم أي اعتداء بين الطرفين وبين حلفاء الطرفين أيضًا، فدخلت بعد صلح الحديبية قبيلة خُزاعة في عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ودخل بنو بكر في عهد قريش، وجدير بالذكر إنَّه كان بين قبيلة خزاعة وبني بكر ثأر قديم من الجاهلية، وبعد عقد الصلح اغتنم بنو بكر الهدنة القائمة بين المسلمين وقريش وغدروا بخزاعة وأغاروا عليهم، وكان بنو بكر بقيادة رجل اسمه نَوْفل بن معاوية الدَّيْلي، قاد هجوم بني بكر على خزاعة، فقتلوهم شرَّ قتلة وأصاب بنو بكر ثأرهم القديم، فسارع رجل من خزاعة اسمه عمرو بن سالم الخزاعي بالذهاب إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ليخبره بأن بني بكر نقضوا صلح الحديبية وفعلوا فينا ما فعلوا، فأمر رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- أصحابه بالتجهز لفتح مكة.[٢]

استعداد المسلمين لفتح مكة

بعد أن علمت قريش بفعلة بني بكر وبوصول خبر نقض الصلح إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- سارعت إلى إرسال أبي سفيان وكان مشركًا وقتها إلى رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- لتفادي الأمر وعقد الصلح من جديد، ولكن محاولات أبي سفيان بإقناع المسلمين لتمديد الصلح باءت بالفشل، ثمَّ أمر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- بالتهيؤ لفتح مكة وجعل الأمر سرًا وشدد على ضرورة كتمان نية المسلمين في الفتح، فاجتمعت لرسول الله جيوشًا كبيرة من قبيلة جهينة وأسد وبني سليم وبني غفار واجتمع المهاجرون والأنصار، وفي هذه الأثناء اشتهرت قصة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب رسالة يحذر فيها قريش من جيش المسلمين القادم لفتح مكة وبعثها مع امرأة وأمرها أن تضع الرسالة في شعرها حتَّى لا يعثر عليها أحد، فنزل الوحي جبريل -عليه السَّلام- على رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأخبره بالرسالة فبعث رسول الله علي بن أبي طالب والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- وراء المرأة وأحضراها وعثرا على الرسالة، ثمَّ عاتب النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- حاطب بن أبي بلتعة على فعلته فأخبر أنَّه فعل هذا خوفًا على أهله وليس ردة فعفا عنه رسول الله فحاطب من الصحابة الذين شهدوا بدرًا، وبذلك حافظ رسول الله -صلّى الله عليه وسلَّم- على سرِّيَّة الفتح وتوجه الجيش نحو مكة وكان هذا في رمضان من السنة الثامنة للهجرة.[٣]

أحداث فتح مكة

خرج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلّم- ومن معه من الصحابة الكرام نحو مكة، وعندما أصبح المسلمون على مقربة من مكة، نظم رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- جيش المسلمين قبل فتح مكة المكرمة؛ فجعل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- على ميمنة الجيش وجعل الزبير بن العوام -رضي الله عنه- على ميسرة الجيش وأمره أن يبقى ومن معه من المهاجرين في كداء أعلى مكة، ثمَ بعث سعد بن عبادة -رضي الله عنه- ومعه كتيبة من الأنصار أمام رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وفي هذه الأثناء كان أبو سفيان يخرج إلى المناطق القريبة من قريش ليتحسس أخبار القوم، فالتقى بالعباس عم رسول الله، فأجاره وجاء به إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال له رسول الله: « يا أبا سُفْيانَ، ويْحَكَ أَلمْ يَأْنِ لكَ أنْ تعلمَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ؟ فقال: بأبي أنتَ وأمِّي ما أَحْلَمَكَ، وما أكرمَكَ وأوْصَلكَ، وأَعْظَمَ عَفْوَكَ، لقد كادَ أنْ يَقَعَ في نَفسي أنْ لَوْ كان إِلَهٌ غيرَهُ لقدْ أَغْنَى شيئًا بَعْدُ، فقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ويْحَكَ يا أبا سُفْيانَ، أَلمْ يَأْنِ لكَ أنْ تعلمَ أَنِّي رسولُ اللهِ؟ فقال: ما أَحْلَمَكَ، وما أكرمَكَ وأوْصَلكَ، وأَعْظَمَ عَفْوَكَ، أَمَّا هذه فإنَّ في النَّفْسِ مِنْها حتى الآنَ شيءٌ، قال العباسُ رضيَ اللهُ عنهُ-: فقُلْتُ: وَيْلكَ أَسْلِمْ، واشْهَدْ، أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ قبلَ أنْ تضْرَبَ عُنُقُكَ، فَشَهِدَ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ »[٤]، وفي صباح اليوم التالي اتجه رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالمسلمين نحو مكة، وسارع أبو سفيان يصيح بالناس: « يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن » ثمَّ تابع قائلًا: « ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن »، فتفرَّق الناس ودخل المسلمون مكة، وتم فتح مكة بإذن الله تعالى.[٥]

نتائج فتح مكة

يعتبر فتح مكة الذي قام به المسلمون في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة من أعظم الغزوات التي خاضها المسلمون في تاريخ الإسلام، فقد أدى فتح مكة إلى دخول مكة المكرمة تحت حكم المسلمين ونهاية قريش، كما جعل من المسلمين قوة عظمى في الجزيرة العربية ولفت انتباه المسلمين إلى نشر الإسلام في مناطق أخرى من الجزيرة وفي بلاد الشام، وأظهر هذا الفتح قوَّة الدولة الإسلامية التي بيَّنت أنَّها قادرة على ردِّ أي هجومٍ قِبَليٍّ قائم من تجمع عدد من القبائل، فلم تفكر القبائل العربية التي لم تدخل الإسلام في مهاجمة المسلمين من جديد.[٦]

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *