الروائي الإيطالي الذي تصور عالماً بدون بشر

ليلى أحمد حلمي

جيدو مورسيللي
أقدَمَ الكاتبُ الإيطالي “جيدو مورسيللي” عام 1973م على إطلاقِ النار على رأسه، ليلقَى حتفه بعد وقتٍ قصير من رفض الناشرين لروايته الأخيرة، كما حدث مع رواياته الأخرى من قبل. ترك مورسيللي على مكتبه عددًا من خطابات الرفض، ورسالةً مختصرةً تقول: “لا أُكِنُّ أي ضغينة لأحد“، فكانت لافتة من تلك التي قد يُقدِم عليها أحدُ أبطالِه تعبيرًا عن لا مبالاةٍ ساخرة تناقض ألمًا عميقًا وواضحًا. كان مورسيللي في الستّين من عمره، وقبل أن يعود إلى منزل أسرته في مدينة “فاريزي” لإنهاء حياته، كان يعيش في شبه عزلة لعقدين من الزمان في منزلٍ له بمقاطعة “لومباردي”، بالقرب من الحدود الإيطالية السويسرية، حيث كان يعمل بأرضه، وينتج النبيذ، ويكتب الكتب التي واجهت احتمالات متضائلة للنشر. وكان آخر كتابٍ ينتهي منه مورسيللي يحكي قصةَ حدثٍ فنائيّ تختفي على إثره الإنسانيّة بأكملها، ليبقى رجلٌ واحدٌ فقط شاهدًا على العالم.

مكتب جيدو مورسيللي
صدَرَ كتابُ “ديسيباتيو هـ.ج.” (من دار NYRB للكلاسيكيّات) مؤخرًا باللغة الإنجليزية، ترجمة “فريدريكا راندال”، وهي صحفيّة وَلَجت مجال الترجمة في أعقاب مشاكل صحيّة أصابتها، نَجَمت عنها السّقوطُ. تبدأُ الحبكةُ بمحاولة انتحار فاشلة؛ حيث يحيا الراوي -الذي لا اسم له- حياةً وحيدةً في ملاذٍ تحيط به المراعي والأنهار الجليدية، فيتّجه في ليلة عيد ميلاده الأربعين إلى كهفٍ بنيّةِ إلقاء نفسه في بئرٍ يؤدي إلى بحيرة تقع تحت الأرض، وكان تبريره: “إن السلبيات فاقت الإيجابيات. على مقياسي أنا الشخصي. بمقدار 70%. هل كان هذا دافع تافه؟ لست متأكدًا“.

ديسيباتيو هـ.ج.

لم يكن ما أصاب الراوي وهو جالسٌ على طرفِ البئر استنفادَ شجاعته، وإنّما تشتت ذهنه، فكان المزاجُ في غيرِ محلّه؛ إذ وجد نفسه هادئًا، صافي الذهنِ، ومبتهجًا بما لم يتناسب مع الاستمرار. كان يحمل كشّافًا، يظل يُشعله ويُطفئه، وبينما “تتدلّى قدماه في الظلام”، أخذ يرتشف من مشروب البراندي الذي جاء به، ثم أخذَ يتأمَّل في جودة النوع الأسبانيّ الذي يتفوق على النوع الفرنسي، متسائلًا عن غياب التقدير بهذا القدر. وقبل أن يخرج من الكهف، يصطدمُ رأسُه بصخرةٍ، ويسمع صخب الرعد، إنها أولى عواصف الموسم. يعود الراوي إلى منزلِه، يستلقي على سريره مرتديًا ملابسه، وقد شَعَرَ بالغضب من هذا التغيير المفاجئ لخططه؛ فيلتقط مسدّسًا، وهو يفكر في حلٍّ أيسرٍ، يرفُع فمَ المسدسِ إلى فمِه، ويُطلقُ النارَ مرّتين، لكنَّ المسدسَ لا يضرب، فيخلد إلى النوم.

في اليوم التالي، يرى الراوي من نافذةِ المطبخ على مسافةٍ بعيدةٍ سيارةً مقلوبةً، فيهرع لتقديم المساعدة، ظنًا منه أنّه بذلك قد يبدأ من جديد، وبشكلٍ ما “يعودُ إلى الأحياء” كما قال. ينهَمِرُ المطرُ بغزارةٍ، وعندما يصل إلى جدولٍ صغيرٍ فاضت مياهُه، يستدير عائدًا إلى منزلِه بدلًا من محاولة عبوره، وبعد أن يغيِّرَ ملابسَه، ويحتسي بعضَ القهوةِ، يمشي إلى أقرب قريةٍ لإبلاغ الشرطة بالحادثة، لكن قسمَ الشرطة خالٍ، كما الجراجات والفنادق، وما بدا لأوّل وهلة كأنه عطلة وطنية، سرعان ما يتحول إلى أمرٍ مقلقٍ للغاية. يجوب الراوي من قريةٍ إلى أخرى، ولا يلتقي أيّ إنسانٍ، ثم يعثرُ على عددٍ من السيارات التي ظلّت تعمل، فيركب إحداها، وينطلقُ إلى أقرب مدينة، اسمها كريسوبوليس، على أمل أن يجد تفسيرًا لهذا الاختفاء الجماعيّ، إلا أن هذه المدينة خاويةٌ على عروشها أيضًا، وقد أغلقت واجهاتُها الملساء نوافذَها.

وُلِدَ جيدو مورسيللي عام 1912م في مدينة بولونيا، ونشأ في أسرةٍ موسِرَة الحال في مدينة ميلانو، فكان والدُه مديرًا تنفيذيًا لشركة أدوية، وعضوًا في حزب موسوليني الفاشي. وعندما بلغ مورسيللي العاشرة من عمره، تم إدخال والدته إلى المستشفى لوقتٍ طويل نظرًا لإصابتها بالإنفلونزا الأسبانية، لكنّها توفِّيَت بعد عامين. أمضى مورسيللي فترة المراهقة وأُولى سنوات نضجه في محاولاتٍ بائسة لإرضاء آمال والده، ثم مُحبِطًا آمالَه في حياة ابنه المهنيّة، فدرس القانون، وبعد فترةٍ قصيرة في الجيش، التحقَ بوظيفةٍ لم تدُمْ طويلًا في شركة كيماويات. في أعقاب وفاة شقيقته، بدأ مورسيللي في تلقِّي مصروف من والده، وقرر تكريس وقته للكتابة، فنشر كتابين، ومقال طويل، وحوار فلسفيّ، إلا أن كافة محاولاته في كتابة الرواية لاقت الرفض. وفي عام 1974م، وبعد انتحاره بفترةٍ قصيرة، أصدرت دار أديلفي، وهي من أهمّ دور النشر في إيطاليا، رواية مورسيللي “روما بلا بابا“. كان جيدو مورسيللي قد ألَّف الروايةَ عام 1966م، في إطارٍ سرياليّ، حيث تحكي الروايةُ قصةَ أحد الباباوات الخياليين، الذي يترك الفاتيكان، فيحيا في ضواحي روما، حيث يهتمّ بلعب التنس، ويتناول المهلوسات. وجاءت عروض الكتب النقديّة متحمِّسةً للرواية، فتمّ نشر المزيدِ من الروايات خلال سبعينيّات وثمانينيّات القرن العشرين، ليصبح مورسيللي بعد وفاته واحدًا من أبرز كُتّاب إيطاليا في مرحلة ما بعد الحرب.

تنقَّلَ مورسيللي من نوعٍ أدبيٍّ إلى آخر، إلى أن استقرّ على كتابة روايات ما بعد الفناء، فجاءت النتائج مثيرةً، وإن كانت متفاوتة. تأتي رواية Divertimento 1889، والتي صدرت باللغة الإنجليزية في الثمانينيّات، وحازت على إعجاب شيرلي هازاد، روايةً هزليةً لفترةِ البيل إيبوك، وتدور أحداثُها حول محاولة ملك إيطاليا أمبرتو الأول -الذي حكم في الفترة من 1878م إلى 1900م عندما تعرَّض للاغتيال على يدِ فوضويّ- في الذهاب متخفّيًا في رحلةٍ إلى جبال الألب في سويسرا. تتميَّز الرواية أحيانًا بالمرح، وكثيرًا بالعفوية، وكأنَّ المؤلِّف كان يحاول محاكاة ضحالة موضوعه.

ولعل أفضل روايات جيدو مورسيللي هي رواية “الشيوعي“، والتي صدرت عن دار نشر NYRB للكلاسيكيّات عام 2017م، بترجمة راندال أيضًا. تدور الرواية حول قصة والتر فيرانيني، وهو شيوعي إيطالي يُناهِض فرانكو في أسبانيا، ويعيش لفترةٍ في الولايات المتّحدة قبل عودته إلى إيطاليا، حيث ينضم إلى البرلمان، ومع تطور عمل فيرانيني السياسي مبتعدًا عن العمل الشعبي الذي جعله راديكاليًا، يجد فيرانيني نفسه منجرفًا، فتّتَحِد الأزمَاتُ السياسية والشخصية وتنهمر عليه. وعلى الرغم من أن والد مورسيللي كان عضوًا في البرلمان، إلا أن تورُّط مورسيللي ذاته في السياسة فيما يبدو ظلَّ محدودًا. على الرغم من ذلك، فإن الكتاب يُعَد من أقل أشكال التصوير تحقيرًا لسياسيٍّ قد تتخيله؛ حيث يعمل على إبراز التقاطعات بين حيواتنا الخاصة والعامة، لتختلط رواية الأفكار بالواقعية الاجتماعية. وتأتي نبرة الرواية حزينة، تذكِّرنا بالكاتب الإيطالي “سيزار بافيزي”، المُعاصِر لمورسيللي، والذي قَتَل نفسه بابتلاع جرعة زائدة من الحبوب المنوِّمة وهو في الحادي والأربعين من العمر.

أمّا رواية “ديسيباتيو هـ.ج“، وعلى الرغم من فكرتها الخيالية، فإنها ربما الكتاب الأكثر سيرة ذاتية؛ فالراوي المثقَّف صاحب الوعي الذاتي العصابي، هو صحفي سابق، زهَدَ الدنيا لينعزلَ للكتابة، لذا فهو يمثِّل شخصيةً بديلةً للكاتب. يأتي عنوان الرواية من عبارةٍ يدَّعي الراوي أنّه استعادَها من نصٍّ قديمٍ للفيلسوف السوري يامبليخوس، ذي النزعة الأفلاطونية الجديدة، وتشير العبارة إلى إمكانية تبخُّر الجميع ببساطة، (ويضيف الراوي شارحًا: “إن يامبليخوس كان “أقل كارثية عن غيره من الأنبياء”). وبينما يسير الراوي في طرقاتِ مدينة كريسوبوليس، يشاهد دجاجةً تمشي فرِحَة، ومجموعةً من القطط تتزاوج على السلم المؤدي إلى مصرف، ويجول بخاطره أن “العالم لم يكن قط بهذه الحيوية التي ألفها منذ اختفاء جنس من ذوات القدمين“. لم يحب المدينة قط، وفي القرية القريبة من ملاذه، يجلس وحيدًا على مقعدٍ خشبي، ويصبح مفرط الانتباه لتلك الأصوات التي تزيِّن الصمتَ السائد، من ماسورة صرفٍ تقطر، إلى إشارة مرور تغيَّرَ ضوؤها.

ونجد تلميحاتٍ بأن أمرًا يفوق الخيال قد وقع، يرتبط ربما بالعاصفة التي بدأت بينما كان الراوي داخل الكهف، لكنه سرعان ما يكف عن أعمال البحث للتعرف على ما حدث؛ وذلك ليتفرغ لوصف المشاهد الطبيعية وتأملاته عن دوركهايم وباسكال وهيجل وغيرهم. ينطلقُ باحثًا عن عمّال المناجم، اعتمادًا على نظريةٍ بأن الكهف ربما عمل على حمايته ممّا يطلق عليه الحدث، لكن القارئ يستشعر أنه ربما يبحث عما يسليه أكثر منه عما يميط اللثام، وأيًا كان ما نجم عنه اختفاء الجنس البشري، فالسبب يظل خفيًّا عليه.

لا أملكُ أي من تمنيات العلم، أو أي من تمنيات الخيال العلمي أيضًا، ولا أرجع إلى الإبادة الجماعية بأشعة الموت، أو بالأوبئة التي تتفشى في أرجاء الأرض على يد أهل كوكب الزهرة الأشرار، أو بسحب الرماد النووي الناتج عن قنابل هيدروجينية بعيدة. لقد استشعرت فورًا أن هذا الحدث لا يمكن قياسه بالمقاييس العادية.

عادةً ما تعمل القصص التي تتناول انقراض البشرية على التصوير الدرامي لعملية الانحلال، لتضفي دروسًا عن هشاشة الحضارة، وسهولة تدمير الإحساس بالمجتمع عندما يشعر الناس باليأس. تصوِّر رواية ماري شيلي “الرجل الأخير” التي نشرت عام 1826م، وهي من أوائل الروايات الفنائية الحديثة، فشلَ الإنسانية في مجابهة وباء عالمي، مما ينجم عنه صراع بمفهوم الفيلسوف هوبز، فلا ينجو سوى بطل الرواية الذي يظهر في عنوانها. ولعل مسار السرد هذا أمسى الآن مألوفًا، إلا أن جيدو مورسيللي يتخلى عن دراما انخفاض السكان، فيختزل فكرة النوع الأدبي إلى جوهرها وعواقبها، أي أنّ بطلَ الرواية ليس شخصًا يعتزُّ بالعلاقات الاجتماعية، وإنما منعزل عاش طويلًا في حالة تباعدٍ اجتماعي، بل وراودته فكرة تدمير الذات. وفي ضوء وجهات نظر الراوي -بل ومورسيللي- عن المجتمع المعاصر، وجهوده الحثيثة للقضاء على كافة أشكال الاحتكاك الدنيوي، فإنه يمكن لنا أن نرى في نهاية العالم هذه شكلًا من أشكال تحقُّق رغبة جماعية. فمن الأسئلة التي يبدو أن مورسيللي كان منشغلًا بها: كم كان الجميع على قيد الحياة في الأصل؟

وحيث أنه لا يملك ما يفعله سوى السير في أرجاء المكان وملاحظته، فإن الراوي يجد نفسه متعجِّبًا من بعض الأشياء التي تركها الناس وراءهم، أو على الأقل متعجبًا من بقائها المتعنّت مع غياب البشر. يبدأ الراوي، الذي يعرّف نفسه بأنه يعاني “رهاب الكائنات الإنسانية”، في الشعور بتعاطفٍ غير متوقع مع أخيه الإنسان، فيقول عن ذلك الشيء الذي أخفى كل الآخرين: “لقد انتظرته أن يأتي ويكيل لي ضربته”.

“فلتقض عليّ، إذ بدا واضحًا لي أن دوري قد اقترب. لقد صدر الحكم ضدي، ووراء أسواري انغمرَ كلُّ شيءٍ في سائل الموت، وانغمرت فيه أيضًا، مثل كبسولة غوصٍ في أعماق البحار. ولابد لهذا السائل، بفعل التناضح، أن يتسلل عبر جدراني، فأمسى جزعي واعيًا ومركّزًا، وليس هائجًا، وكنت حاضرًا لذاتي”.

إلا أن الانفراطَ في الانتباه سرعان ما يفسح المجال لبلادة وقنوط؛ فنجد الراوي يهمل في ذاته، ويحلق ذقنه أقل فأقل، ويترك حوض المطبخ ينسد، ولا يغيّر ملاءات السرير، ويتحول إلى تناول الحلويات بنهم، فيتلذّذ بأكل الشيكولاتة والفطائر، ويهجر الكتابة في يوميات كان للتو استهلَّ التدوين فيها.

ظاهرة مفاجئة وغير مرئية، أفرغت طرقات المدن والقرى، دون جلبة أو وداع، تاركةً بطل الرواية في حالة من النسيان الوجودي، وتلك الأصداء التي يجدها القارئ في رواية “ديسيباتيو هـ.ج.“، أصداء الحياة في ظل وباء الكورونا، صارخة في بعض الأحيان، حتى يخيل للقارئ أن بعض الفقرات إنما نسخ روائية من حاضر نعيش فيه، فكثيرًا ما يتم إعادة استكشاف الروايات الفنائية خلال الكوارث، سواء لبصيرتها الهائلة، أو لأنها -بشكلٍ غريب- تضفي الطمأنينة. ويبدو أن كل مرحلة من مراحل الحجر ممثلة في هذه الرواية القصيرة، من المتعة قصيرة الأجل عندما استعادت الطبيعة ما كان لها، إلى الدافع الغامض بتدوين الملاحظات، والعبثية المتنامية للتأنق.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *