محمد بوبكري
يرى “مونتسكيو Montesquieu ” أن المجتمع هو الذي يصوغ وعي البشر، ويشكِّل عقولهم ووجدانهم، ويحدّد منظومتهم القيمية، واهتماماتهم ونمط حياتهم بواسطة مختلف مؤسساته… وهو في ذلك يسير على نهج سقراط الذي كان من أوائل الفلاسفة الذين اكتشفوا زيف الثقافة والوعي السائدين كما ورد ذلك في محاورات أفلاطون..
بناء على ذلك، أرى أنه على الكاتب أو المبدع ألا يخاطب القارئ لكي يقول له ما برمجته عليه ثقافة مجتمعه جاعلة إياه يميل إلى التقليد والاتباع، ويرفض المختلف، ولا يقبل إلا المؤتلف، ما يعني أنه لا ينبغي على الكاتب أن يساير القارئ ويجامله ويمتدحه، بل يجبُ أن يساعده على الخروج من كل ما يعرفه وممارسة القطيعة معه والانخراط في أفق جديد يمكنه من بناء معارف وقيم أخرى جديدة. بذلك، سيتمكن القارئ من أن يتحول هو نفسه إلى مبدع كما يحدث للكاتب عندما يخلق لنفسه طريقا جديدا للكتابة والإبداع.
إضافة إلى ذلك، تساعد التكنولوجيا الحديثة على إبقاء القارئ في مجتمعنا تحت سطوة الماضي وموروثه الثقافي الجامد، حيث أصبحنا نُغلِّب ثقافة العين والأذن على ثقافة القراءة. لذلك يجب أن ينقل الكاتب القارئ إلى فضاء جديد يدفعه إلى التفكير ومساءلة الذات والآخر والعالم وتجاوزهم، بل والانتصار عليهم..
ونتيجة لظروف تاريخية واجتماعية وثقافية، ما يزال القارئ في مجتمعنا مرتبطا بموروث وثقافة معينين يحولان دون انتصاره على ذاته وانخراطه في روح العصر، ما يجعله عاجزا عن فهم ذاته والتخلص من قيوده المعرفية الثاوية في الموروث الثقافي لمجتمعه التي تجعله يسعى إلى حل مشاكل الحاضر والمستقبل برؤى الماضي وأدواته، حيث يريد أن يخاطبه الكاتب في إطار هذا الماضي وموروثاته.
يرى الفيلسوف هوسرل أن التحرر من نشوة الأحكام المسبقة يقتضي أن يعي الإنسان ما تعرض له من تخدير وتنويم ثقافيين خلال طفولته عبر تنشئته الثقافية والاجتماعية؛ فالوعي الفردي يصدر تلقائيا عما ألفه الفرد على امتداد مسارات حياته. لذلك، ينبغي أن يساعد الكاتب والمبدع معا القارئ على إدراك هذه التلقائية الساذجة ومواجهتها بهدف تحديد مسارها، ومن ثمة ضبط حركتها والتحكم فيها، تمهيدا لإيقافها وإنجاز القطيعة معها، واستثارة فعالية وعي الإنسان وإيقاظ وعيه ومنحه قدرة على الفهم والفعل تمكنه من مواجهة ماضيه وحاضره ومستقبله وموضوع معرفته. حينها، يتحرر وعيه قصدا من تلقائيته الساذجة، لينتقل إلى التمعن فيها، عبر فحصها وتمحيصها. ويترتب عن ذلك كله التخلي عن الأحكام المسبقة وتجاوز العوائق الذاتية وبناء معارف وقيم. جديدة…
لذلك، يجب أن يواجه الكاتب ذاته والعالم والحياة والتاريخ عبر تفكيكهم وإعادة بنائهم، ومن ثمة تقديمهم للقارئ. هكذا، سيتمكن الكاتب من إخراج القارئ من ذاته وثقافته نحو أفق آخر خاص به، مما يجعل هذا القارئ امتدادا للكاتب الذي يريد أن يكون له إبداعه الجديد الخاص به… من ثمة، يجب أن يخلق الكاتب قارئه القادر على التفكير في ذاته وفِي ثقافته وفِي العالم المحيط به بما يقرأه. بذلك، لا تكون القراءة فعلية إلا عندما نستطيع التفكير بما قرأناه! أي عندما نوظف ما قرأناه لإنتاج معرفة حول ذواتنا ومحيطنا. كما ينبغي أن تتحول مكتسباتنا القرائية إلى نص مكتوب يترجم اشتغالنا بما قرأناه وتحويله إلى تفكير مكتوب في ذاتنا وعالمنا. هذا هو سبيل بلوغنا أقصى درجات القراءة سموا. ويترتب عن ذلك استحالة الفصل بين القراءة والكتابة، لأنَّ هذا الفصل يجعل ممارستنا للقراءة كعدمها.