محمد بوبكري
من التربويين من يفصلون بين الفكر والوجدان والجسد. ويبدو لي أن هؤلاء لا يدركون أن هذا الفصل غير ممكن. فالعقل يتكون من حس، ومن لمس، ومن نظر، والكائن الإنساني وحدة لا تتجزأ؛ فليس هناك من يستطيع أن يقول لنا: هنا يبدأ الفكر، وهنا تبدأ المشاعر، وهنا يبدأ الخيال، وهنا ينتهي، وهنا يبدأ الحدس، وهنا يبدأ الحس، وهنا يبدأ اللمس، وما إلى ذلك. الفكر تعبير شامل عن كل هذه الطاقات والإمكانات والملكات الإنسانية، فلا يمكن فصله عن الحس والخيال، لأنه وحدة لا تتجزأ. والإنسان ينظر إلى العالم ويقرأه ويدركه بفكره، وفكره هو حواسه أيضا، وهو لا وعيه ومخيلته كذلك. إنه شامل.
لذلك، يجب احترام المتعلم وتقديره عبر تحميله مسؤولية تعلٌّمه وبناء معارفه وقيمه مستعملا في ذلك كل ملكاته وطاقاته وجسده…
ليست مشكلة الفكر قضية فكرية، وإنما هي مشكلة اجتماعية وثقافية، ما يعني أن مسألة الفكر كامنة في الثقافة والمجتمع، وليست في الفكر نفسه. تبعا لذلك، يكمن احترام المتعلِّم في تشجيعه على إبداع تٓعٓلٌٌّماته، عبر خلق معارفه، وعدم جعله مجرد متلق. لذلك، يجب أن يتحول المتعلِّم إلى مبدع متفاعل مع الواقع والنصوص والأفكار. وبدون ذلك يكون التعلٌّم مجرد لهو وتسلية. إضافة إلى ذلك، لا يمكن التمييز بين الفكر والحس، والوعي واللاوعي إلا في الدرجة، عندما ترتفع الدرجة الفكرية، أو تنخفض، وحينما تتساوى بالشعور واللاشعور. فالفكر جزء لا يتجزأ من الجسد. ولذلك فالجسد هو المفكر الأول بكل طاقاته الذهنية والحسية واللاشعورية. وحينما نواجه أفكارا أو ظواهر معينة، يجب أن نواجهها بجسدنا كله.
واستنادا إلى قراءتي وتجربتي، يمكن أن أقول: بقدر ما ينخرط الجسد في عملية المعرفة تكون هذه المعرفة أكثر عمقا ووضوحا. وللتدليل على ذلك: فنحن عندما نتأمل عملية “الكتابة“، نجد أنها أعلى درجة من درجات المعرفة؛ عندما نفكر، قد نطور نظريا فكرة معينة، لكن عندما نعبر عن هذه الفكرة شفويا، تكون العملية صعبة، ويكون إدراكنا لها أكثر وضوحا من بقائها على المستوى النظري، لأن التعبير الشفوي يقتضي انخراطا للجسد، ما يتطلب مجهودا أكبر ومعرفة أعمق للتمكن من صياغة الفكرة شفويا. أما عندما ننتقل إلى صياغتها كتابيا، فمعرفتنا لها تكون أكثر وضوحا وعمقا. ويعني ذلك أنه بقدر ما ينخرط الجسد في المعرفة تكون معرفتنا أكثر عمقا ووضوحا. فالكتابة تتطلب تفكيرا عميقا ووضوحا أكثر فيما نكتبه. وهذا ما يستوجب استعمال الإنسان لكل طاقاته وملكاته وجسده.
فضلا عن ذلك، تكمن لذة المعرفة في الصراع من أجل حصولها عبر تطبيق مفاهيم ملائمة عَلى النصوص، أو على الواقع من أجل بناء معرفة حولها. ومن الأكيد أن هذا الصراع صعب؛ فهو صراع سيزيفي إلى ما لانهاية. لذلك، لا ينبغي السعي إلى فهم معاني النصوص والظواهر على حساب المتعة أو اللذة. لا يمكن فهم الوجود كله، بل إن هناك أشياء يجب الاكتفاء بطرح أسئلة حولها. لا أحد يمكن أن يدَّعي أنه يفهم العالم، ولا حتى نفسه (أدونيس).