الأزمة الخليجية-القطرية: مقاطعة أم حصار؟

محمد رضا الرحماني

إن مواقف الدول واختياراتها الاستراتيجية يُفترض أن تتبلور وفق قراءة ذكية للبيئة الإقليمية والدولية، والتي تروم بالأساس تحقيق أكبر قدر من الاستفادة البراغماتية وذلك خدمة للمصلحة الوطنية كمحدد رئيسي لتوجهات السياسة الخارجية. هذه المواقف يتم اتخاذها بناءا على رسم استراتيجي معد سلفاً، ويأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الإكراهات وكذا الأدوات والوسائل (بالمفهوم الاستراتيجي) الكفيل بتحقيق الهدف السياسي الأسمى للدول.

على هذا المستوى من التحليل، اختار المغرب أن يتبنى موقف الحياد “الإيجابي” اتجاه الأزمة الخليجية الأخيرة، وذلك في محاولة منه للبقاء على مسافة واحدة من الأطراف المتنازعة مع إرسال إشارات قوية على استعداده لتبني جميع الوساطات الممكنة والكفيلة بالخروج بهذه الأزمة من النفق الذي وصلت إليه، خصوصا مع دخول قوى إقليمية على خط الأزمة لمحاولة الركوب عليها خدمة لأوهام “الخلافة” العثمانية ومشاريع تصدير “ثورة الولي الفقيه”.

هذا التموقع الاستراتيجي للمغرب، ربما لم يستوعبه (أو لم يرضى عنه) التيار الإخواني في المغرب، والذي يبدو أنه ارتمى كلّيا في أحضان المشروع الإخواني الذي انتقلت عاصمته من القاهرة إلى الدوحة قبل أن تستقر في إسطنبول مهد الخلافة العثمانية الجديد. ورغم أن تيار الإسلام السياسي في المغرب ظل لسنوات يُنكر، تقيّة، انتماءه لمشروع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين (على الأقل تنظيمياً)، إلا أنه على ما يبدو لم يستطع كبت حقيقة مواقف الولاء والبراء اتجاه أطراف الأزمة، ليعلن عن حملة شعواء ضد الإمارات والسعودية، وذلك تضامنا مع عرابهم قطر، في تعبير سياسي لا يعكس التوجه الرسمي للمملكة، بالرغم من كون حزبهم هو من يقود التشكيل الحكومي.

لقد سجلنا، منذ بداية الأزمة الخليجية، تأليبا وتجييشاً غير مسبوق على الدول المقاطعة لقطر من خلال توجيه سهام النقد لجميع سياساتها في المنطقة، لتصبح الإمارات والسعودية، بين عشية وضحاها، رموزاً لشياطين الإنس والجن، وتصبح قبيلة الرسول الكريم “قريش” علامة على الاستهزاء والاستصغار، ويصبح حكام السعودية في خانة الكفار والمنافقين، وحكام الإمارات ملاحدة علمانيين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

إن هذا البنية السلوكية المعقدة والمركبة على مستوى التفكير وعلى مستوى الفعالية التواصلية، توضح لنا إلى أي حد وصل تماهي الخرجات المثيرة للجدل ل”إخوان الداخل” مع الاطروحات التي يروجها الإخوان المسلمين انطلاقا من الدوحة وإسطنبول، وذلك من خلال المطالبات الغريبة بتسييس الحج تارة، وتارة أخرى بانتقاد التدخل العربي في اليمن ووصفه بالاحتلال رغم أن المغرب لازال، رسميا، ضمن التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية، وتارة ثالثة من خلال اتهام رموز هذه الدول بما لا يليق، وصلت إلى حد استغلال حادث مناخي عاد للتبشير بقرب زوال حكم آل سعود.

وبعيدا عن هذه الاحكام التي يعيد اجترارها التيار الإخواني في المغرب، سنحاول أن نطرح قراءتنا لواقع الأزمة الخليجية/القطرية من خلال محاولة الإجابة على السؤال التالي: هل الإجراءات السيادية التي اتخذتها الدول الأربعة تدخل في خانة الحصار؟ أم هي مجرد مقاطعة لدولة لم تنضبط للضوابط التي يحكمها القانون الدولي وتضبطها أخلاقيات حسن الجوار؟

في هذا السياق، تنص الأعراف الحربية على أن حصار دولة ما يتم عن طريق وضع تشكيل بحري وجوي يمنع هذه الدولة من استيراد كل مستلزماتها من المواد الغذائية والمنتوجات الأساسية من أجل ضمان الحياة العادية لمواطنيها، وكذا منع وصول العتاد الحربي والمعدات التكنولوجيا، وذلك بهدف الضغط عليها للرجوع عن بعض التعبيرات العسكرية والسياسية التي تصطدم مع مصالح الدول المحاصِرة، أو تلك التي تخرق مواثيق الامم المتحدة، وهو الإجراء الذي تلجأ إليه الدول، عادة، أثناء الحروب، وطبقته الأمم المتحدة، عمليا، في حق كل من السودان والعراق وليبيا، كما لجأت إليه الولايات المتحدة الامريكية، جزئيا، كإجراء أحادي الجانب في حق كل من الصين وكوريا الشمالية وإيران وسوريا.

على مستوى القانون الدولي، فإن الإجراءات والأساليب التي تدخل في خانة الحصار تنظمها المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على ما يلي: “لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء “الأمم المتحدة” تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئياً أو كليا وقطع العلاقات الدبلوماسية”.

إن إسقاط هذا المعطى على واقع الأزمة الخليجية يُعطينا المرتكز القانوني للحكم بأن دولة قطر لا تعيش أي حالة من الحصار، بالنظر إلى كونها لازالت تُعتبر أكبر مصدر للغاز الطبيعي بالمنطقة وتتوفّر على أكبر ميناء في الخليج العربي وهو ميناء “حمد الدولي”، والذي ارتفعت وتيرة العمل به في ظل الأزمة الخليجية، حيث يعتبر نقطة وصول وانطلاق في اتجاه أزيد من 40 مسار بحري. كما لازالت قطر تصدّر السلع والغاز الطبيعي إلى كل قارات العالم، وعلى رأسها اليابان، وكوريا الجنوبية، والهند، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وإيطاليا، والكويت….، ومادام الأمر كذلك فلا يمكن الحديث عن أي شكل من أشكال الحصار.

من جانب آخر، لازالت الملاحة الجوية مفتوحة أمام أسطول الطيران القطري، بشقيه المدني والعسكري، وأمام شركات الملاحة الجوية، بل وسجلنا استقبال قاعدة العديد الجوية جنوب الدوحة لدفعات متتالية من القوات المسلحة التركية، في إطار تفعيل “اتفاقية التعاون العسكري القطري/التركي” والتي دخلت حيز التنفيذ بتاريخ يوليوز 2017، أي مباشرة بعد اندلاع الأزمة الخليجية.

وبالإضافة إلى ما تقدّم من معطيات تُفند ادعاءات الحصار التي يروج لها “الإخوان” في المغرب، والذين يحبون دائما ان يدندنوا على وتر خطاب المظلومية والتباكي على عرابهم المالي والسياسي والإعلامي، نسجل بأن المغرب يعتزم قريبا فتح خط بحري مع الدوحة، حيث سبق للسفير المغربي السابق في قطر نبيل زنيبر أن صرح بأن مدينة الرباط قد احتضنت خلال شهر مارس الماضي، أعمال الدورة السابعة للجنة العليا المشتركة التي تأسست منذ سنة 1996، حيث تم توقيع 11 اتفاقية شملت ميادين الصناعة التقليدية، والتربية والتعليم، والشباب، والإعلام، والصناعة، والزراعة، والإسكان، والطيران المدني، والرقابة المالية، كما عرفت إنشاء لجنة وزارية تجارية مشتركة، وقررت إحداث خط ملاحي بحري مباشر بين موانئ البلدين. هذا المعطى يؤكد ما ذهبنا إليه من استنتاجات أعلاه.

من خلال ما سبق، يتبين بأن قطر لا تعيش، مطلقاً، على واقع الحصار من طرف الدول الأربعة وإنما هي مجرد مقاطعة لا غير، حيث أن المقاطعة هنا تقتصر على قطع، هذه الدول، لعلاقاتها الدبلوماسية وسحب السفراء منها ومنع التصدير والاستيراد من وإلى قطر، مع العمل على إضعاف الموقف السياسي والتفاوضي ومحاولة إخضاع الدوحة لتوصيات مجلس التعاون الخليجي وكذا الالتزامات التي تم التوقيع عليها بمقتضى التوصيات المنبثقة عن اتفاقية الرياض سنة 2014.

ويمكن القول، بأن الأزمة الخليجية، والتي تحاول المملكة التعامل معها بذكاء يحول دون المساس بالأسس القوية للعلاقات الاستراتيجية والأخوية مع مراكز القوة في الخليج، خصوصا السعودية والإمارات، قد كشفت لنا صور التماهي الإيديولوجي والسياسي للإخوان المسلمين في المغرب مع الأطروحة القطرية والتركية، خصوصا وأن التيار الإخواني يراهن على هاتين الدولتين كحاضنتين لمشروع الإسلام السياسي وكملاذ مفترض للإخوان في حالة التضييق عليهم في الدول التي ينشطون فيها. خصوصا وأن هذا التيار لا يؤمن أصلا بالوطن كمنظومة للانتماء والانتساب والذي يبقى في نظرهم مجرد “حفنة من تراب عفن”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *