علي بنستيتو
في الصباح الباكر من سادس نوفمبر 1975، تحركت حشود المتطوعين والمتطوعات في نظام وانتظام، مشيا على الأقدام، في اتجاه النقطة الحدودية مع الصحراء، التي تحمل إسم،”الطاح”، وتقع على بعد كيلومترات قليلة من مدينة طرفاية، وهي نقطة سبق لي أن زرتها رفقة بعض الصحفيين أياما قليلة قبل انطلاق المسيرة، والتقطنا بها صورا تذكارية، وجدناها خالية من أي تواجد عسكري أو أمني اسباني، إذ كانت القوات الاسبانية قد تراجعت لمسافة بعيدة نسبيا داخل الأراضي الصحراوية.
أخذت الحشود الأولى من المتطوعين أماكنها على بعد أمتار قليلة من السياج الحدودي، في صفوف متراصة وفي نظام محكم ومؤطر من قبل عناصر من الدرك ورجال السلطة، رافعين الأعلام الوطنية وصور الملك والمصاحف، مرددين شعارات حماسية تؤكد مغربية الصحراء ومباركة المسيرة الخضراء.
في ذلك الصباح قام بعض العمال بتثبيت أعمدة حديدية على شكل بوابة كبيرة، ووضعوا فوقها صورة كبيرة لمهندس المسيرة الملك الراحل، الحسن الثاني، وهي البوابة التي سيمر منها بعد قليل الوفد الرسمي الذي سيعطي الانطلاقة للمسيرة.
كان المشهد سرياليا يطبعه الترقب والتشويق. بعد لحظات بدأت تصل تباعا طلائع سيارات موكب كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، يتقدمهم الوزير الأول، أحمد عصمان. كانت تتواجد أيضا بعض الوفود العربية والافريقية والأجنبية وممثلو الأحزاب السياسية الوطنية والعديد من الفعاليات الجمعوية وطنية وأجنبية. كما كانت تتصدر المشهد أعداد كبيرة من الصحفيين وممثلي وسائل الإعلام الأجنبية والمحطات التلفزية، وفي مقدمتهم الصحافة الاسبانية، التي كان حضورها وازنا في هذا الحدث الكبير.
كل الاهتمام كان مركزا على ما سيفوه به أحمد عصمان، الذي كان بدوره ينتظر أن تصله، عبر جهاز الراديو المحمول، الإشارة من الملك، الذي كان يتواجد بالقصر الملكي بأكادير، ليعطي إشارة الانطلاقة للمسيرة.
وما هي إلا لحظات، حيث كانت عقارب الساعة تشير إلى حوالي العاشرة صباحا، حتى سمع من كان يقف بالقرب من الوزير الأول، عبر مكبر الصوت، صوت الملك الراحل، يقول: ” بسم الله مرساها ومجراها…عصمان خذ المقدمة”، فتحرك الحاضرون عبر البوابة الرسمية، لتتعالى على التو الأصوات والهتافات مرددة الشعارات الحماسية، وبدأت الصفوف الأولى للجماهير المتراصة في التململ، متحركة صوب الأراضي الصحراوية ومخترقة للحدود الوهمية كالنهر الهادر، مرددة شعارات المسيرة وملوحين في أياديهم بالراية المغربية.
في الآن ذاته، بدأ يصدح صوتا شيخ الإذاعيين، محمد بن ددوش، رفقة زميله، الإعلامي التلفزيوني المتألق، الصديق معنينو، من فوق سيارتين مجهزتين بأدوات النقل الإذاعي، يصفان مشهد انطلاق المسيرة الخضراء بعبارات ملؤها العواطف الجياشة، يرددان عبارة “الله أكبر… الله أكبر”، وإسم الملك الحسن الثاني مقرونا بعبارة، “مبدع المسيرة وقائدها”، وهي العبارة التي صارت فيما بعد تؤثث الخطاب الإعلامي في وسائل الإعلام العمومي كلما جرى الحديث عن استرجاع الصحراء.
بعد اختراق الحدود عبر مركز “الطاح”، حيث جرى تثبيت العلم المغربي فوق بنايته، واصلت جموع المتطوعين زحفها مشيا على الأقدام فوق رمال الصحراء الناعمة، في حماس منقطع النظير، بينما كانت زغاريد النساء المشاركات تصدح عاليا وهتافات الجماهير تتردد مكبرة ومهللة. كان مشهدا مهيبا، رائعا في تضاريسه المتناسقة، غابة من الأعلام الوطنية تلوح بها جموع المتطوعين والمتطوعات، رافعين الصور الملكية والمصاحف … ، مشهد بدا وكأنه لوحة عجيبة، مزركشة بمكوناتها البشرية وتناسق ألوانها الطبيعية وسط رمال الصحراء الناعمة، لوحة حقيقية، يعجز الخيال عن وصفها. تلك المشاهد الرائعة دخلت التاريخ من خلال الصور التي ألتقطها المصورون المواكبون للمسيرة بعدسات كاميراتهم وأصبحت تؤثث الوثائق الورقية ومواقع الشبكة العنكبوتية، كلما تعلق الأمر بالمسيرة.
وبينما كان المتطوعون يتوغلون رويدا وريدا في عمق الصحراء، كانت بين الفينة والأخرى، تظهر في السماء، بعض المروحيات التابعة للجيش الاسباني، حيث كانت تقترب من الصفوف الأمامية للمتطوعين، محلقة على علو منخفض، كما لو كانت تستعد للهبوط على الأرض، بينما هي في واقع الأمر كانت تصور وتلتقط أدق التفاصيل لما يحمله المشاركون في المسيرة. ودون ذلك، لم يكن يظهر بالعين المجردة أي تواجد أو تجمع للقوات المسلحة الاسبانية، إلا بعد أن قطعت المسيرة نحو 8 إلى 10 كيلومترات في عمق التراب الصحراوي، عندما تلقى المتطوعون الأمر بالتوقف، حيث بدأت تظهر من بعيد مواقع الجنود الاسبان منتشرين على مسافات متباعدة.
على مستوى التغطية الإعلامية، وفي غياب الوسائل التقنية لتأمين النقل المباشر لأخبار المسيرة، كان على الفريق الصحفي للوكالة المتواجد في الميدان ابتكار بعض الطرق البسيطة التي تساعد على اختصار المسافة الزمنية وإيصال أخبار المسيرة إلى مقر الوكالة بالرباط بأسرع ما يمكن ليتم بثه على شبكتها الوطنية والدولية.
فقد كان علينا أن ننتظم على شكل سلسلة، تتكون حلقاتها من مجموعات، كل واحدة تضم صحفيين إثنين، يقومان، كلما تجمعت لديهما جملة من المعلومات والعناصر الإخبارية الجديدة عن المسيرة، بالانتقال على وجه السرعة بواسطة سيارة خاصة، إلى المركز الإعلامي بطرفاية، قصد إعداد تقرير صحفي باللغتين العربية والفرنسية ونقله بواسطة الهاتف إلى التحرير المركزي، ليتم بثه عبر شبكة الوكالة في الداخل والخارج، تاركة وراءها في الميدان عناصر مجموعة أخرى لمتابعة المستجدات، وهكذا دواليك.
سرنا على هذا المنوال طيلة يوم السادس من نوفمبر، بدءا من انطلاق المسيرة، إلى أن صدرت الأوامر للمتطوعين بالتوقف عن السير، وقضاء الليل وسط الصحراء. وبتلك الطريقة تمكن فريق الوكالة من مسابقة الزمن وتوفير التغطية الملائمة لمجريات المسيرة الشعبية.(يتبع).
صور للمك الراحل من أكادير أثناء إعطائة إشارة إنطلاق المسيرة والثانية لعصمان لحظة إنطلاق المسيرة والثالثة والرابعة لحشن من المشاريكين وقد بدت أعلام بعض البلدان العربية والافريقية.