الأعمال الدرامية التاريخية ليست عملاً وثائقياً

في كل عام ومع بدء الموسم الدرامي الرمضاني، تعود وسائل الإعلام ومختصون لطرح سؤال: لماذا نجحت الدراما السورية، خاصة التاريخية منها؟ ويسوقون مثلاً على ذلك نجاح الثنائي الرائع “الكاتب وليد سيف والمخرج حاتم علي” للتدليل على هذا النجاح، الذي ما كان له أن يتم دون وجود تناغم وانسجام تامَّين بين الرجوليين وفريق العمل كاملاً من فنيين إلى ممثلين ومباينهما، فلا يمكن أن ينجح عمل بالاعتماد على شخص واحد أو نجم مهما كان حجم نجوميته ومحبيه، فأساس النجاح هو العمل بروح الفريق الواحد.

رغم ما يحققه أي عمل تاريخي من نجاحات، يحاول البعض التربص به وانتقاده من باب أنه لم يقدم الحقيقة كاملة أو كما يفهمها هو، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس؛ فإنه من الخطأ بمكانٍ، التعاطي مع العمل التليفزيوني الدرامي، على أنه وثيقة تاريخية يُعتدّ بها.

نعتقد أنه من الأهمية بمكان أن نترك الفرصة للكاتب أو المؤلف الروائي للقصة أن يجول بخياله ويُورد بعض الأحداث التي ربما لا تكون موثَّقة أو حقيقية ليضفي على الأحداث طابعها الدرامي المشوّق دون شطحاتٍ تبدو مزعجة للبعض أو تنال من الشخصية التاريخية أو تحط من قدرها وتُسقطها في أعين الناس، ويجب أن يعلم المتابع أنه أمام عمل درامي وأنه لا يتعامل مع عمل توثيقي مكتمل الأركان، فمهمة الدرامى التشويق وجذب الجمهور من خلال استخدام المحسّنات الصوتية والبصرية وبعض الديكور، وتعرض لنا تخيُّل الكاتب لما كانت عليه تلك الحقبة التاريخية من نمط عيش وأسلوب اللباس وكيف كانت تدور أحداث تلك الحقب، لكن ليس بطريقة توثيقية، تذكَّروا هذا دائماً وأنتم تحاكمون الأعمال التاريخية.

أعتقد أنه من الإجحاف بمكانٍ، اختصار نجاحات الدراما السورية عامة، بالأعمال التاريخية أو تلك التي تحمل دلالات دينية، فالدراما السورية نجحت بكل تأكيد في المجالات كافة، ولو تباينت في بعض المواضيع ورُجحت أعمال على أعمال أخرى، التاريخية أو الفانتازيا التاريخية على المعاصرة أو العكس. لا يستطيع مراقبٌ، ادعاء أن الدراما السورية ما بعد تسعينات القرن الماضي، لو حددنا أكثر “الفانتازيا التاريخية” وغيرها، نجحت في تقديم مجموعة من الأعمال المتنوعة ما بين مسلسلات البيئة الشامية، مروراً بالتاريخية والبدوية، وصولاً إلى الاجتماعية والكوميدية. وفي جزء كبير منها، الأعمال التاريخية؛ على سبيل المثال: “الحجاج، والظاهر بيبرس، والقعقاع”، والتاريخية الشعبية مثل مسلسل “الزير سالم”، والشامية أمثال: “أيام شامية، وليالي الصالحية” إلى جانب أعمال بدوية شارك فيها نجوم عرب من الأردن والخليج العربي، مثل مسلسل “فنجان الدم”، ومسلسلات الميلودراما البدوية؛ ومثال ذلك مسلسل “صراع على الرمال”، من تأليف هاني السعدي وخيال وأشعار محمد بن راشد آل مكتوم.

كما هو الحال في الكوميديا ومسرح الكاتب والشاعر الأديب “محمد الماغوط” في مسرحيات “ضيعة تشرين، مسرحية شقائق النعمان، مسرحية غربة”.

أي عمل يحتاج كي ينجح، أن يمتلك صانعوه أداوتهم، وهذا ما تمكّن صانعو الدراما السورية، بمختلف تصنيفاتها، من امتلاكه: الكاتب والمخرج، الممثلون، المسرح. فلم يستكينوا فقط إلى الإرث التاريخي ومن سبقهم؛ بل طوروا أدواتهم، وكثير من العاملين في حقل الدراما خاضوا تجارب أكاديمية هذّبت أسلوبه وطورت أدواته فأصبح يرتكز على الموهبة المصقولة أكاديمياً.

أمر في غاية الأهمية يجب التنويه إليه بشدة، الدراما السورية لم تنكفئ على نفسها؛ بل انفتحت على المحيط العربي الأوسع واستعانت بكتّاب مهمين وفنانين كبار ومخرجين كان لهم عظيم الأثر في تطور الخط الدرامي السوري.

أمر آخر ساعد في نجاح وانتشار الدراما السورية؛ وهو قربها من الجمهور العربي بلهجة شامية محببة ومكنون تاريخي عظيم ومرحَّب به لدى المتابع العربي لدمشق “الشام” تاريخياً ودورها في صنع تاريخ الوطن العربي ورسم ملامحه.

في هذا السياق، يمكننا أن نستشهد بعمليات الدبلجة على سبيل المثال للمسلسلات التركية، حيث لاقت نجاحاً واسعاً؛ لاستخدامها اللهجة “الشامية”، فكان للهجة السورية عظيم الأثر في نجاحات الدراما.

نعود للأعمال التاريخية ونجاحها، عندما تتابع العمل التاريخي السوري تجد نفسك تعيش أجواء تلك الحقبة الزمنية بكل أبعادها؛ من إتقان اللغة الفصحى المقربة من الجمهور البعيدة عن التكلف، إلى الإكسسوار والملابس وتقنية الصوت.

نجح صنّاع الدراما التاريخية في الخروج من القالب النمطي لها ومن التصوير في الاستديوهات المغلقة إلى التصوير الخارجي في الطبيعة “الصحراء والجبل والغابة والبحر والنهر”، كما تم كسر استخدام الكاميرا الواحدة، واستطاع المخرجون أخذ لقطات بعدة كاميرات للمشهد الواحد، وتركوا مساحة أوسع للصورة كي تتكلم وبطريقة مشوقة عن المشهد والأحداث.

في حين كانت المسلسلات التاريخية تُصوّر بالاستديوهات الصمّاء وتأتي بقالب معلَّب.

وهنا، علينا ألا ننكر أداء الممثلين السوريين الذين تفوقوا، في كثير من الأحيان، على إمكانيات الإنتاج المتواضعة في مرحلة من المراحل، ولما أصبح الإنتاج أكثر سخاءً وجدنا أعمالاً في غاية الروعة؛ مثل: مسلسل “عمر”، ومسلسل “الظاهر بيبرس”.

نستطيع القول إن الأعمال الدرامية التاريخية، السورية والمشتركة، كسرت حاجز النمطية والتخفي وراء الديكور المبالَغ فيه لتغطية ضعف النص، واستقطبت كبار الفنانين العرب واستفادت من شعبيتهم وحضورهم في رفع تنافسيتها وأدائها. وأعتقد اليوم وبعد متابعة المسلسلات التاريخية التركية أمثال “قيامة أرطغرل”، و”القرن العظيم” حتى مسلسل “عبد الحميد الثاني”، أننا سنشهد انطلاقة جديدة في الأعمال التاريخية فيما يتعلق بطريقة التصوير وإنتاج المعارك الحربية، والكتّاب سيعيدون ترتيب أفكارهم فيما يتعلق بالحبكة الدرامية وتصاعد المشهد وتعقيده وطرق الحل وعدم الاستناد إلى أن الدراما تستند إلى قصة واحدة يُبنى عليها مسلسل من ثلاثين حلقة؛ فيها من التمطيط والتطويل ما يدعو للملل؛ بل يمكن دمج أكثر من قصة في الموضع وربطها بمتانة؛ حتى تبدو للمشاهد أنه يتابع قصة واحدة بأكثر من مشهد في مسلسل واحد، وهذا ما لاحظته في الأعمال التركية التي لا تخلو حلقة من حلقاتها من تصاعد المشهد الدرامي لذروته حتى لا تستطيع أن تتوقف عن المشاهدة وإن فاجأك فاصل إعلاني تشتم المحطة.

لو تحدثنا عن الدراما التاريخية الأندلسية، فستجدنا أمام تعطُّش شديد من الجمهور العربي لتلك الحقبة التي يجهلها الكثيرون، فقُدمت لهم بطريقة مرحة أشبه بالعمل المسرحي بعيدة عن التكلف، مثال ذلك “ربيع قرطبة”، فنانون شباب بحيويتهم كاملة. ولتبسيط الصورة أكثر لأذهان القارئ، علينا أن نتابع الحلقة الخامسة عشرة من مسلسل “ربيع قرطبة”، الحديث الذي دار بين أبو محمد المنصور وهو يناصح الخليفة “الحكم المستنصر بالله”، مشهد يختصر آلاف الكلمات، وهناك مشهد آخر من المهم متابعته من المسلسل نفسه، نشاهد استقبال الخليفة هشام المؤيد بالله بن الحكم، الذي قام بتجسيده العبقري “خالد تاجا والملكة طوطا”، إنك تتابع فيه العز والكبرياء بتواضع؛ وإنزال الناس منازلهم مع مشهد الخلفية والموسيقى التصورية، مشهد عبقري بسهولة تلقّيه ببهيتة وعظمته وتندمج بروح المشهد وكأنك تعيش تلك المقابلة.

تصوير في مواقع تاريخية وبيئة طبيعية بسحر المنظر كاملاً ومدلولاته؛ نص سهل ممتنع؛ لغة سهلة غير مبالَغ في فصاحتها قريبة من القلب سهلة البيان مرحة الوقع على المتلقي، فضلاً عن إشراك فنانين مخضرمين استطاعوا أن يجعلوا المشاهدين يعيشون مع الشخص الحقيقي.

نلخص الموضوع للقارئ، امتلك صانعو الدراما التاريخية السوريون أدواتهم “النص، الممثلون، المخرجون، البيئة”.

باختصار مكثف، الدراما التاريخية لبّت هموم المواطن العربي المثقَل بتفاصيل الحياة المحبَط من حاضره المتخوِّف على مستقبله، فوجد بالعودة للتاريخ وانتصاراته تفريغاً لشحنة الانكسار التي يعيشها، ولأنه لم يجد في الحاضر ما ينفّس عنه كربه تلمَّس هذا التعطش إلى الانتصار والمجد في قصص التاريخ وحكايات المجد التليد، في طبق درامي جمع بين الرزانة والفخامة وسحر البيان وكوميديا الموقف، دون تكلُّف أو تصنُّع مبالَغ فيهما.

فكان دافعاً قوياً جداً وراء شريحة واسعة من المتابعين للدراما التاريخية والدينية للانخراط أكثر في صناعتها أو متابعتها.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *