الفساد..حكاية آفة مجتمعية عبر التاريخ

لا تستعجب إذا ما قلت لك: إن الفساد ما برح قائماً منذ السلالة المصرية، ولا يزال قائماً في كل بلد تقريباً في جميع أرجاء العالم. بعد فضائح فساد ضخمة في ماليزيا والبرازيل؛ شهدت إندونيسيا للتو خسارة إحدى أقاليمها لأكثر من 90% من أعضاء مجالسها؛ لتورطهم في قضايا الكسب غير المشروع. بالنظر إلى التاريخ؛ يبدو الفساد حتمياً.

الخرافات القديمة حول الفساد

يعرِّف قاموس أكسفورد الفساد بأنه: « سلوك غير صادق أو مخادع من قِبل أولئك الموجودين في السلطة، وعادة ما ينطوي على الرشوة ». أصل كلمة الفساد في اللغة الإنجليزية « corruption » من الكلمة اللاتينية « corruptus » وهي النعت الماضي من « corrumpere » التي تعني بدورها « أفسد ورشا ودمّر ».

الفساد قديم قدم التاريخ البشري. ذكرت الأسرة الأولى في مصر القديمة (3100-2700 قبل الميلاد) الفساد في نظامها القضائي. وُجِدت هذه الممارسة أيضاً في الصين القديمة، في الأساطير الصينية كل بيت لديه إله مطبخ يراقب سلوك أعضائه. قبل أسبوع من السنة الصينية الجديدة، يصعد إله المطبخ إلى السماء ليقدم تقريره السنوي إلى حاكم الجنة، الإمبراطور جايد.

يعتمد مصير الأسرة -والذي يتمثل في المكافأة أو العقاب- على هذا التقرير. وفي محاولة لضمان الحصول على تقرير جيد، تلطخ العديد من الأسر كعكة من السكر والعسل على صورة إله المطبخ التي يعلقونها في منازلهم قبل حرق الصورة، وهي الطريقة التي يمكن بها لإله المطبخ أن يصعد إلى السماء للقاء الإمبراطور جايد.

وعلى نفس المنوال، يذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت أن عائلة الكامونيون قد رشت كاهنات أوراكل دلفي [1]، وهي إحدى أقوى القوى الغامضة في اليونان القديمة. يعود تاريخها إلى عام 1400 قبل الميلاد، وقد جاء الناس في جميع أنحاء اليونان وخارجها للحصول على إجابات لأسئلتهم من قبل بيثيا، كاهنة أبولو العليا. عرضت عائلة الكمونيون الغنية لإعادة بناء معبد أبولو ببذخ مع « رخام باريان » [2] بعد أن دمره الزلزال. في المقابل، أقنعت بيثيا الدولة القومية أسبرطة بمساعدة أسرة الكمونيون على قهر وحكم أثينا. وبنجاح ذلك، أشار أرسطو أنه حتى الآلهة يمكن رشوتهم!

الفساد حول العالم

مع توسع الاقتصاد العالمي بشكل كبير خلال القرن العشرين؛ ازدادت مستويات الفساد أيضاً. من الصعب تقدير حجم ومدى الفساد على مستوى العالم لأن هذه الأنشطة تتم سراً. يقدّر البنك الدولي أن الرشوة الدولية تتجاوز 1.5 تريليون دولار سنوياً، أو 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وأكثر بعشر مرات من إجمالي أموال المساعدات العالمية. وهنالك تقديرات أخرى تقدّر وصول الفساد إلى 2-5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

يتخلل الفساد جميع مستويات المجتمع من الموظفين العموميين ذوي المستوى المنخفض الذين يقبلون الرشاوى الصغيرة للقيادات الوطنية الذين يسرقون ملايين الدولارات. وتقدّر منظمة الشفافية الدولية أن رئيس إندونيسيا السابق سوهارتو اختلس ما يتراوح بين 15 مليار دولار إلى 35 مليار دولار. وربما اختلس كل من فرديناند ماركوس الفلبيني وموبوتو سيسي سيكو من زائير وساني اباتشا من نيجيريا خمسة مليارات دولار لكل منهم.

اكتشفت أكبر فضيحة فساد في البرازيل المسمية بـ « لافا جاتو » (غسيل السيارات) شبكة فساد واسعة وشديدة التعقيد. استخدم مديرو شركة بتروبراز-شركة النفط الوطنية البرازيلية- خلية تمويل غير مشروعة للدفع للساسة الذين عينوهم لدعم الحملات الانتخابية للائتلاف الحاكم.

توسطت لافا جاتو بين السياسيين وقادة الأعمال من 11 دولة ممتدة من البرازيل إلى البيرو. وقد أدى ذلك إلى تهميش أكثر مواطني البرازيل شعبية، وهو لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الذي يقضي الآن عقوبة السجن لمدة 12 سنة. وأجبرت القضية الرئيس البيروفي بيدرو بابلو كوتشينسكي على الاستقالة عندما تم مواجهته بالتصويت لعزله.

وهناك قضية فساد كبيرة أخرى في ماليزيا؛ يجري التحقيق مع رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق بسبب اختلاسه من الشركة الإستراتيجية الماليزية (1Malaysia Development Berhad- 1MDB) التي يرأسها. وزعمت وزارة العدل الأمريكية أنه تم اختلاس 4.5 مليار دولار من هذه الشركة، وقد أشارت الدعوى القضائية إلى نجيب باسم « المسؤول الماليزي 1 » الذي يُزعم أنه تلقى أكثر من مليار دولار أمريكي من أموال صندوق الشركة. ونفى نجيب الذي اتهم باستخدام بعض المال لشراء مجوهرات لزوجته ارتكاب أي مخالفات.

قضايا الفساد التي تشمل القيادات الوطنية ليست قضايا فريدة من نوعها. في عام 2015، أُجبر الرئيس أوتو بيريز مولينا من غواتيمالا على الاستقالة بعد أن جرده الكونغرس من الحصانة بسبب دوره المزعوم في مخطط فساد ضخم يضم دائرة الجمارك الوطنية. وفي جنوب أفريقيا، قام المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم هذا العام بإقالة الرئيس جاكوب زوما المتهم بالفساد. في عام 2017، عزلت كوريا الجنوبية رئيستها باك غن هي بتهمة الرشوة والتهم الأخرى. في عام 2018، أُدينت بتهمة إساءة استخدام السلطة والإكراه والرشوة وحُكم عليها بالسجن لمدة 24 عاماً.

الفساد كأسلوب حياة

أصبح الفساد أسلوباً للعيش في العديد من البلدان؛ ففي عام 2011، أفادت منظمة الشفافية الدولية أن ثلثي مواطني بنغلادش وأكثر من نصف الهنود قد دفعوا رشوة خلال الأشهر الاثني عشر السابقة. وفي عام 2017، أفاد التقرير أيضاَ أن شخصاَ من كل أربعة أشخاص على مستوى العالم دفع رشاوى خلال الاثني عشر شهراً الماضية للوصول إلى خدمة عامة. ما يقرب من 57% من الناس في جميع أنحاء العالم شعروا أن حكوماتهم كانت تعمل بشكل سيء لمكافحة الفساد، بينما اعتقد 30% فقط أن حكوماتهم تعمل بشكل جيد في مكافحة الفساد.

وأظهرت دراسة أخرى لمنظمة الشفافية الدولية في عام 2017 على مستوى العالم أن حوالي ثلث الأشخاص يعتبرون رؤساءهم ورؤساء وزاراتهم ومسؤولي الحكومة الوطنية والمحلية ومديري الشركات والممثلين المنتخبين وضباط الشرطة فاسدين. يُنظر إلى ضباط الشرطة على أنهم أكثر الفاسدين في البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى (بنسبة 47%) وآسيا والمحيط الهادئ (بنسبة 39%). ويعتبر ذلك إدانة مدمرة لمدى وحجم مفاهيم الفساد العالمي في هذا العصر من الجنس الإنساني الفاسد « Homo corruptus »، أشخاص مدللين وفاسدين جداً.

الآثار

يحدّ الفساد بشدة من تخفيف الفقر والتنمية الاقتصادية. في عام 2017، عاش ما يقرب من 10% من الآسيويين -أي حوالي 400 مليون نسمة- في فقر مدقع. يستنزف الفساد الأموال المخصصة للتخفيف من حدة الفقر. تواجه بلدان مثل بنغلادش والصين والهند وإندونيسيا وماليزيا ونيبال وتايلاند والفلبين جميعها مشاكل فساد متفشية.

إذا استطاعت البلدان النامية السيطرة على الفساد وفرض سيادة القانون، فإن تقديرات البنك الدولي لحصة الفرد من الدخل قد تزيد أربعة أضعاف على المدى الطويل. في المتوسط، يمكن أن ينمو قطاع الأعمال بنسبة أسرع بـ 3%. كما أن الفساد ضريبة فعلية على الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تصل إلى حوالي 20%. يمكن للتحكم في الفساد تحسين العديد من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك خفض معدل وفيات الرضع بنسبة 75 %.

ما الذي يمكن فعله حيال ذلك؟

لقد مكنت الأنظمة المالية الدولية موظفي الدولة من إخفاء ثرواتهم غير المشروعة في الملاذات الضريبية [3]. في عام 2014، سرّبت وثائق بنما 11.5 مليون ملف [4]. وأظهر ذلك أن اثنين من القادة الوطنيين من بين 143 من السياسيين وعائلاتهم والمقربين من جميع أنحاء العالم كانوا يستخدمون ملاذات ضريبية في الخارج لإخفاء ثرواتهم.

وبالمثل، سرّبت « أوراق الجنة » 13.4 مليون ملف [5] من مزودين مختلفين للخدمات الخارجية و 19 شركة تابعة لمطالب الضرائب. كشفت عن أنشطة خارجية لأكثر من 120 من السياسيين وقادة العالم بالإضافة إلى الهندسة المالية لأكثر من 100 شركة متعددة الجنسيات.

وتتطلب السيطرة على الفساد تقوية المؤسسات ودعم قواعد القانون على وجه السرعة كما أظهرت بعض الدول مثل سنغافورة. روى رئيس وزراء سنغافورة الراحل لي كوان يو: أن الفساد كان شائعاً في الخدمة المدنية خلال الحقبة الاستعمارية. عندما جاء حزبه إلى السلطة، كرّس قادته مكافحة الفساد كأولوية إنمائية لأنه كان يعتبر شرطاً أساسياً للحكم الرشيد. وحتى في ذلك الوقت، دفعت كيبل أوفشور آند مارين (Keppel Offshore and Marine) -وهي وحدة من شركات كيبل في سنغافورة- غرامة ذات مبلغ طائل قدرها 422 مليون دولار إلى السلطات الأمريكية والبرازيلية والسنغافورية لدفعها رشاوى قدرها 55 مليون دولار إلى بتروبراز وسيتي برازيل. تم دفع الرشاوى بين 2001 و 2014 للفوز مقابل ذلك بثلاثة عشر عقد.

أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ الحرب على الفساد والتي استهدفت كل من « النمور والذباب » في إشارة إلى كبار المسؤولين وإلى الموظفين ذوي الرتب المتدنية. يقبع العديد من السياسيين والبيروقراطيين الصينيين الأقوياء -الذين كان لا يمكن المساس بهم في السابق- الآن في السجن بسبب الفساد.

في الهند، لم يتم سجن أي زعيم سياسي كبير بسبب الفساد الخطير. وقد أعطى هذا العديد من السياسيين البارزين والبيروقراطيين الكبار رخصة للسرقة. أشار تقرير الشفافية العالمي لعام 2017 إلى أن ما يقارب 70% من الهنود الذين حصلوا على خدمة عامة اضطروا لدفع رشوة.

على الجانب المشرق، أكثر من نصف الهنود يبدون الآن إيجابيين تجاه جهود الحكومة لمكافحة الرشوة. ومع ذلك، فقد شعر أكثر من 40% أن الفساد قد زاد خلال الأشهر الـ 12 السابقة. الدول المتقدمة ليست محصنة ضد الفساد على حد سواء. آخر مثال بارز هو مدير حملة الرئيس الأمريكي ترامب، بول مانافورت. وقد اتهم في ثماني تهم بالاحتيال على الضرائب والبنوك، مع المزيد من الاتهامات التي لم يتم الحكم فيها بعد. وقد اعترف المحامي الشخصي لترامب « مايكل كوهين » بأنه مذنب في ثمانية انتهاكات لقوانين البنوك والضرائب وتمويل الحملات الانتخابية، وقد يكون كل ذلك غيضًا من فيض!

قال غاندي: « هناك كفاية في العالم لحاجة الإنسان ولكن ليس لجشعه ». ومع توسع اقتصاد العالم، تزداد كذلك احتمالات الفساد. لا يمكن أبداً القضاء على الفساد سواء أحببنا ذلك أم لا، فقد كان دائماً جزءاً من الطبيعة البشرية وسيظل يصيب المجتمع. مع استمرار عمر الجنس الإنساني الفاسد، فإن أفضل ما يمكن لأي بلد فعله هو الحفاظ على الحد الأدنى من الفساد.

المصدر :السياسي الهندي البارز غاندي (مواقع التواصل )

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *