المعرفة والقراءة بناء وإبداع

محمد بوبكري

هناك اعتقاد شائع بأن عملية الإبداع تنتمي إلى المجال الفني والأدبي، والحال أن الابتكار أو الاختراع ينتميان إلى المجال العلمي والتقني. في الواقع، يستدعي العلمُ الملكات الإبداعية والصرامة والتقنيات في آن، لكنه يختلف عن الفنون والآداب في غاياته وفي نوع التقنيات التي يستعملها.
الاختراع والإبداع هو أخذ جزء مما أعطاه إيانا الآخرونَ لتشكيل شيء آخر وإنتاجه. بعبارة أخرى، إنه خلق الجديد من القديم. عندما يتم اقتراح معرفة علينا، فنحن نفكر فيها ثم نعيد خلقها، مما يمكننا من استيعابها. وهكذا، فإننا لا نكون فقط فاعلين، وإنما مبدعين.
فما الفرق بين الاكتشاف والابتكار (الاختراع) والإبداع؟
الاكتشاف هو إدراك شيء موجود سلفا، إنه تسليط الضوء على ما كان مجهولا وخفيا. وغالبا ما تبدأ البحوث العلمية بالاكتشاف. أما الاختراع فهو تطوير بناء نظري، وهي عملية تجري على مستوى الفكر، حيث يمكن ابتكار نموذج نظري لتفسير ظاهرة تم اكتشافها. فنظرية الجاذبية، مثلا، عند نيوتن Newton لا تتألف فقط من مشاهدة سقوط تفاحة، وإنما من استخلاص قانون انطلاقا من هذه الملاحظة، حيث تم وضع نموذج تفسيري نظري، غير ملموس! أما الإبداع فهو صناعة شيء ملموس لم يوجد بعد، ممَّا يقتضي امتلاك الفرد لتصور وتحويله إلى موضوع محسوس يجسِّدُ الإنجاز الفعلي لما اخترعه أو ابتكره ذلك الفرد، وبذلك يكون أساسُ الابتكار أو الاختراع نظريا.
أظن أن هذه العمليات المختلفة مرتبطة فيما بينها بشكل وثيق، ومن ثمة أفضل ألا تكون هناك اختلافات بينها، لأنها تسير بيداغوجيا في اتجاه واحد.. في الواقع، لا يكون كل نموذج يطوره التلميذ مجرد اكتشاف، أي مجرد إخراج لما هو خفي إلى النور، وإنما يكون إنتاجا فكريا، أي اختراع شيء لم يكن موجودا سلفا في ذهنه. وما يهم في الاختراع والإبداع هو أنهما ينتجان شيئا لم يكن موجودا من قبل. وهذا ما يسري على بناء المعرفة من لدن المتعلم، إذ يُطوِّرُ علاقات بين أشياء أو أفكار، مما يؤدي إلى نتاج جديد وغريب، ربما لم يخطر بباله من قبل.
يؤكد ج. بياجيه J. Piaget الشيء نفسه، حيث يرى أن الفهم هو الابتكار أو الاختراع. وفعلا، فالفهم لا يعني معرفة بعض التفسيرات، وإنما هو تطوير نموذج تفسيري في فكرنا انطلاقا من المواد التي يقدمها لنا المدرس أو الآخرون. والأمر نفسه يسري على التعلُّم نفسه، حيثُ يعني بناء معرفة أخرى من قبل الذات، وخلق بنية معرفية جديدة انطلاقا مما نفهمه وما يُعطى لنا، وما نكتشفه… إنه التأليف أو الربط بين مجموعة من العناصر لصنع شيء جديد. فالأطفال والكبار يستوعبون المفاهيم النظرية التي يجب أن يقوموا هم أنفسهم ببنائها. وهذا ما جعل بول كلوديل Paul Claudel يرى أن المعرفة connaissance تعني co-naissance؛ أي أن المتعلم يولد عبر بناء المعرفة، حيث يولدان معا في آن، كما ينصهر موضوع التعلم في ذات المتعلم. وهكذا، فليس فهم الشيء هو السماع به، وإنما هو اختراعه أو ابتكاره، وبناؤه…
يمكن، على سبيل المثال، أن يظنَّ البعض أن القراءة هي متابعة سلبية لبعض الأحداث والمعلومات والأفكار التي يرويها مؤلف معين. لكن الأمر ليس كذلك، لأن القراءة ليست مجرد مشي على الكلمات، ولا هي تحليق فوقها. إنها تزود الأطفال والشباب بالأفكار والكلمات والتعبيرات ومختلف صيغ الجملة والاستعارات…، كما تمنحهم ثراء الأسلوب الشعري… وفضلا عن ذلك، فهي إطلاق العنان لخيالنا واكتشاف تجارب حياتية أخرى ومناظر وعوالم أخرى… ويعد الانخراط فيها مغامرة بحث عن اللذة، إذ تسلينا وتمنحنا حريتنا كاملة وتمكننا من التخلص من أوهامنا وتصوراتنا الخاطئة… وبذلك، فهي تشكل سفرا للذات في أعماقها وخارجها، وهي أيضا اكتشاف أسلوب في الحياة والكتابة. إنها تمنح الذات حرية التمتع بموسيقى الكلمات والعبارات والأسلوب والأفكار…
علاوة على ذلك، تعتبر القراءة إبداعا فرديا لكونها إعادة كتابة ما نقرأه. وكلما تكررت قراءة النص الواحد كانت خلقا جديدا له. فالقراءة هي أخذ بعض عناصر النص، التي لها معنى بالنسبة إلينا، وتأويلها في علاقة بما نحن عليه… إنها، إذن، القدرة على استقبال ما يأتينا وما يحدث أمامنا…، لكنها أساسا التفكير فيما وراء ما نسمعه ونبصره. ويعرف كل واحد منا أن فهم نص معين يتغير حسب سن القارئ وثقافته وزمانه ومكانه ونوعية النص ذاته… أضف إلى ذلك أننا كلما أعدنا قراءة نص معين اكتشفنا عناصر جديدة انفلتت منا خلال قراءاتنا السابقة له، مما فوَّتَ علينا آنئذ القدرةَ على إدماجها في بناء فهمنا له. وينطبق هذا على جميع النصوص الإبداعية بما فيها الشعر؛ إذ لا تقتضي كتابة النص الشعري إظهار الأشياء وإبرازها، بل ترك الآخر يكتشفها. وتبعا لذلك، تكون قراءة الشعر استيلاء على الكلمات وتغذيتها بصورنا الخاصة…
ويعني الفهم والقراءة والكتابة، وحتى العيش، القدرة على إقامة علاقات بين عناصر مختلفة من أجل تطوير روابط جديدة بينها تفضي بدورها إلى تشكيل بنيات جديدة… وبذلك، فالأمر يتعلق بابتكار وإبداع.
عندما يعزف العازف الموسيقي قطعة موسيقية، فهو لا يكتفي بإعادة إنتاج ما أبدعه الملحن، بل يضيف إليه إبداعه الخاص، حيث يطبع اللحن بطابعه الشخصي… ولكون العازفين الموسيقيين لا يترجمون حرفيا الكتابة الموسيقية الموجودة أمامهم، فهم مبدعون حقيقيون. وأظن أن القارئ يشبه العازف، حيث يفرض عليه استيعاب عناصر كتاب معين إعادة إبداعها بطريقته الخاصة. لا يعني الإبداع معرفة بعض الأفكار والأمثلة باعتبارها مجرد وصفات بسيطة، وإنما يعني اكتسابها ببطء وهضمها واستيعابها، كما هو الشأن بالنسبة للمواد الغذائية التي يستوعبها الجسد وتتحول إلى جزء منه. ”
القراءة هي فن الاجترار الذي لا تجيده إلا البقرة” (نيتشه).
انسجاما مع ذلك، يجب تجنب الاقتصار على نقل المعارف إلى التلاميذ لكي لا نحرمهم من امتلاك القدرة على التخيل والتحري والمغامرة المعرفية والاختراع والإبداع والبحث والاكتشاف، ونحول دون تلذذهم بذلك… فالإبداع يساعد على الاستقلال الذاتي وتحمل المسؤولية عبر تكوين أفراد قادرين على النقد والابتكار، وممتلكين لمعرفة معقدة وقابلة للنقل إلى الآخرين بطريقة مفهومة… وهذا ما يستوجب أولا وضع التلاميذ، ما أمكن، في وضعيات إبداع في إطار كل المواد الدراسية التي يدرسونها.
إن المقاربة التجريبية الخاصة بالعلوم قابلة للتطبيق في كل الحقول المعرفية، وهي تلزم المتعلم بتحديد المشكلة وتطوير الإشكالية وصياغة الفرضيات ووضع التصاميم التجريبية الملائمة، أو أي وسائل أخرى للتجريب والتأكد من صحة الفرضيات أو بطلانها… ويعني كل هذا أن الأمر يتعلق بعملية ابتكار وإبداع…. أضف إلى ذلك أن الممارسة العلمية لا تنهض فقط على الملاحظة والوصف، وإنما أيضا على الانتقال إلى فهم يفضي إلى تطوير نماذج تفسيرية تجريدية…
إذا كان موضوع البيولوجيا والفيزياء واقعا يمكن للتلاميذ أن يدركوه بشكل مباشر، فالأمر بخلاف ذلك في الرياضيات، حيث لا يرى الطفل الأرقامَ ولو أنجز العمليات الحسابية بأصابعه، لأن الأرقام لا تنتمي إلى الواقع المرئي؛ إنها بناء وتجريد وإبداع يقوم به الفكر. وفعلا، عندما يعرف التلميذ الأرقام ويتعلم استعمالها، فهو يخلقها هو ذاته في فكره، إذ تكون ناجمة بالخصوص عن تنظيمه للواقع. فاعتبار عشرة كريات تشكل عشرة لا يتوقف على تحويل هذه الكريات العشر إلى شيء آخر، بل يشير أساسا إلى أن الأمر يتعلق ببناء فكري (G. , De Vecchi et N. Carmona-Magnaldi, 2008).
وكما هو الشأن بالنسبة للعلوم التجريبية، يجب أن تنفتح الرياضيات على ممكنات كثيرة تُمَكِّن التلاميذ من تطوير فرضيات والقيام بتوقعات، أي ممارسة الإبداع. وهكذا فالفكر الرياضي هو فكر مبدع. وتثير الآثار التي تخلفها الإستراتيجيات التدريسية، التي يتم اختيارها في البداية، ردود فعل تؤدي إلى تطوير تغذية راجعة من لدن الآخرين تفرض تعديلات ممكنة لتلك الإستراتيجيات الأولية. وبذلك، نكون بعيدين عن تطبيق بسيط لمبرهنات أو صيغ معينة! ولكي يمارس التلميذ الرياضيات، يجب أن نضعه في وضعية رجل رياضيات mathématicien.
أشرنا أعلاه إلى أن القراءة هي فعل إبداع مستمر. والأمر نفسه يسري على أنشطة إنتاج النصوص. لا أقصد النصوصَ التي يمليها المدرسون على التلاميذ، وإنما تلك التي تنبع منهم عبر انخراطهم فكرا ووجدانا وجسدا في كتابتها… إن الكتابة إبداع، ومعرفتها هي معرفة الإبداع. ومن الممكن أن نجعل التلاميذ يكتبون نصوصا بطريقة تلقائية ومُسَلِّيَة انطلاقا من نصِّ مؤلفٍ معروفٍ، إذ لا يتعلق الأمر فقط باسترجاعه، وإنما بإعادة إبداعه. فالقراءة تساعد الفرد على ممارسة الكتابة، وهذه الممارسة تجعله قادرا أكثر فأكثر على تذوق القراءة، مما سيمكن التلاميذ من اكتساب أشكال لغوية وأساليب تعبيرية… إن هذا أمر صعب، لكنه غني جدا. وهكذا نكون بعيدين عن الشرح التقليدي للنص الذي يُحول القارئ إلى مجرد متفرج عليه ومصفق للمؤلف دون إدراك معاني ما كتبه.
فما هو مهم هو أن يصير المتعلم ناقدا لما يقرأ. فالنقد يخلق النظام الفكري الضروري الذي يمكن من صياغة أسئلة وطرحها على الذات، وعلى القراءة والكتابة والنص. إنه صراعنا مع النص، وإن كنا معجبين به وعاشقين له، كما أنه انخراطنا في الاختلاف معه، وهذا ما يشكل إبداعا في حد ذاته.
أخيرا، يجب ألا نتهيب من كلمتي ابتكار وإبداع بسبب الاعتقاد السائد بأنهما من اختصاص الباحثين والفنانين الكبار؛ إذ عندما يقول الفرد: ” إن هذا يقودني إلى التفكير في…”، أو “يجعلني أعي أن…”، أو “أستنتج أن…”، فإنه يكون ابتكر…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *