علي الغنبوري
مستقبل الدولة غير مرهون فقط بالحكومات التي تتولى تسير و تدبير شؤونها ، و بانظمة الحكم ، بل هو مرهون بالاساس بالقوى المعارضة لهذه الحكومات و لهذه الانظمة ، فهي من يحمل الحلول و البدائل، و هي من يستشرف المستقبل ، و هي من يتطلع الى التغير عبر الوصول الى الحكم .
فوجود معارضة قوية بمبادئها و برؤاها المتبصرة الواضحة و العقلانية ، و برجالاتها و نسائها النزهاء ، هو الاشارة الحقيقية للاطمئنان على المستقبل السياسي للوطن ، وبدون وجود معارضة سياسية وطنية ، منتجة وفاعلة و موضعية ، يصبح الوطن الدولة ملتبس و مشوش.
و عندما نتحدث عن المعارضة ، فاننا لا نعني بالضرورة تلك المعارضة الموجودة في البرلمان و في المؤسسات المنتخبة ، بل نعني المعارضة في شموليتها و عموميتها ، وربما المعارضة الرافضة للعملية السياسية برمتها ، هي المعنية بالمقام الاول بهذا المستقبل .
و اذا جاز لنا الوصف، فان المعارضة “الرافضة” ، هي البديل المستقبلي المفروض، الذي من الممكن ان يراهن عليه الشعب ، و يشكل الاختيار السياسي المطروح لديه للخروج من حالات الانحطاط و الفشل .
و البؤس كل البؤس هو ان تتحول هذه المعارضة ” الرافضة” الى قواقع فارغة تسكنها الطفيليات و الكائنات العدمية ، و الخفافيش التي لا تظهر و لا تنشط الا في الضلام .
من يحاول اليوم ان يظهر تجلي الازمة السياسة ، في البنية السياسية القائمة ، و مكوناتها الفاعلة داخل المؤسسات ، هو واهم يريد ان يخفي الحقيقة و يزيف الوقائع ، فالاخطر من الواقع الحالي هو عدم وجود البدائل الحقيقية لتغير و تطوير هذا الواقع .
ويكفي فقط ان نعرف ان هناك معارضة ترفع شعار “كلشي كحل ديرو الحل” ليتبين لنا بؤس هذه المعارضة و عدميتها ، و عدم قدرتها على طرح البدائل و الحلول الممكنة للبناء و التغير و التطور .
فهي تمارس المعارضة فقط من منطق المعاكسة و المخالفة العشوائية للبنيات القائمة ،دون اي هدف او برنامج محدد ، يضفي عليها المصداقية و المشروعية ،و يجعلها قادرة على ان تشكل بديلا حقيقيا لهذه البنيات ، فهي اقرب الى العدمية من الفعل السياسي العقلاني.
و الاخطر من هذا كله ،هو وجود نموذج اخر للمعارضة “الرافضة” اكثر انتشارا و توسعا داخل المجتمع ، يبني تصوراته و استشرافاته للمستقبل بناءا على الرؤى و الاحلام المنامية ، و يجعل منها توجهات تحدد عمله السياسي ، و تؤطر فعله المعارض .
و هذا الطرح للاسف عاجزعن تقديم الاجابات الضرورية و الحاسمة للتغير المجتمعي و التطور الديمقراطي ، و بكتفي فقط بتوظيف الدين و بنياته ، في كل تحركاته و معاركه السياسية ، دون اي تصور او منظور للمستقبل .
مسؤولية المعارضة و دورها المحوري في البناء المجتمعي و السياسي ، هي مسؤولية مركزية ، تفرض عليها العمل العقلاني و الموضوعي ، و الانخراط التام في تطوير برامجها و ممارستها ، و الابتعاد عن الطروحات العدمية و التصورات الغيبية غير الموضوعية ،بما يجعل منها قوى بناءة ، و قادرة على ان تشكل البديل الحقيقي داخل المجتمع.
ولعل تجربة اليسار الديمقراطي المغربي في المعارضة ، خلال حكم الملك الحسن الثاني ، لخير نموذج على الالتزام و العقلانية و الموضوعية ، التي طبعت ممارسة المعارضة بالمغرب ،و التي وصلت في احيان كثيرة الى حد معارضة البنيات و المؤسسات القائمة انذاك .
فاليسار الديمقراطي عندما مارس المعارضة ، مارسها بمنطق البناء و بمنطق القادر على تشكيل البديل المجرب و الفاعل داخل المجتمع ، حيث ساهم بكل قوة في بناء هيئات التمثيل المجتمعي ، من نقابات و جمعيات ، و مؤسسات فكرية و صحفية و الى غير ذلك من الهيئات التي ساهمت في تاطير الشعب المغربي على قيم الديمقراطية و الوطنية .
ممارسة القمع و الاستبداد خلال ما وصف بسنوات الجمر و الرصاص و رغم بشاعة ما تعرض له اليسار خلال هذه الحقبة ، لم يمنعه ذلك من ، الانخراط في البناء المجتمي العقلاني ، و النضال السياسي الموضوعي ، في سبيل البناء الديمقراطي الوطني ، فهو لم يعارض من اجل المعارضة ، بل كان يمارس النقذ البناء المبني على التقييم الدقيق للوضع و الحلول الموضوعية و القابلة للتحقق في ضل ما يتوفر عليه المغرب من امكانيات و قدرات .
المعارضة ، ليست فقط تصدي للوضع القائم ،و رفض لكل المبادرات و المشاريع الصادرة عنه ،بل المعارضة هي النقد البناء ، و التفكير المسمتر في الحلول و البدائل العقلانية المؤسسة للمستقبل ، و التأطير المتواصل للجماهير الشعبية على القيم الديمقراطية و الوطنية ،و هي كذلك نضال متجرد من الحسابات الانانية و المصالح الشخصية و الفئوية .