بقلم: يونس التايب
تعرف عدة مدن مغربية، بشكل متفرق خلال السنة، و بصفة خاصة في شهري يونيو و يوليوز، تنظيم مهرجانات تحتفي بألوان مختلفة من الثقافة الوطنية. و لا شك، أن ذلك أمر محمود لما فيه من مجهود لصون الرأسمال اللامادي لبلادنا و تثمينه، و المحافظة على مكانته في ذاكرة الأجيال الجديدة لربط الحاضر بالماضي، و استشراف أفق تحقيق امتداد أوسع لثراثنا الثقافي الذي يختزل تجليات هوية الأمة المغربية، و يبين غناها و رسوخها التاريخي.
و لأن الثقافة قادرة على أن تتجاوز البعد اللامادي الذي يميزها، لتساهم كقطاع قائم بذاته في تحقيق النماء، فقد استوعب المسؤولون الحكوميون في دول عديدة متقدمة، و حتى دول أقل تقدما، أن الثقافة يمكن أن تصبح مصدرا لإنتاج الثروة، و سعوا إلى جعلها جزءا من الدورة الإقتصادية لكسب نقط نمو إضافية.
وحيث أنه لا يخامرنا شك في قيمة الرصيد الثقافي الهائل والمتميز في بلادنا، من المشروع أن نطالب الفاعل الحكومي بإسراع الخطى والسير على طريق العودة بالثقافة المغربية إلى مكانها الطبيعية في قلب دينامية مجتمعنا، عبر سياسات عمومية رصينة، و من خلال نشر الوعي بأهمية الفعل الثقافي في تحصين الذات المجتمعية ضد كل الجراثيم الخطيرة التي تستهدفها من تسفيه و عدمية و تطرف و انحراف و فساد.
و بلوغ ذلك الأمل المنشود، مرتبط بمدى قدرة الفاعل الحكومي على اعتماد تخطيط استراتيجي، و عصرنة تدبير قطاع الثقافة، و رصد ما يلزم من كفاءات و من موارد لتثمين المنتوج الثقافي بكل أنواعه، و تسويقه بأحدث التقنيات، و استهداف « زبناءه » و تحفيز قدرتهم على تحريك ديناميكية « اقتصاد الثقافة »، و بلورة نماذج جديدة للتمويل في إطار شراكة « قطاع عام / قطاع خاص ». ولن يمكن تحقيق الطفرة الاستراتيجية المرجوة، بأثر بعيد المدى، في مجال حساس كالثقافة و الإبداع و الفن، إلا بتوفر شرط التدبير السليم و المتجرد عن « لهطة » المصالح الخاصة و المنافع الصغيرة، و الاصطفافات السياسوية الضيقة.
شخصيا، و دون ادعاء الإطلاع على ثنايا القطاع الوصي على الثقافة، لأنني لا أنتمي إليه و لا تربطني به و بأهله معرفة وثيقة، أعترف أني لاحظت من خلال متابعات إعلامية جادة، مبادرات ميدانية تمت خلال الأشهر القليلة الماضية، و تميزت بقرب كبير من الفاعلين، و انفتاح على كل الحساسيات الثقافية، و مجهود تواصلي جيد، و إيقاع عمل أسرع، و تفاعلية أقوى، مقارنة بما كان يصل إلى الرأي العام من معلومات من قبل عن قطاع الثقافة. و هذا أمر جيد على العموم، وجب تسجيله و التنويه به لأن أسلوب التدبير التشاركي كفيل بأن يسهل مجهودات المحافظة على الموروث الثقافي و تثمينه، و تحريك ديناميكية اقتصادية يكون محورها منتوج ثقافي مغربي تنافسي، يبحث عنه مواطن معتز بهويته و منفتح تواق للتعرف على ثقافات العالم. كما أن الثقافة وما يرتبط بها من ثراث عمراني تاريخي، عنصر أساسي لتشجيع السياحة الداخلية، و تمكين المواطن المغربي، و خاصة الأطفال و الشباب، من اكتشاف تجذر ثقافتهم الوطنية، و تهذيب أذواقهم من خلال ما يتيحه جمال و رقي الإبداع المنبعث من رصيد « تامغرابيت »، بكل روافدها و تجلياتها.
و في رأيي، من الهام جدا أن يستوعب كل الفاعلين العموميين و الخواص، أن الثقافة ثروة بإمكانها خلق فرص استثمار عالية المردودية، و إحداث فرص شغل، و تعزيز الجاذبية المجالية، و تقوية أواصر الإنتماء للمجال، و تمتين وشائج التضامن بين السكان على قاعدة المشترك الثقافي المحتفى به. وبالتالي، فإن كل المبادرات العمومية و الخاصة التي تنهل من تنوع الهوية المغربية، هي أمر جيد للغاية، وجب تشجيعها و تمكينها من الموارد الكافية و من الاحتضان اللازم، و تصويب ما قد يلحقها من اعوجاج في التصور و التدبير، حتى تنجح و تستمر.
و في هذا الإطار، يستحسن أن نحرص في كل مدن المملكة، على إبداع أشكال تواصلية رصينة و جاذبة لإبراز المنتوج الثقافي، و تقريبه من الناس، و استهداف الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية، و المجالات القروية، و كل الفضاءات الجغرافية التي تحمل في طياتها عوامل التهميش و العزلة. بذلك سنمنح المواطنين، و خصوصا أبناء الفئات الشعبية، فرصة كسر العزلة المجالية التي يعانون منها، من خلال الفن الأصيل و الثقافة الوطنية.
و لجعل الفعل الثقافي قنطرة عبور للتنمية الشاملة، سيكون رائعا أن ينتبه القائمون على تدبير المهرجانات الثقافية، و برمجة الأنشطة التي تتضمنها، إلى أهمية تنسيق مجهوداتهم مع مجهودات فاعلين مؤسساتيين آخرين، بغرض استهداف المجالات العمرانية و الأحياء التي تعاني العزلة، بخدمات موازية، توجه للساكنة و للشباب خاصة، تجعل الناس يقولون « جات المهرجانات الثقافية و الفنية… و جابت الخير معاها ».
و يمكن في هذا الباب، بسهولة كبيرة و بإمكانيات مادية مقدور عليها، برمجة أنشطة ذات بعد اجتماعي و طبي و بيئي و توعوي و تربوي؛ و جعل فعاليات المجتمع المدني بالمناطق المستهدفة، شريكا في البرمجة و التدبير، لكي نضمن رصانة و جدوى ما يتم إقراره من أنشطة، و نقوي تلك الجمعيات و الفعاليات المدنية، و نشجع لديها الرغبة في استدامة مجهود التعبئة و التأطير خارج زمن المهرجانات، في فضاءات دور الثقافة و دور الشباب.
إذا صارت الأمور على هذا الشكل، سنرى صورا تعكس فرح الأسر باللوحات الثقافية و الفنية المقدمة لهم، و سنلمس أن ذلك الفرح يمتزج بفخر الانتماء إلى وطن لا يستحضر القائمون على تدبير شأنه الثقافي، فقط المركز و المدن الكبرى و الأحياء الراقية، بل يدعمون أيضا المجالات الجغرافية الفقيرة لتنتصر على « حكرة » العزلة و التهميش، من خلال ضمها و إدماج ساكنتها في ديناميكية التنشيط الثقافي الذي كان لا يراه الناس سوى في شاشات التلفزة.
و كما أن هنالك بؤس و تهميش و فقر و بطالة، هنالك أيضا مناطق عديدة من وطننا تبعث إلينا بصور جميلة تبين أن مجتمعنا حي، و أن فيه نقط قوة حقيقية تجعل أبناءه مستعدين لرفع تحديات البناء الهادف. كما يتأكد من خلال تجارب متميزة، أن بالإمكان إدخال الفرحة إلى القلوب بشيء من التدبير الحكيم المرتكز على معايير الكفاءة و الاستحقاق لنيل المسؤوليات، مع ربط هذه المسؤوليات بالمحاسبة.
ألا فلتستثمروا في الثقافة المغربية لأن بمقدورها أن تكون رافعة للتنمية و حصنا لتعزيز الإنتماء الوطني. كما أن بها، و بأشياء أخرى مهمة أيضا، سيكون بإمكاننا إطلاق الديناميكيات المجتمعية الإيجابية التي نتطلع إليها لنؤسس لنموذج تنموي و اجتماعي جديد نستدرك به ما فات.