علي الغنبوري
متابعات قضائية في حق الصحفيين ، تجاوزات حقوقية ، تراجع عن المكتسبات الديمقراطية ، تغول غير مبرر للمقاربات الامنية و السلطوية… هذا ما يظهر اليوم كسمة طاغية داخل الساحة السياسية المغربية .
لكن كل هذه الملاحظات و المواقف ، تشكل فقط نصف الكأس او جزءه العلوي الظاهر و البادي للعيان ، اما النصف الاخر ، للاسف تضرب عليه كل اصناف التعتيم و المنع من الظهور ، لتكتمل الصورة ،و ليستطيع الجميع ، فهم ما يجري بشكل موضوعي و دقيق .
و اذا كانت هذه المتابعات و هذه التراجعات، و هذه الطروحات الامنية ، مدانة و مرفوضة و غير مقبولة بشكل عام و مجرد ، لما لها من اثار و خطورة على البناء الديمقراطي للوطن ، فان اسئلة كثيرة تجري تحت جسرها ،تدفع الى ضرورة الاجابة عنها و البحث في طبيعة الفاعلين بها ، و التقصي عن مشاريعهم و اهدافهم .
فهل في مصلحة المغرب الذي يسوق نفسه اليوم ، كاحد الاسثناءات الاقليمية و القارية في مجال الديمقراطية وحقوق الانسان ، ان يكون وجهه بهذه البشاعة المراد لها ان تبدو اليوم ؟ و هل المغرب غير واع بالتحديات و الرهانات المطروحة عليه اجتماعيا و حقوقيا و سياسيا للحفاظ على استقراراه ؟
و هل في مصلحة المغرب اليوم ان يعود الى المقاربات الشمولية و التحكمية ؟
بطبيعة الحال الجواب على كل هذه الاسئلة هو لا ، فالمغرب يعي جيدا ان ما يميزه عن باقي دول المنطقة هو الاستقرار ، و ان الاصلاح السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي هو السبيل الوحيد للحفاظ على استمراره و قوته و مناعته ، و ان تكريس الديمقراطية و حقوق الانسان هو المعطى الرئيسي للنموذج الذي يريد بناءه ،و الذي يسعى الى تسويقه داخل محيطه الاقليمي و القاري ،و اي تردد او تراجع للوراء في هذا الشان ، ستكون عواقبه وخيمة على البلاد برمتها .
لكن هذا التوجه و هذه الارادة التي يتوفر عليها المغرب ، لا يمكنها باي حال من الاحوال ، ان تجعل منه بلد “موز” ، يتخلى فيها عن سيادته و عن خصوصيته و عن قوانينه و عن عناصر اجماعه ، فلا يمكن اليوم ان يسمح للاجندات الخارجية و اللا وطنية ان تصبح بدائل سياسية ، كما لا يمكن ان تصبح المقاربات الخارجية و الوصفات الجاهزة للتغيير ، امرا مفروضا باسم النضال .
المغرب و بخلاف عدد من دول محيطه الاقليمي و القاري ، عاش حركية و عمل سياسيا متواصلا و متناميا منذ نهاية الاستعمار ،و ممارسة السياسة ليس امرا مستجدا او حادثا طارئا داخل البلاد ، بل بالعكس فالمغرب شهد دائما عنفونا سياسيا كبيرا ،جعله يخطو خطوات كبيرة نحو تكريس عدد من المكتسبات الديمقراطية و الحقوقية .
هذه المكتسبات التي حققها المغرب ، لم تكن سهلة المنال ، بل شهدت تضحيات و نضالات كبيرة ،دفعت الى اقتناع كافة مكوناته بضرورة التوافق من اجل طي صفحة الماضي و التوجه نحو المستقبل بقواعد اكثر ديمقراطية و انفتاحا .
التوافق الذي ساد المرحلة الجديدة التي عاشها المغرب بعد سنوات من الصراع و التوثر السياسي ، لم يحكم اطرافه منطق الغالب و المغلوب ، بل كان هدفه مساهمة الكل في بناء المغرب الديمقراطي التواق الى التنمية و التقدم، دون اي توجه نحو الهيمنة و الاستفراد و الاقصاء ، و بدون اي تدخلات و اجندات خارجية .
للاسف ما يعيشه المغرب اليوم هو نوع من الاجهاد السياسي، باسباب مختلفة ، يختلط فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي ، ادى الى اضعاف مختلف القوى الوطنية ،و الى ظهور بعض التوجهات الشادة و المعزولة ، و الملتبسة الاهداف و الغايات ، تستعمل النضال كشجرة تخفي غابة من الخلفيات و المشاريع اللاوطنية و الهدامة .
لا سبيل اليوم امام المغرب ، سوى اعادة الحياة الى الدورة السياسية الشرعية ، و تقوية فاعليها ، و تكريس التوافق بين كل مكوناته ، ودحض الاجندات الخارجية و الارتباطات اللاوطنية ، و التمسك بمؤسساته الشرعية و عناصر اجماعه الوطني ، فالمقاربات الطوبوية و الحالمة و العبثية و اللاوطنية ، لن تدخل المغرب الا الى النفق المسدود ،و لن تكرس الا لتفتيته و اضعافه .