علي الغنبوري
لقد شكلت فكرة الاصلاح، الهاجس الاساسي لمختلف القوى الديمقراطية، على امتداد التاريخ الحديث للمغرب ، حيث عرفت هذه الفكرة تطورا مضطردا على امتداد عقود طويلة من الزمن ، باحداث و وقائع كثيرة ،زادت من زخمها و ضرورتها .
و اذا كانت فكرة الاصلاح هي موضوع اجماع لدى غالبية مكونات المغرب ،فان الطرق و السبل لتنزيلها الى ارض الواقع تختلف من فاعل لاخر ، فهناك من يرى أن تحقيق التوافق و الاجماع الوطني هو السبيل الوحيد و الامثل لفرض الاصلاح ، و هناك كذلك ، من يرى أن الصدام و المواجهة هما السبيلين الأكثر قدرة وسرعة على تحقيق الإصلاح .
من المؤكد ان البنية التقليدية للدولة و الفاعلين السياسيين المرتبطين و النابعين منها ، تشكل احد الاسباب الأساسية لبطئ سير العملية الإصلاحية ، ليس لانها لا تريد هذا الاصلاح و لا تسعى إليه ، لكن مناهج عملها و طرق اشتغالها و رهاناتها المتعددة ، تجعل هذه العملية رهينة بقالب سياسي معين يصعب معه تدوير عقارب ساعة الاصلاح بالسرعة اللازمة ، هذا بالإضافة إلى البنية المجتمعية المركبة و المعقدة ، التي تجعل اي سرعة في تنفيذ الأجندة الإصلاحية ، تحمل اخطار جدية على توازنها و استقرارها ، لكن هذين السببين لا يمكنهما باي حال من الاحوال ان يحولا دون طرح الأسئلة و التصورات الحقيقية و الجادة حول السبل الكفيلة بتحقيق الاصلاح الأمن ، الذي يضمن تطور المغرب و قدرته على مسايرة ركب التحديث و التنمية التي يسعى اليها الجميع ، في ضل الإستمرارية و الاستقرار .
من هنا يمكننا ان نجزم ، ان كل الاطروحات الصدامية في تنفيذ الاصلاح ، لا يمكنها أن تؤدي الى النتائج المرجوة ،بل بالعكس فإنها اما ستؤدي الى تعطيل مسيرة الإصلاح جراء فشلها في المواجهة ، و اما ستؤدي الى الفوضى و التدمير في حالة نجاحها في توجهاتها الصدامية ، فالعملية الإصلاحية بالمغرب مرتبطة ارتباط وثيق بتحقيق الاستقرار و بضمان استمرار الدولة كوعاء حاضن للجميع، و هو ما لا يمكن ان تضمنه هذه الطروحات الصدامية ،التي لا تحمل في عمقها اي برنامج و اي تصور اصلاحي واضح و مضبوط ، باستثناء بعض الشعارات العامة الناتجة عن ردود افعال اتجاه احداث معينة و معزولة ، تنتج عن سوء التدبير او الشطط في استعمال السلطة .
ما يعضدد هذا الطرح و يقوي حجته ، هو الأحداث التاريخية التي عاشها المغرب ، و التي كان الطرح الصدامي أساسها المتين ، حيث أثبتت التجربة الميدانية ، الفشل الدريع لهذا التصور ، بل يمكننا ان نقول ان هذا الطرح جعل المغرب يعيش سنوات طويلة من تعطيل المسيرة الإصلاحية ، و ادخل البلاد في سلسلة تراجعات مهولة ، كادت تعصف بالفكرة الإصلاحية برمتها .
و حتى لا نتيه في سرد الأحداث التاريخية المتعددة لهذا النهج الصدامي في فرض الاصلاح ، يمكننا الاقتصار على اخر هذه الأحداث التي عاشها المغرب ،و المتمثلة في حركة 20 فبراير ، باعتبارها محطة مواجهة و صدام رئيسي ، كانت تنشد تحقيق و تسريع وتيرة الاصلاح ، لكن النتيجة يعرفها الجميع ، فهي و ان استطاعت ظاهريا تحقيق بعض المكاسب الإصلاحية ، الا ان عمقها حمل تراجعات خطيرة على النسق الاصلاحي المغربي ،بل انها شكلت أرضية لبروز و صعود قوى لا ديمقراطية لتسير الشأن العام ، سرعان ما بدأت تفرض قواعد لعبة سياسية اكثر ضبابية و التباسا .
فحركة 20 فبراير لم تحمل أجندة إصلاحية مهيكلة و منظمة و مدققة بقدر ما كانت مؤطرة بشعارات عامة تجعل من الصدام و المواجهة الوقود الذي يحركها ، بل ان اغلب الفاعلين الكبار داخلها لم يكونوا يحملون فكر اصلاحي بقدر ما كانوا يحملون فكر القطيعة و الهدم ، و منهم من كان يريد اسقاط النظام و بناء نظام اخر ( العدل و الاحسان ، النهج )، و هو ما ساهم في افراغ الحركة من محتواها الاصلاحي ، و ادخلها الى نفق مسدود ، سرعان ما فقدت معه وجهجها و قوتها، لتتزايد معها المناطق الرمادية التي تلف المسار الاصلاحي الوطني .
في المقابل ، نجد أن طرح التوافق و الاجماع الوطني لتحقيق الاصلاح ، استطاع ان يفرض نفسه كخيار جدي و حقيقي قادر على تنزيل الاصلاحات الضرورية لتقدم البلاد ،و لتحقيق الانفراج السياسي المناسب بمساهمة الكل في البناء الديمقراطي ، انطلاقا من توفير الارضيات الملائمة لبروز التصورات و القناعات المشتركة ، التي تنشد التغير في ظل الإستمرارية و الاستقرار .
فاهم المكتسبات الديمقراطية ، جاءت كنتيجة لتوافق المكونات الرئيسية للبلاد ،و ولاقتناعها المشترك بتقديم التنازلات الضرورية لدفع عجلة الاصلاح ، و الابتعاد عن المواقف المتحجرة و المتصلبة ، ما نتج عنه بناء مؤسساتي سليم و قوي ، و رسم معالم إصلاحية واضحة باجندة جد مظبوطة .
فهذا الطرح هو من قاد تجربة التناوب السياسي و هو من دشن الاوراش الكبرى التي دفعت المغرب نحو التقدم و التطور ، و هو من قاد تجربة الانصاف و المصالحة و طي صفحة الماضي الاليم ، و هو من وسع هامش الحريات و قضى على مظاهر البطش ، و هو من قاد اغلب التوجهات الحداثية داخل البلاد .
بروز الطرح التوافقي لم يكن يعني الانجرار و الانقياد او ما يسميه البعض بالانبطاح للسلطة ، بل بالعكس فهذا الطرح كان دائما في طليعة النضالات الوطنية المريرة من أجل الديمقراطية ، و دفع ثمنها غاليا ، لكنه في المقابل ظل متشبثا بنسقه الاصلاحي المحض ،و دفع بكل قوة نحو فرض خياره التوافقي للبناء الديمقراطي للوطن .
ان حاجة المغرب اليوم لطرح التوافق و الاجماع الوطني ، هي حاجة اكثر ضرورة من أي وقت سبق ، فالكل يعي ضرورة الاصلاح الديمقراطي و البناء المؤسساتي الذي يضمن الاستمرارية و الاستقرار ، و الكل متيقن ان الاصلاح هو السبيل الوحيد لتمتين قوة المغرب و مناعته، و قدرته على كسب التطلعات و الرهانات القوية التي تنتظره في ظل نسق اقليمي هش و متوتر .
حاجة المغرب لخيار التوافق و الاجماع، هي حاجة لكل مكوناته و لكل طاقاته و لكل اطيافه ، الساعية بحق للمساهمة في بنائه ، وفق أجندة وطنية محظة ،تسعى الى التمسك بكل عناصر إجماعه ، و تطوير بنياته في ظل الإستمرارية و الاستقرار .