احمد الحريري يكتب : عن المدرسة مرة اخرى

منذ عقود، و الدولة تجرب خططا و استراتيجيات للنهوض بقطاع التعليم، القاسم المشترك بينها انها قصيرة المدى بالنسبة إلى قطاع استراتيجي .. و عند كل محطة تقييمية يتم الوقوف على الوضع الكارثي لتعليمنا و تشخيص نفس المعيقات مع ملاحظة انها تتفاحل بمرور الوقت.

إن النموذج التنموي الفاشل، و المتجنى عليه، كشماعة جديدة لتبرير فشل الدولة في الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، لا يمكن ان يتطور و يستجيب للحاجيات الملحة للوطن و المواطنين دون انتاج خطة استراتيجية حقيقية تروم بناء الانسان قبل البنيان و تهدف إلى جعل التلميذ و الطالب في صلب كل السياسات العمومية و تمتد على جيل كامل اي من عشرين إلى ثلاثين سنة.. خطة ترتكز على اعطاء القيمة الحقيقية لمختلف الفاعلين في العملية التعليمية بدءا من الاستاذ و التلميذ و انتهاء بالإداري بإشراك الآباء و المنظمات و مختلف الشركاء..
و كذا اعادة بناء نظرة مجتمعية جديدة للمدرسة العمومية كمؤسسة ضامنة للمساواة و الارتقاء الاجتماعي و مكرسة لقيم الكفاءة و العمل..

لقد اعطت الدولة اولوية كبيرة لتكريس و إبراز سلطتها عبر بناء مقرات كبيرة و مهيبة و ذات واجهات متميزة و ضخمة تفرض على المرتفقين سلطتها فبل الولوج إليها.. عكس ما نفعله مع المؤسسات التعليمية بما فيها الجامعية و التي تنعدم فيها اي ميزة معمارية او بيئية.. و هو امر نعتبره مقصودا الى اليوم من اجل افراغها من أي محتوى متميز سواءا شكلا او مضمونا.. و يكفي مقارنة بنايات التعليم العمومي مع اي مدرسة او جامعة خاصة لترى الفرق الواضح.. و كما يقال فالكتاب يقرأ من عنوانه.. و الشكل و المضمون لا يفترقان..

و المجتمع المنشود مغربيا و نموذجه التنموي الضامن للتطور هو مجتمع المعرفة و العلم.. و عليه وجوبا وضع كل امكانيات الدولة في سبيل تقدمه و تطوره.. بدءا بالإعلام الذي يلزمه ثورة هادئة تقطع مع ما يمرره من خطابات و قيم حاليا تمجد الحلول الفردية و تكرس تفوق الموهبة على الدراسة و العلم بدءا ببرامج « المواهب » إلى التفاخر بانجازات فردية في رياضات معينة لا يد للدولة فيها و لا مجهود جماعي وراءها..

إن ابناءنا، ابناء هذا الجيل الجديد، في حاجة الى أمثلة و قدوات بناءة و معطاءة ، تدافع عن الوطن و ترفع قيم العلم و العمل عاليا.. و تجعل من بناء الوطن و الذات شيئاً واحدا فهذا من ذاك .. و ليسوا في حاجة لمن يذكرهم في كل مناسبة ان الاوسمة و النجاح الآني و الغنى المادي المكتسب بأي وسيلة هدف من اجل نيل حظوة او الحصول على امتياز غير اخلاقي..

المدرسة المغربية، و نحن على ابواب الدخول المدرسي الجديد.. إما أن تكون وطنية عمومية حداثية و مجانية ، تعطي الامل في الارتقاء بالعمل و الجهد او تستمر معيقة لكل تطور او تقدم لهذا الوطن..
لقد اضاع المغرب فرصا عديدة للقطع مع اللامساواة و التخلف و قيم التفاهة و ديكتاتورية الاستهلاك المتوحش.. و آن له ان يرسم طريقا جديدة توصله الي بر المواطنة الحرة و المسؤولة… و كله يبدأ الآن من المدرسة..

جميل ان تبني الطرق و السكك و المطارات و القصور.. و لكن بدون انسان يحافظ عليها و يعتبرها انجازا شخصيا له فانها تبذير و فقط، و لن يطول الوقت قبل ان يخربها من لم نستثمر فيه و لو ربعا مما اعطيناه للبماء من اهمية.. و لنا في ما وقع مؤخرا من سرقات للأكباش و تخريب لمراكز الاستشفاء الخاصة بكوفيد خير مثال..

الانسان هو المبتدأ و المنتهى لكل مشروع تنموي… و لا تنمية بدون تعليم وطني حداثي ديمقراطي و شعبي و مجاني..

دون نسيان البرامج و المقررات الرجعية التي تمجد كل الماضي و تجعله مرادا للمستقبل، ملاذا للهروب من واقع التهميش و عدم القدرة على مسايرة العصر.. لقد خلق تعليمنا اجيالا بلا هوية كل همها الهروب من واقعها و عدم الفعل فيه، عبر المخدرات و الكحوليات و الحلم بالهجرة إلى فردوس غربي لم يعد يقبل حتى ان نشاركه الكوكب..

اذا استمر الحال على ما هو عليه، فإننا نحفر قبورنا بأيدينا..
اذا استطاعت الدولة إلى الآن احتواء نتائج سياساتها الفاشلة خاصة على مستوى التعليم، فصعب التكهن بما تخبئه القادمات من الايام او السنين.. واذا كانت أعلى سلطة في البلاد ما انفكت تضع اليد على مكامن الازمة فالأولى ان تضع الدولة في يدها المشرط للقطع مع مكامن الخلل.. و لربما كان ذلك في صالح الدولة قبل المواطن.

كثيورن يدرسون ابناءهم بمدارس خصوصية و يقطعون من قوتهم و رزقهم و يضحون بالكثير من أجل منح فلذات أكبادهم فرصة أفضل لشق طريقهم في الحياة.. الفرق بينها و بين المدرسة العمومية مرحاض نظيف، و بعض المراقبة حتى لا تتحول ساحة الاستراحة الى ساحة معركة بين الاطفال، و بعض التواصل بين الا دارة و الآباء ، اضافة إلى شيء من الالتزام المهني لدى الاساتذة الذين يعتبرون ان أجورهم تصرف لهم نظير عملهم و ليس مقابل دبلومهم … ربما هنا تكمن البداية.. الجميع مسؤول..

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *