بوكنزير يكتب: المهن القانونية والقضائية بين حالة الطوارئ الصحية والتحول الرقمي

اشرف بوكنزير.. طالب باحث
تعيش المملكة المغربية ,حالة طوارئ صحية,بفعل تفشي وباء كوفيد 19, وهو الأمر الذي ادى إلى وضعية وبائية مقلقة , حيث ارتفاع عدد الوفيات و الحالات الحرجة ,وتفاقم عدد الإصابات اليومية بشكل غير مسبوق بعد تسجيل أرقام قياسية, وهي عوامل دفعت الحكومة المغربية إلى اتخاذ حزمة من القرارات و التدابير الاحترازية لوضع حد أو على الأقل التقليل من نسبة الإصابات داخل التراب الوطني عامة و بالمدن الكبرى على وجه الخصوص.
ولعل من بين الإجراءات المتخدة , منع التجمعات واحترام التباعد الاجتماعي تنزيلا لتوصيات منظمة الصحة العالمية, وهو ما أثر في الحقيقة على جل القطاعات الحيوية ,والمرافق و المؤسسات , مما ولد لنا ضررا بالغا على الاقتصاد الوطني,ولم تسلم المهن القانونية والقضائية ببلادنا من نتائج « كورونا » ,حيث أدى انتشار هذا الوباء إلى تعليق الجلسات داخل المحاكم, علاوة على اشتغال الموظفين بمرفق القضاء والمهن المساعدة بمنطق « المداومة ». و تأجيل و إلغاء عدد من الخدمات .
لم يطرق وباء كورونا أبوابنا , فبحجم خطورته كان غامضا ,حيث جاء على حين غرة,و أحدث ضجة صاخبة داخل المجتمع المغربي بكافة أطيافه إذ,توقفت مختلف الأنشطة عن العمل تنفيذا للقرارات الحكومية من جهة, و في إطار التضامن الجماعي لمواجهة الجائحة من جهة ثانية, وذلك بموجب مرسوم قانون 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية.
و عانق قرار التوقيف الذي دام عدة شهور , المهن القانونية والقضائية ببلادنا, فعلى سبيل المثال لا الحصر وجد مزاولي مهن المحاماة و النساخة و المفوضين القضائيين والخبراء المحاسبيين ومهنة خطة العدالة..إلخ
وجدوا أنفسهم أمام قرار التوقف عن العمل بفعل الانتشار المهول لهذا الفيروس, وأبانوا بروح وطنية عالية أنهم يمثلون قطاع العدالة أصدق تمثيل, حيث لاحظنا عن كثب مدى تنفيدهم لهذه القرارات بكل مسؤولية و بالرغم من نتائجها الوخيمة على الفرد والمجتمع.
غير أن السؤال الذي ظل عالقا في أذهاننا, هو أنه مادامت المهن القانونية والقضائية تقدم خدمات عامة,فكيف سيتم تدبير هذه الأزمة والاستمرار في تقديمها في ظل الأحوال الاستثنائية؟
هذا السؤال كان بمثابة دفعة قويا لإعادة طرح موضوع التحول الرقمي إلى الساحة القانونية, مما لجأت الحكومة المغربية إلى بلورة سياساتها المتعلقة برقمنة التعاملات والخدمات,و في خطوة إجرائية و جريئة أدمجت التحول الرقمي ضمن أولويات مشروع قانون المالية التعديلي طمعا في الدفع بعجلة التنمية وتدارك هذا التأخر الحاصل في هذا التحول الذي طال انتظاره قياسا بالتجارب الأجنبية الرائدة في هذا المجال.

ومن خلال ذلك خرج إلى الوجود المخطط التوجيهي للتحول الرقمي للعدالة في المغرب في يونيو 2020, بعد أن قدم صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في الدورة الثانية لمؤتمر مراكش الدولي للعدالة أكتوبر 2019 ,من بين ما جاء فيها « ندعو لاستثمار ما توفره الوسائل التكنولوجية الحديثة من إمكانيات لنشر المعلومة القانونية والقضائية,وتبني خيار تعزيز وتعميم لامادية الإجراءات والمساطر القانونية والقضائية و التقاضي عن بعد باعتبارها وسائل فعالة تسهم في تحقيق السرعة و النجاعة…,مع الحرص على تقعيدها قانونيا، وانخراط كل مكونات منظومة العدالة في ورش التحول الرقمي ».

ولعل التحول الرقمي للعدالة سيدفع حتما إلى تحديث الإدارة القضائية وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمتفقين و تسهيل الولوج إليها و الارتقاء بفعالية الأداء القضائي في أفق تحقيق المحكمة الرقمية ثم تبسيط الإجراءات والمساطر القضائية وتوحيدها بما يساهم في تقليص الأجال وتسريع إجراءات البت في القضايا وذلك عن طريق تسريع وتيرة تنفيذ الأحكام القضائية بكل فعالية.

والتحول الرقمي كذلك يحيلنا إلى موضوع التقاضي عن بعد, كإجراء احترازي مهم لمحاصرة فيروس كورونا,والذي يرى فيه البعض خطوة مهمة ستكفل حماية المتقاضين ,خصوصا بعد تسجيل إصابات داخل بعض المؤسسات السجنية.

و صرح وزير العدل بخصوص هذا الموضوع ,أن اعتماد تقنية التقاضي الالكتروني يتطلب مستقبلا تدخلا تشريعيا لتأكيد مبدأ الشرعية ,فإذا كنا نعمل بهذه التقنية في الظروف الراهنة حيث محكوما بشرط استثنائية القوة القاهرة,فإنه مستقبلا يتطلب تدخلا تشريعيا لوضع ضوابط التقاضي الالكتروني وإرساء قواعد خاصة به.

وتجدر الإشارة أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية أعلن عن حصيلة شهرين من تفعيل المحاكمات عن بعد حيث تم عقد أكثر من ألفي جلسة أدرجت خلالها أزيد من 40 ألف قضية, ما بين 27 أبريل و 26 يونيو الماضي.

ويمكن القول ختاما أن الجائحة كانت دافعا لإعادة النظر في موضوع المحكمة الرقمية التي أصبحت موضوع الساعة ,فالمحاكم الرقمية إذن أتية لا ريب فيها, فهي ضرورة ملحة من أجل العصرنة و التحديث و كذلك خيارا استراتيجيا غني عن البيان ,والمحاكمة عن بعد ما هي إلا أحد مقومات التقاضي في ظل المحاكم الرقمية التي افرزها الفكر القانوني والذي لا يأبى إلا أن يساير الانغماس في عالم الرقمنة ,فإذا كانت كورونا دفعتنا إلى اعتماد التباعد الجسدي وبالتالي رقمنة المحاكم, إلا أنه في الواقع نجد أن هناك قضايا مستعجلة لا تحتمل التأخير ولا التأجيل.

لكن السؤال المطروح, هل سينجح المغرب بإمكانياته المحدودة في المجال التقني و المعلوماتي من الاستمرار في المحاكم الرقمية وضمان المحاكمة العادلة بين المتقاضين في دولة الحق والقانون؟
السؤال سيظل مطروحا و الواقع هو المجيب .

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *