علي الغنبوري
من بين المفارقات العجيبة التي عاشها ويعيشها الشعب الفرنسي ، هو موقفه من الماريشال بيتان ، فالفرنسيون غير قادرين على نسيان دور بيتان الكبير في هزيمة الالمان خلال الحرب العالمية الاولى ،كما انهم غير قادرين كذلك على نسيان دوره في الخضوع للاحتلال الالماني خلال الحرب العالمية الثانية و تأسيسه لنظام فيشي المعادي للسامية .
هذا اللبس في الموقف اتجاه الماريشال بيتان من طرف الفرنسين ، دفع عدد كبير منهم الى محاولة تبرير موقف بطل معركة فيردان ، خلال الحرب العالمية الثانية ،و ايجاد المخارج المشرفة له من هذا العار التاريخي الذي ختم مسيرته الوطنية ،فمنهم من ارجع ذلك الى كبر سنه ابان ترأسه لنظام فيشي ، و منهم من الصق ذاك برئيس وزراءه “لافال” المتعاون الاول مع الاحتلال الالماني،لكن اهم تبرير هو ما ساقه الصحفي “روبير ارون ” مؤسسا لما يطلق عليه ” نظرية ” الدرع و السيف” .
تقوم هذه النظرية ، على ان الماريشال بيتان و الجنرال ديغول ، كانا في خندق واحد ، هو مقاومة المستعمر الالماني ،و استرجاع هيبة فرنسا ، واذا كان ديغول مكلفا بتدبير المقاومة المسلحة و قيادة ما تبقى من الجنود الفرنسين من خارج البلاد ، فالماريشال بيتان اوكلت له مهمة مهادنة الالمان و الحفاظ على الدولة الفرنسية و حماية الفرنسين من بطشهم ، في افق استنهاض الهمم و الحفاظ على الوحدة الوطنية و استمرار الوجود الفرنسي ،و اقتناص الفرصة المناسبة للانقضاض على الا لمان و دحرهم .
هذه النظرية ،و رغم مجموع الانتقادات التي وجهت اليها و الى مصداقيتها ، الى انها تحولت الى اسطورة في ذهن عدد كبير من الفرنسيين الذين لا يخفون تعاطفهم مع الماريشال بيتان كاحد رموز فرنسا الكبار .
سرد وقائع ميلاد نظرية ” الدرع و السيف ” ، ليس هنا بهدف الحكي التاريخي حول الحرب العالمية الثانية و الفاعلين بها و ما تمخض عنها ، بل الهدف من ذكرها هو الاستدلال بها لتفسير سلوك حزبي ينهجه حزب العدالة و التنمية داخل الساحة السياسية المغربية .
فالمتابع الجيد لنهج و سلوك حزب العدالة و التنمية، سيلحظ سيره بإيقاعين مختلفين ، ايقاع يظهر فيه المهادنة و التطبيع مع مكونات المشهد السياسي المغربي ، وايقاع اخر لا يترك فيه فرصة تمر دون توجيه مدفعيته اتجاه الكل .
و اعتقاد البعض ، ان الحزب يشهد تنافر تنظيمي بين معسكرين متصارعين ، قد يجد تفسيره ، في بعض التصريحات الصادرة عن بعض اجنحته التي تظهر في طياتها شيء من الاختلاف التنظيمي و السياسي، لكن هذا الاعتقاد سرعان ما يسقط و يتلاشى عندما يتعلق الامر بالانتخابات و موقع الحزب داخلها ، بحيث تختفي كل هذه “الصراعات” ، و يظهر الوجه المشترك بين كل اجنحته و تياراته .
رغم انخراط حزب العدالة و التنمية في قيادة الحكومة منذ سنة 2011،و مسؤوليته، عن مجموعة من القرارات اللاشعبية ، و الاخفقات العديدة في مجال السياسات العمومية، الا انه طور خطابا ملتبسا و مزدوجا ، اتجاه هذه التجربة .
فاذا كان الحزب بشكله الرسمي يدافع عن حصيلته الحكومية ، فمؤسسات و تنظيمات اخرى تابعة له اعتمدت خطابا معارضا و هجوميا اتجاه هذه التجربة الحكومية ، بدون اي حرج او اعتبار لقيادة الحزب لها،و بدون ان يحسم الحزب في هذ الازدواجية.
دفع الحزب بهذه الازدواجية في الخطاب و الفعل السياسي ، لا يرتبط بعدم قدرته على حسم الصراع التنظيمي داخل اجهزته و هياكله، و إلزام الخارجين على خطه السياسي بضرورة احترام قرارات الحزب و مؤسساته المنتخبة، بل يتعلق الامر هنا برغبة اكيدة في الابقاء على كثير من البيض خارج دائرة الممارسة السياسية الشرعية و الاخلاقية ، بهدف الحفاظ على وجوده الانتخابي ، عن طريق استبدال الفئة الضالة بالفئة الصالحة .
هذه الاستراتيجية او هذا النهج ، نستشفه و نلاحظه بشكل متكرر خلال كل المحطات التنظيمية و السياسية للحزب ، حيث يصعب تحديد مواقف الحزب من عدد من القضايا المجتمعية ، فعندما صوت العدالة و التنمية لفائدة قانون التربية و التكوين ، و عندما يتعلق الامر كذلك بالتنصل من مجموعة من الالتزامات الحكومية في اطار الأغلبية الحكومية ، نشهد مسارعة بنكيران لقصف الكل و توجيه الاتهامات في جميع الاتجاهات دون ان نرى اي ردة فعل رسمية للحزب اتجاه ما قاله او صرح به بنكيران .
بل الادهى من ذلك ، فان الحزب يخصص اعلامه و الياته التواصلية لابرزا و اخراج مواقف بنكيران و من معه في قالب يجعلها تبدو و كانها مواقف رسمية له ، بل نشاهد كذلك كيف يتم القفز على المؤسسات “الشرعية ” للحزب لتوفير الغطاء التنظيمي لتصريحات بنكيران ، من خلال الزيارات التي تنظم لبيته من طرف اجهزة الحزب و مؤسساته الموازية ، و لعل اخرها، زيارة المكتب التنفيذي لحركة التوحيد و الاصلاح .
من السذاجة بما كان اعتبار الخلافات الظاهرية التي تطفو على سطح حزب العدالة و التنمية بين الفينة و الاخرى، مجرد خلافات او ردود افعال تنظيمية من هذا الطرف او ذاك ، فهي لا تخرج عن دائرة ما سبق التذكير به ، خاصة و ان غالبيتها لا تحمل أي بعد تنظيمي موضوعي او سياسي ، فهي خلافات للاستهلاك الاعلامي ، و لخلق الالتباس داخل المشهد السياسي من خلال الانقسام في تبني المواقف و الادوار ، فتجد داخل نفس الحزب من يتبنى الموقف و من يتبنى نقيضه كذلك ، ليس انطلاقا من منطق الاختلاف و التنوع في الآراء و الافكار داخل التنظيمي الحزبي ، بل انطلاقا من منطق التشويش السياسي و امتصاص الضربات التي قد توجه للحزب وكذلك استباق الانتقادات التي من الممكن ان تطال الحزب جراء ممارسته السياسية، من خلال تعويمها و جعلها تبدو عادية ، لكن هذا الاختلافات و الصراعات تختفي بمجرد ما يتعلق الامر بالركائز الاساسية للمشروع المجتمعي للحزب الاسلامي ، و يصبح الكل كتلة واحدة و موحدة .