علي الغنبوري
لا اعتقد ان هناك عاقل في المغرب قد يختلف او يشكك في الدوافع التي اخرجت ساكنة مدينة الحسيمة للاحتجاج ، فمنظر محسن فكري محطم العظام داخل حاوية للازبال ، هز ليس فقط الحسيمة لوحدها بل كل المدن المغربية .
فتلك الصورة المؤلمة، فتحت اعين الجميع على انها لم تكن سوى الشجرة التي تخفي الغابة الكبيرة من المشاكل و الاختلالات و الرواسب التاريخية السلبية الي تتخبط فيها المنطقة برمتها.
مطالب المحتجين الاجتماعية و الاقتصادية ، اقر الجميع بشرعيتها و بمسؤولية الدولة بجميع مكوناتها عنها ، و حتى الدولة نفسها اقرت هذه المطالب و اعترفت باخطائها اتجاه المتطقة ، من خلال لجنة تقصي الحقائق التي ارساها الملك ، و التي حددت المسؤوليات و الاختلالات التي واجهتها المشاريع التنموية الموجهة للحسيمة و محيطها.
و اتذكر جيدا كيف هتف معتقلوا الريف داخل المحكمة باسم الملك ، فرحا بما تمخض من نتائج عن هذه اللجنة، من عزل و اجراءات عملية في حق مجموعة من المتورطين في هذا التقصير و الاختلال الذي طال الريف .
الى هنا يمكن القول ان المنطق كان يقتضي ،تسوية الملف بسلاسة مطلقة ، و ارجاع الامور الى نصابها ، و تمكين المعتقلين من حريتهم ، في افق الطي النهائي لهذا الملف ، لكن الوقائع على الارض و الميدان كان تحمل كثيرا من الجزئيات و التفاصيل ، التي دفعت الى تعقيد الملف و اخراجه من مستواه الاجتماعي الصرف الى مستويات اكثر التباسا و ضبابية .
صحيح ان خروج ساكنة الحسيمة و ضواحيها ،كان من اجل رفع التهميش و الاقصاء التنموي عن المنطقة ،و الذي تعاني منه كذلك مناطق كثيرة في المغرب ،و التي ربما الريف يبقى اقل وطأة مما تعانيه هذه المناطق ، لكن هذه الهبة الشعبية لم تكن في مجملها ذات طابع اجتماعي، بل تخللتها كثير من المساحات الرمادية التي حاولت مجموعة من الاجندات الملتبسة صبغ الحراك بها .
و على سبيل الذكر لا الحصر ، ما معنى ان يتجول الزفزافي بحراس امن خاصين و بواقي ضد الرصاص ؟ و ما معنى رفع علم “جمهورية الريف” في كل التظاهرات و غياب العلم المغربي عنها؟ و ما معنى اطلاق تصريحات من قبل الاستعمار الاسباني ارحم من الاستعمار العروبي؟ و ما معنى اقتحام المساجد و تعطيل الصلاة ؟ و ما معنى دخول المال الاجنبي الى الحراك؟ و ما معنى الخروج ابتهاجا بخسارة المنتخب المغربي؟ و ما معنى رفض المشاريع السياحية بالقول ” غادي يجيو السواعدة يفسدو ” ؟ و ما معنى الخطابات العنصرية التي كان يدائب الزفزافي على اطلاقها في كل خرجاته ؟ و ما معنى تصريحات الزفزافي بإعمال الشريعة الاسلامية ؟ و ما معنى التصريحات التي كانت تنطلق من قلب الحراك بتشتيث المغرب و تقسيمه؟ و ما معنى جلوس قادة الحراك مع موظفي السفارات الاجنبية بالمغرب و عملائها؟
طرح هذه الاسئلة، لا يعني اني احاول ايجاد المبررات لتدخل الدولة كجهاز قمعي ، قد اكون يوما ما ضحيته ، لكني ادافع عن ادوار الدولة في توفير الامن ، و في تحصين التراب الوطني من كل الاجندات المشبوهة الموجهة لضرب وحدته ، و في السهر على حسن سير المؤسسات ، و ضمان الوحدة الوطنية ، بما يتيحه القانون و الدستور .
استمرار مسلسل تشبيك خيوط هذا الملف ، لن يتوقف عند هذا الحد ، بل سيستمر بشكل اكثر تعقيدا و المعتقلون داخل اسوار السجن ، فتابعنا كيف احتضن دعاة الانفصال باوروبا اب ناصر الزفزافي ، و كيف صال و جال في معظم هذه الدول ،و كيف فتحت له ابواب البرلمانات و المؤسسات الاوروبية ، و كيف لم يتوانى في مهاجمة المغرب ، داعيا الدول الاوروبية للتدخل في شؤون المغرب ، من اجل اطلاق سراح ابنه .
تابعنا كذلك تراجيديا تسريب التصريحات المنسوبة لناصر الزفزافي من داخل السجن ، و كيف كانت تنقل الى الراي العام من طرف بعض محاميه ، و والده الذي كان يصر ان يعطيها طابع التوجيهات الموجهة للريفيين على وجه الخصوص، و كان الامر يتعلق بزعيم جماعة يوجه الرسائل المشفرة لانصاره و اتباعه من اجل التحرك و مواصلة التهييج .
الكل كذلك تابع الصمت المريب الذي التزمته معظم الفعاليات الحقوقية و السياسية المقربة من هذا الملف ، حول المواقف الانفصالية المعادية للوحدة الترابية المغربية ، التي يقودها بعض المحسوبين على الريف بالخارج ، و كيف كانت ترفع لهم شارات النصر، و كيف كانو يعتبرون ضحايا و ذويي حقوق .
و حتى محاولات الحوار التي قادها مجموعة من الفعاليات و الشخصيات الحقوقية و السياسية مع المعتقلين ، رأينا كيف كانت تتكسر بمجرد ان يلوح شعاع ضوء في الافق ، بتصريحات و بخرجات و اعمال متهورة لبعض المعتقلين و للمحيطين بهم خارج السجن .
ضبابية الملف ستزداد التباسا ، عندما قرر بعض معتقلي الريف و على رأسهم ناصر الزفزافي ، اعلان تخليهم عن الجنسية المغربية و خلعهم البيعة للملك ، و هو التصرف الذي جعل حتى اكثر المدافعين عن هذا الملف يراجعون مواقفهم و يطرحون الاسئلة حول الخلفيات و الدوافع الحقيقية لهؤلاء المعتقلين .
تشبيك هذا الملف ، غير مقتصر فقط على المعتقلين و من يقف خلفهم ، فحتى الدولة و ان كانت تقف موضع المدافع عن قراراتها و خطواتها ، فانها بلا شك ارتكبت مجموعة من الاخطاء زادت من تعقيد هذا الملف ، فلا تفسير ممكن لتسريب صور الزفزافي المهينة و هو يخضع للتحقيق ، و لا تفسير كذلك للخرجات اللامعقولة لمندوبية السجون ، و تجاوزها لادوارها المتمثلة في كونها مؤسسة ادارية تعنى بالسجون و السجناء ، الى خوضها في امور تصنف بشكل رئيسي في خانة السياسة، و لا مبرر واضح للدولة عن الامتناع عن اطلاق حوار جاد و مسؤول مع ساكنة الريف حول القضايا و الهموم و المشاكل التي يواجهونها .
الريف هو جزء لا يتجزء من المغرب ، وبطولاته وامجاده هي ملك للمغاربة جميعا ،مثله مثل باقي مناطق البلاد التي شهدت ملاحم و بطولات ، شكلت المشترك الجمعي للهوية و التاريخ المغربي المجيد .
المغرب اليوم محتاج لكل ابنائه و بناته و قوته و مناعته ،التي لن تحققها الا وحدته و تضامن معظم مكوناته و فئاته من شماله الى جنوبه ، من ريفه الى صحرائه ، و حل ملف الريف لن يكون الا باستحضار القيم الوطنية الصادقة ، و بنبذ كل اشكال الانفصال و التطرف ، و بالمصالحة مع الماضي و الحاضر ، و طي صفحة كل ما من شأنه ان يهدد وحدة و استقرار البلاد .
فلا احد اليوم من مصلحته استمرار اعتقال و حرمان هؤلاء الشباب من حريتهم فهم ابناء هذا الوطن مهما كانت اخطاؤهم و مواقفهم، لكن الكل اليوم مطالب باستحضار العقل و الحكمة في التعاطي مع هذا الملف و الابتعاد عن كل اشكال المساومة و القفز عن الحقائق ، و الاعتراف بالاخطاء ، و التمسك بعناصر الاجماع الوطني ، الضامنة لاستقرار و استمرار المغرب .