المولد النبوي الشريف في المغرب: إلماعات أولية حول الاحتفال ومقاصده

محمد التهامي الحراق

نسعى من خلال هذا الحديث الوجيز أن نقترب من موضوع يحتاج إلى أعمال علمية كبيرة وموسعة، ويقتضي دراسات تتقاطعها تخصصاتُ التاريخ والفقه والتصوف والأدب والموسيقى والأنتروبولوجيا وغيرها، كما تستعجل قبل هذا وذاك إخراج جم من المخطوطات والوثائق المنسية أو المهملة، والعمل على تحقيقها تحقيقا علميا ثم نشرها وإذاعتها بين الناس.

يتعلق الأمر بموضوع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب؛ فالاقتراب مثلا من تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب، على أهمية ما أنجز فيه وحوله من إضاءات، ما يزال في مسيس الحاجة إلى بحث في المظان التاريخية للوقوف على تفاصيل هذا الاحتفال في مختلف اللحظات التاريخية منذ انطلاق هذا الاحتفال في القرن السادس الهجري على عهد العزفيين إلى راهننا المعاصر؛ وذلك من أجل الوقوف على مختلف مظاهر هذا الاحتفال الرسمية والشعبية وآثارها الأدبية والعلمية والاجتماعية والدينية وأبعادها الحضارية ومدى إسهامها في تشكيل وجه من أوجه الهوية الدينية للمغرب الأقصى؛ وكذا من أجل رصد الوظائف المتعددة التي صارت تضطلع بها كل تلك المظاهر؛ حيث صار هذا الاحتفال، بطقوسه وعاداته في اللباس والطبخ والتزيين والإنشاد والاجتماع والعمران وسك العملات وإحياء ليالي الذكر والتذكير في المساجد والزوايا والمشاهد والبيوتات الخاصة…؛ صار هذا الاحتفال بفضل ذلك وغيره علامة مميزة للشخصية الإسلامية المغربية.

هذه آفاق ينبغي على البحث والباحثين أن يمخروا عبابها، فثمة أصداف تنتظر في شغف من سيظفر بها ليجليها لنا، كيما نتعرف على الأبعاد الاجتماعية والنفسية والسياسية والفلسفية والجمالية والحضارية لاحتفال المغاربة بالمولد النبوي الشريف؛ وهو الاحتفال الذي تظل كل نظرة تعتبر مظاهره من مخلفات الأعراف والعادات الثانوية أو التقاليد التي تعللها الوراثة والحنين للماضي، تظل نظرةً قاصرة وكليلة عن إدراك خفايا امتداد هذا الاحتفال وإصرار المغاربة، رسميا وشعبيا، على التمسك به وإحياء وتجديد مظاهره وتجلياته.
سيلزمنا في البدء وقبل تناول بعض مقاصد هذا الاحتفال، أن نقترب قليلا من تاريخ انطلاقه وتطوره.

1- الاحتفال بالمولد النبوي: اقتراب تاريخي

من المعلوم أن الاحتفال بالمولد النبوي الكريم قد ظهر وانتعش رسميا منذ عهد الفاطميين بمصر وتونس حيث كانوا يحتفلون به ضمن احتفالهم بستة مواليد، وهي مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ ومواليد آل البيت عليهم السلام علي ابن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة الزهراء؛ ومولد الخليفة الحاضر. كما أن مكة المكرمة كانت تحتفي بهذا العيد، حيث ينقل لنا الرحالة الأندلسي ابن جبير في « رحلته » عام 579هـ-1183م أن مشهد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم. بمكة المكرمة يفتح في شهر ربيع الأول يوم الاثنين تحديدا فيدخله الناس كافة، ويضيف أبو العباس العزفي في كتابه « الدر المنظم في مولد النبي المعظم » أن يوم المولد يتخذ عطلة عامة بمكة المكرمة وتفتح فيه الكعبة المشرفة ليؤمها الزوار.

وإذا كان بعض الباحثين يعين القرنين السادس والسابع الهجريين باعتبارهما تاريخ ظهور الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف ، فإن غيرهم يؤكد « أن العباسيين احتفلوا به طوال مختلف عهودهم وأن العلويين والشيعة عامة قد احتفلوا به حتى قبل قيام الدولة العباسية » ، وممن احتفل بالمولد النبوي الشريف خلال القرن السابع الهجري الملك مظفر الدين بن زيد الدين صهر صلاح الدين أمير أربل (وهي مدينة تقع جنوبي شرقي الموصل بالعراق)(تـ.630ه/1232م). وقد زار هذه المدينة ابن دحية السبتي -وهو من كبار علماء المغرب في عصر الموحدين- عام 604هـ/1207م، وحين رأى احتفال الملك مظفر الدين وولعه بعمل المولد النبوي الشريف ألف له كتاب « التنوير في مولد السراج المنير ».

أما في المغرب فقد كان أول من دعا إلى الاحتفال بعيد المولد النبوي الكريم أبو العباس العزفي السبتي المتوفى سنة 633هـ/1236م، ويذكر في مقدمة الكتاب الذي بدأ تأليفه « الدر المنظم في مولد النبي المعظم » الحافز الذي حدا به إلى الدعوة لهذا الاحتفال؛ ذلك أن أبا العباس العزفي لاحظ متابعة المسلمين ومجاراتهم للنصارى في احتفالهم بأعياد « النيروز » (أول يناير) والمهرجان (العنصرة حيث ذكرى ميلاد النبي يحيى عليه السلام يوم 24 يونيو)، و »ميلاد السيد المسيح عليه السلام ») هو 25 ديسمبر حسب التقويم الغربي)، فدفعته غيرته على الإسلام والمسلمين في الأندلس وخوفه على هويتهم ودينهم إلى أن يفكر في ما يدفع هذه المناكر ولو بأمر مباح. فكان أن انتبه إلى ضرورة العناية بمولد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فبدأ يطوف على الكتاتيب القرآنية بسبتة ويشرح لصغارها المغزى والغايات الفاضلة من هذا الاحتفال، كما حض على تعطيل قراءة الصبيان في هذا اليوم العظيم.

وهكذا انطلق هذا الاحتفال كشكل من أشكال مقاومة تقليد المسلمين لاحتفالات المسيحيين الدينية.

ولما تولى ابنه أبو قاسم العزفي إمارة سبتة، كان من إنجازاته أن حقق رغبة والده فاحتفل في سبتة بالمولد النبوي في أول ربيع من إمارته عام 648هـ/1250م، ويصف ابن عذارى المراكشي احتفال أبي قاسم العزفي في أول ربيع له بالمولد الكريم، فيكتب: «ومن مآثره العظام، قيامه بمولد النبي -عليه السلام- من هذا العام، فيطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام، وفي طول اليوم المذكور يسمِّع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جار ذلك على الدوام في كل عام من الأعوام» .

ومن أجل إشاعة هذا الاحتفال، وبعد أن أكمل أبو القاسم كتاب والده « الدر المنظم في مولد النبي المعظم »، وبعث بنسخة منه إلى الخليفة ما قبل الأخير في سلالة الموحدين عمر المرتضى مشيرا عليه بإحياء هذه « البدعة الحسنة » كما وصفها كتاب « الدر المنظم »، صار هذا الخليفة الموحدي يحيي ليلة المولد بمراكش ويحتفل بها احتفالا، ويبدو أن الإنشاد والسماع كانا حاضرين أيضا كمحورين رئيسين في هذا الاحتفال، كما يوحي بذلك « كتاب المسموعات » الذي ألفه مؤرخ المرتضى أبو علي الحسن بن علي بن محمد بن عبد المالك الكتامي الرهوني المعروف بابن القطَّان نزيل مراكش 661هـ/1263م. وهو كتاب ضمنه قصائد مختارات فيما يخص المولد الكريم، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وغير ذلك.وهو كتاب مفقود.

وقد امتد الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب على عهد المرينيين إلى أن أصبح عيدا رسميا معمما في جميع جهات المغرب مع يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني أواخر صفر عام 691هـ/1292م. وفي أيام أبي سعيد الأول بن يوسف أضيف إلى ليلة المولد الاحتفال بسابعه، وفي أيام هذا السلطان تبنت الدولة القيام بنفقات الاحتفال بليلة المولد في سائر جهات المملكة. وقد اتخذت هذه الاحتفالات طابعيها الاحتفائي الباذخ والبهي مع أبي الحسن وأبنائه، حيث دأب أبو الحسن المريني على إحياء ليلة المولد سفرا وحضرا، إذ يقتني لها ألوان المطاعم والحلويات والبخور والطيب؛ مع إظهار مظاهر الزينة والتأنق في إعداد المجالس كل حسب مرتبته وطبقته، ويأخذ الجميع من لباسه أبهاه ومن ريحه أطيبه، ويقدم في هذه الليلة ما طاب ولذ عن الفواكه الطرية واليابسة والحلويات وغيرها، وقد يقع الإطعام بعد العِشاء الآخرة. وكانت إذا «استوت المجالس وساد الصمت قام قارئ العشر فرتل حصة من القرآن الكريم، ويتلوه عميدُ المنشدين ويؤدي بعض نوبته تم يأتي دور قصائد المديح والتهاني بليلة المولد الكريم» .

وكانت تواكب هذه الاحتفالاتِ الرسمية احتفالاتٌ أخرى شعبية، حيث تُقام الأفراح وتستنير المدن بالأضواء، ويَتجمل الناس وتُزين المدن. وصار يوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم دخول الصبيان بفاس للكتاتيب القرآنية، ومناسبةً لختان الأطفال. كما دأب الصوفية على الاحتفال بهذا العيد بزواياهم أو بالبيوتات الخاصة؛ فهذا أبو مروان عبد الملك الريفي أحد تلامذة أبي محمد صالح الماجري دفين آسفي، يقيم المولد النبوي في منزله بسبتة بحضور المريدين ومن إليهم ويستعمل في الليلة السماع، كما أن شعراء الملحون في هذا العهد كانوا يتبارون لإظهار براعتهم الشعرية بمناسبة المولد النبوي « حيث يجتمعون صباح يوم العيد في الميدان الرئيسي ويعتلون المنصة واحدا تلو الآخر لإلقاء أشعارهم وقد تجمهر عليهم الناس، ثم يُنَصَّبُ أميراً للشعراء من أحرز منهم قصب السبق » . ويُذكر كذلك أن السلطان المريني كان يقيم حفلا بهذه المناسبة يستدعي له رجال العلم والأدب، وأن الشعراء كانوا يلقون القصائد أمامه فيُنعم على الفائز الأول بمائة دينار وفرس ووصيف وحُلَّتِه التي يكون لابسا في هذا اليوم ويمنح سائر القراء خمسين دينارا لكل واحد » .

وقد ازدهت وازدهرت هذه الاحتفالات مع السعديين، وتعيينا في عهد المنصور كما أرخ لذلك عبد العزيز الفشتالي في « مناهل الصفا » حيث نقرأ فيه وصفا دقيقا لأحد مجالس هذه الحفلات. يقول الفشتالي: «فإذا استوت الورود، واصطفت الصفوف وتقاربت الأجناس وتآلفت الأشكال، ورضيت مقاعدها السراة(…) تقدم أهل الذكر والإنشاد يقدمهم مشائخهم من بعد أن يفرغ الواعظ من قراءة ما يناسب المقام من الاستفتاح بفضائل النبي صلى الله عليه وسلم وسرد معجزاته والثناء على شريف مقامه وعظيم جلاله، واندفع القول لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في أماديح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يخصها العرف باسم « المولديات » نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح، وترق لها الطباع وتبعث الانشراح في الصدور والأشباح، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، يتفننون في ألحانها على مذهب تفننها في النظم، فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بألحان المولديات الكريمة، تقدمت أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتري رضي الله عنه وكلام غيره من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيتين من نفيس الشعر يتحينون به المناسبة بينها وبين ما يتلى من الكلام عند الإنشاد» .

وقد تطورت بعد ذلك هذه التقاليد في عهد الدولة العلوية ونالت من العناية والرعاية و والأبهة والتأنق ما تزخر به كتب التاريخ على غرار ما نجد كتاب « العز والصولة » للمؤرخ عبد الرحمن بن زيدان. وهو الاحتفال الذي مازلنا نعيش فصولا رائعة منه في زماننا الحاضر من خلال الحفل السلطاني المتفرد و البهيج الذي يترأسه أمير المومنين كل سنة بهذه المناسبة. على أن امتداد هذا الاحتفال على مدى قرون يجعلنا نتساءل: ما هي المقاصد والغايات التي جعلت المغاربة يتمسكون بهذه البدعة الحسنة ويتفننون في الاحتفاء بها وإحيائها؟

2- من مقاصد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

لن نستقصي هنا كل المقاصد المرجوة من هذا الاحتفال، بل حسبنا التمثيل على بعضها وتحريرها بنماذج مبينة.

2-1- الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم

إن من أبرز ما يعبر عنه الاحتفال بالمولد النبوي الكريم ويطلبه هو الفرح بولادة « الفجر الأعظم » سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهو الفرح المستمدة شرعيته من قوله تعالى: ﴿قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا﴾ (يونس الآية 58). فقد جاء في « الدر المنثور » للإمام السيوطي وفي غيره منقولا عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قوله: « فضل الله العلم ورحمته محمد صلى الله عليه وسلم  » . بل إن أبا العباس المرسي يذهب إلى أنه عليه السلام الرحمةُ عينها، إذ لما كان سائر الرسل قد بُعثوا رحمة إلى أقوامهم؛ وكان صلى الله عليه وسلم قد فاقهم خَلقا وخُلقا وعلما وكرما؛ حتى استمدوا من روحانيته غرفا من البحر أو رشفا من الديم، كان صلى الله عليه وسلم هو « عينَ الرحمة » لقوله سبحانه ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (الأنبياء، الآية 107). من هنا وجب علينا الفرح والابتهاج والحبور بهذه الرحمة التي أهدافها لنا ومَنَّ بها علينا الحق سبحانه. فقد قال أبو العباس المرسي في لطيفة نفيسة: «الأنبياء إلى أممهم عطية، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية، وفرق بين العطية والهدية؛ لأن العطية للمحتاجين والهدية للمحبوبين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا رحمة مهداة» . ومن ثم كان الاحتفال بهذا العيد فرحا بهذه الرحمة الربانية المهداة وشكرا على هذه النعمة المسداة التي أنعم الله علينا بها لما بعث فينا خليله وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ومما يزكي مشروعية هذا الفرح ما يُروى عن أبي لهب أن العباس بن عبد المطلب رآه بعد مماته في المنام فسأله عن حاله، فقال له: «في النار، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين بإعتاقي ثويبة [الأسلمية، جاريته] عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم »، فإذا كان هذا حال الكافر الذي لا تنفعه طاعة أو خير مع كفره، حيث يخفف عنه العذاب فقط إكراما له لفرحه بولادة رسول الله(ص)، فما بال المسلم المؤمن الذي لا يكمل إيمانه حتى يكره المصطفى أحب إليه نفسه وولده والناس أجمعين. ذاك هو المعنى الذي ضمنه الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي في هذه الأبيات البديعة لما قال:

إذا كــان هذا كـافــرا جاء ذمه * بتبت يـداه في الجحيم مخلدا

أتى أنه في يوم الاثنين دائـــمــا * يخفف عنه للسرور بــأحمدا

فما الظن بالعبد الذي كـــان عُمره * بأحمد مسرورا وبات مـوحدا

ولعل هذا الفرح هو الذي جعل المحبين للمصطفى يتخذون من يوم مولده عيدا عظيما يضارع عبدي الفطر والأضحى في الفرح والسرور، ويزيد عليهما بامتداد السرور بحب المصطفى وعدم انحصاره إذ كل وقت بزمن محدود للمحبين له به عرس. يقول الشاعر:

الـمسلمـــون ثلاثة أعيـادهم * الفطر والأضحى والأضحى وعيد المولد
فإذا انقضت أفراحهــم فسرورهم * لا ينفضـــي أبـدا بحب محمــد

هذا المعنى ذاته في تمجيد عيد المولد وتعظيم شأنه وشأوه تشير إليه وتزكيه حكاية دالة جرت بين العالم والصوفي الكبير ابن عباد الرندي والعارف الصالح سيدي أحمد بن عاشر دفين سلا؛ «فقد ذكر ابن عباد رحمه الله ونفع به أنه خرج في يوم ميلاده عليه السلام إلى خارج البلاد، فوجد الولي الصالح الحاج ابن عاشر رحمه الله مع جماعة من أصحابه، فاستدعوه لأكل الطعام، قال فاعتذرت بأني صائم فنظر إلي الشيخ نظرة منكرة، وقال لي: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، فلا يستقيم فيه الصيام لأنه يوم عيد» .

بل إن الابتهاج بمولده جعل الكثير من العلماء والعارفين يفضلون ليلة ميلاده على ليلة القدر حتى إن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق ألف رسالة في إثبات ذلك سماها: « جنا الجنتين في فضل الليلتين » آثر فيها ليلة المولد على ليلة القدر من إحدى وعشرين وجها .

كل هذه الإشارات نبرز أن الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مشروع و مطلوب واستدامته من المقاصد الجليلة من مقاصد الاحتفاء بمولده الكريم.

2-2- الصلاة على رسول الله(صلى الله عليه وسلم)

المقصد الثاني الذي يتحقق من الاحتفال بالمولد النبوي الكريم،هو إبراز مزايا وفضائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإكثار منها، إذ يعد هذا الاحتفال مناسبة متميزة للإبحار في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنهل من أنوارها والاقتباس من أسرارها. وغنى عن البيان فضل الصلاة على الرسول الأكرم ، وما ورد فيها من حض وندب وترغيب في القرآن والسنة الشريفة، فقد قال تعالى: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ (الأحزاب، الآية 56)، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه شوهد وقد أطال السجود، فلما سئل قال: «هذه سجدة سجدتها شكرا لربي فيما آتاني في أمتي، من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا» ، بل إنه صلى الله عليه وسلم وصف المعرض عن الصلاة عليه بالبخيل، لما قال عليه السلام: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليه» . كما أن الصلاة عليه توجب شفاعته صلى الله عليه وسلم لقوله: «من صلى علي أو سأل لي الوسيلة، حقت عليه شفاعته يوم القيامة» . والصلاة على رسول صلى الله عليه وسلم واجبة على المؤمن في سائر الأوقات، لكنها تصبح أكثر حضورا أو ظهورا وانتعاشا في مناسبة المولد النبوي الشريف، لأنها تعد مجلى من مجالي الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم.

2-3- التعبير عن محبة الرسول الأكرم وترسيخها في الأفئدة والقلوب

المقصد الثالث الذي نقف عنده والمطلوب من الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف هو التعبير عن محبته والعمل على تثبيتها من الأفئدة وترسيخها في القلوب، ذلك أن هذه المحبة شرط في الإيمان فقد ورد في الحديث الشريف، « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » ، بل حتى يكون المحبوب المصطفى(ص) أحب للمؤمن من نفسه، فقد روى البخاري عن عبد الدين هشام، أنه قال: «كنا مع النبي(ص) وهو آخذ بيد عمر، فقال(ص): والذي نفسي بيده لأنت أحب إلي إلا من نفسي؛ فقال (ص): حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال(ص)، الآن يا عمر» . وإشاعة محبة الرسول(ص) وتثبيتها وترسيخها هو ترسيخ لمختلف مناحي الدعوة المحمدية وقيمها ومثلها وأخلاقها وفضائلها؛ لأن من أبرز علامات تلك المحبة هو اتباع المصطفى(ص) والتمسك بسنته والتخلق بأخلاقه وسلوك نهجه والتحقق بمبادئ وقيم دعوته وسنته، فقد قال(ص): «من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة « ، قال تعالى: « قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله».

2-4-ترسيخ الشخصية الإسلامية المغربية وتحصين هويتها الدينية

هذا المقصد هو نتيجة تترتب ضرورة عن المقصد الآنف، فالتعلق بالرسول الكريم، والتحقق بمحبة يقتضي التمسك بسنته كما سلف، وهو ما يعني مساهمة الاحتفال بعيد مولده في تقوية وتغذية الهوية الإسلامية المغربية، وترسيخ التخلق بأخلاق الرسول الكريم، عبر استحضار سيرته ومكارمه وكمالاته ومعجزاته وأصول رسالته ومقاصد دعوته، ويكفي التذكير ببعض عادات المغاربة في مثل هذه المناسبة مثل سرد كتاب  » الشفا » للقاضي عياض وإنشاد نصوص البردة والهمزية البوصيريتين و وتريات الإمام البغدادي خلال الأحد عشر يوما من ربيع الأول، وكلها مدائح تتضمن أخلاقا نبوية وسيرة مصطفوية منظومة تُستحضر في شكل تنغيمي محبوب ومحبب في السنة النبوية الشريفة وفي التعلق والتخلق بها.

ومما يدعم دور هذا الاحتفال في ترسيخ وتغذية الشخصية الإسلامية المغربية ما سبقت الإشارة إليه من كون انطلاق عادة هذا الاحتفال كانت بغاية المحافظة على الهوية الإسلامية لأهل سبتة والأندلس وصرفهم عن التقليد الديني للنصارى. وذاك ما يسوغ هذا المقصد في سياقنا الحضاري والتاريخي والذي تهدد فيه العولمة الثقافية كل الهويات الفقيرة بالمحو والتذويب.

هذه فقط نماذج من المقاصد والغايات المطلوبة من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، والتي تعلل جزئيا إقبال المغاربة على هذا الاحتفال وعنايتهم به رسميا وشعبيا، هذا الإقبال الذي أنتج تراثا من النصوص المولدية شعرية ونثرية؛ وذخيرة من الطرائق الإنشادية والأعراف الاحتفالية والمظاهر الإبداعية المسموعة والمرئية. إقبال يقتضي من يؤرخ له وينصت إلى أسراره الأدبية والطربية والأنتروبولوجية الخاصة . هكذا يصبح ما ورد في هذا الحديث الوجيز والمختصر عن احتفال أهل المغرب بالمولد الشريف مجرد إضاءات تتغيى التذكير بقيمة حدث استثنائي ترك إمضاء متوهجا واستثنائيا في تاريخ ووجدان المغاربة؛ نقط تستلزم التوسيع والتعميق على أكثر من مستوى، من هنا كانت تلك الإضاءات إلماعات أولية ليس إلا.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *