بقلم د. محمد بوبكري
عندما حصل الانشقاق البروتستانتي الذي قاده مارتن لوثر ونشره المفكرون الإنسانيون من أمثال إيراسموس، وامتد تأثيرهم إلى كل مكان في أوروبا، وخصوصاً في هولندا، وأعلن كوبر نيكوس أن الأرض ليست مركز الكون وإنما هي مجرد كوكب صغير يدور حول الشمس، فأحدث بهذا الكشف ثورة فكرية زلزلت المسلَّمات ودفعت أوروبا إلى نقاش فكري، يطرح أسئلة جذرية تمس الأسس التي تنهض عليها الثقافة الغربية آنذاك، وبعد ذلك، عندما انتقد برونو وفرانسيس بيكون وديكارت، وغيرهم من المفكرين الكبار الأوائل، الثقافة التى كانت سائدة في زمنهم ودعوا إلى إعادة تأسيس الثقافة الأوروبية وبنائها على أُسس فلسفية عقلانية.
تجاوبت أوروبا كلها مع هذه الثورات الفكرية، فانتقلت من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن التعصب إلى المساواة، ومن الجمود إلى النشاط و الحركية، ومن الوصاية على العقول إلى تعبئة أقصى طاقات الفكر، فتنوعت الاهتمامات وتكاثرت الطموحات، فانتشلت ثورة الأفكار أوروبا من الجهل والتخلف، فصارت منخرطة بقوة في الفكر الفلسفي بعد انقطاع دام قروناً. وبهذا الانخراط في الإنتاج الفلسفي تحققت نهضة الفكر الأوروبي، فتحققت نهضة الفكر التي تعد شرطا ضروريا لنهضة العلم ومدخلا أساسيا لتقدم المجتمع؛ فالنهضة الفكرية التي شهدتها أوروبا في نهاية العصور الوسطى أهلتها لإنتاج العلم واحتضانه وتوطينه وتطبيقه ومواصلة التقدم في كل المجالات، فكان اختراع المطبعة من الأحداث الحاسمة في التاريخ الحضاري، حيث أدى إلى تيسير امتلاك الناس للكتب، و انتشار المعرفة انتشاراً واسعا لم يسبق أن عرف العالم مثله، فظهر رواد العلم، أمثال فيساليوس و هوك و جاليلو و نيوتن، وغيرهم. كما ظهر مغامرون من أمثال كولومبوس وماجلان وأمريكو الذين اكتشفوا العالم الجديد، وعرفت أوروبا نشاطا فكريا وتطلعات واسعة و اهتمامات متنوعة أدت إلى تنوع مجالات العمل والإبداع، ما شجع نشاطات المخترعين وطموحاتهم، أمثال: جيمس وات وتوماس سافري وجون كاي وأديسون وغيرهم من المخترعين الذين قدَّموا للإنسانية وسائل جديدة لأداء مهامهم والقيام بأعمالهم، ما نجمت عنه تحولات نوعية مستمرة في الحياة. هكذا دخلت أوروبا في مرحلة جديدة لم تعرفها البشرية من قبل.. لقد فوجئت المجتمعات بهذه التحولات النوعية التي تمكنت أوروبا من إنجازها، فهرعت اليابان بسرعة في اتجاهها عبر الانفتاح عليها، ما دفعها إلى الاعتراف بأن وراء التحولات الأوروبية النوعية ونمو الغرب عوامل يجب التعرف عليها، إذ بدون ذلك لن يكون هناك تقدم ولا نهضة. وهكذا، قررت اليابان الانفتاح الكامل على أوروبا وحرصت على التعرف على عوامل التقدم من داخل المجتمعات الأوروبية وحركيتها على كافة المستويات، فتقدمت إلى أن صارت المنافس الأكبر للغرب. وبذلك، يتضحُ أنَّ انفتاح أي مجتمع على مصادر التقدم والتحديث، بكل إرادته ورغبته، يؤدي إلى تجاوز عوائق الماضي، ويحقق له النهضة والتنمية حتى وإن افتقرت أرضه إلى الثروات الطبيعية. فالطاقة البشرية الغنية بالمعرفة والعلم أصبحت هي الثروة البشرية المتجددة باستمرار،..
يؤكد نموذج اليابان أن تحقيق التقدم في أي مجتمع ينهض أساسا على مدى رغبته الصادقة في الانفتاح على الآخرين والتعلُّم منهم والاستفادة من تجاربهم وإزالة العوائق النفسية والذهنية والوجدانية التي تفصله عنهم. فبالرجوع إلى تاريخ المجتمعات التي حققت النمو والازدهار وإلى، أوضاع المجتمعات التي ما زالت مسجونة في خنادق التخلف وظلام كهوفه ، يتبين بوضوح كبير أنه على المجتمعات ، التي تقبع في براثن التخلف ، الاعتراف بما تعيشه من خلل ثقافي، والانخراط بصدق في إصلاحه والتخلص منه والانتصار عليه.
إن العلم هو إصلاح التفكير وليس إعطاء معلومات ومراكمتها، بل إنه هو إحلال تصورات صحيحة ومعارف ممحَّصة محل تصورات ومعارف خاطئة. أما إضافة معلومات ممحَّصة إلى ذهن متشبع بثقافة المشافهة غير الممحَّصة، فلا يفيد علماً لأن هذه الإضافة تشبه إضافة كأس من الماء الصافي العذب إلى بركة مليئة بالماء المتعفن العدم العكر؛ فالثقافة الأسبق ترفض المعارف الصحيحة، وبسبب ذلك فشل التعليم في العالم الثالث وفي منطقة الشرق الّأوسط. فلقد جرى بناء المدارس والجامعات في البلدان المتخلفة والشرق أوسطية ، ولكنها لم تزدد إلا تخلُّفاً لأن العقل محتل بالثقافة التقليدية الثاوية القبابعة في بنيته العميقة، حيث تصيبه بالجمود وتفقده الحركة وتجعله يعيش في حالة سبات عميق، بل في موات…
إن أوروبا لم تتحرك فيها روح النهضة والتقدم نتيجة تلقيها لمعلومات جديدة أضافتْها إلى معلومات سابقة، وإنما حصل هذا التحول لأنها أدركتْ أنها كانت غارقة في مسلَّمات غير ممحَّصة وغير صحيحة فأفاقت من غفوتها واستجابت للأفكار المثيرة، فأشد الكشوف العلمية تأثيراً في بداية العصر الأوروبي الحديث هو اكتشافُ كوبر نيكوس، وهو اكتشافٌ فلكي لا علاقة له بالاقتصاد ولا بالسياسة ولا بالإدارة ولا بأي عمل تنموي مباشر، ولكنَّه مثَّل ثورة فكرية لأنه هزَّ المسلَّمات وأنتج لأوروبا عقلاً جديداً ووجَّه اهتمامات هذا العقل وجهات جديدة متعددة ومتنوعة. فالتأثير الكبير ليس للمعلومات ذاتها وإنما لدلالاتها الفلسفية والثقافية ولمستوى الاستجابة العامة لهذه الدلالة الكبرى الحاسمة. وتكمن أهمية الكشوف في مدى ما تهدمه من مسلَّمات وخرافات وأساطير، وما تثيره من تساؤلات ، وما تقدمه من أفكار ، وما ينجم عنها من تعبئة للعقل وما تفتحه من آفاق للفكر والفعل…
إن العلم ليس إضافة معلومات إلى معارف سابقة ، فالعقل البشري قبل ظهور العلم لم يكن في حالة انتظار، وإنما كانت له قناعات راسخة وكان مملوءاً بالثقة بمعارفه وتصوراته التي كان يُؤْمِن أنها ثابتة. فمهمة العلم المعرفة ليست الإضافة فقط، بل الأكثر أهمية هو إزالة الأوهام والأخطاء المستقرة في العقل وإحلال حقائق محلها وخَلْق تساؤلات حول محتوى الذهنيات ومسلَّمات الثقافة السائدة كما حصل نتيجة اكتشافات كوبرنيكوس؛ فقد كان الناس يعتقدون أن الأرض هي مركز الكون وكان هذا الاعتقاد راسخاً ومتوارثاً عشرات القرون فجاء كوبر نيكوس وقوَّض هذا الاعتقاد الخاطئ، وأحلَّ محله معلومات علمية صحيحة وممحَّصة. وبهذا أدرك الناس أن تصوراتهم التلقائية في كل المجالات لم تتعرَّض للفحص والتمحيص ، وأنها ليست مبنية على حقائق مختبرة وأن الكثير منها يتعارض مع الحقائق، ففتحوا أذهانهم لاستقبال الكشوف وإجراء التصحيحات. فالمعلومات والحقائق في أي عصر وفي أي مكان، لا تأتي إلى عقل فارغ وإنما تجيء إلى بنية ذهنية متشكلة ثقافيا ومنظومة من المعايير المستقرة المترابطة التي ينساب منها التفكير والسلوك تلقائياً…
تعود أصول نهضة الغرب إلى الفكر اليوناني في القرنين السادس والخامس ما قبل الميلادي، حيث تكمن عبقرية أفلاطون في عمق كتاباته وروعة شعريتها… فقد تناولت المحاورات، التي كان سقراط يديرها ببراعة، الإشكاليات الكبرى للإنسان، حيث سلطت الضوء على قضايا عديدة كالفضيلة والجبن والشعور بالزمن ونظام الحكم… لم يكن سقراط يُعَلِّم الفلسفة، بل كان يُعلِّم التفلسف تماما بالأسلوب نفسه الذي نادى به “كانط” Kant بعد قرون عديدة من بعده.
وبناء على ذلك، تعني التربية تطوير ما لدى الطفل من قدرات كامنة، ورعاية البذرة الموجودة فيه كي تبزغ وتنمو وتتطور وتثمر، فتؤتي أكلها… ليس الإنسان شيئا يُصنَع، وليس دور المدرس هو صناعة الإنسان ، بل دوره أقرب إلى دور «القابلة» (أو المولِّدَة)، ولن يتمكن المدرس من القيام بهذا الدور إلا بإثارة الدهشة أمام المشكلات العميقة للحياة. فكل شيء مدهش في العالم، لكن العادة تخدر الإنسان وتجعله لا ينتبه إلى ذلك…
ينبغي معرفة المعرفة عبر إنتاجها من قِبٓلِ المتعلم، ويقتضي ذلك وضع التلاميذ في وضعيات وسيرورات تدريسية تمكنهم من التفكير الذي يقودهم إلى اكتشاف المعارف وإبداعها وبنائها بأنفسهم. وهكذا سينخرطون في مغامرات ساحرة واختراعات عجيبة… وبما أنهم يبنون المعارف بأنفسهم، فإنهم لن ينسوا مبادئ مختلف العلوم التي تعلموها… لا يتعين على المتعلم أن يعرف كل تلك التفاصيل والطلاسم التي يدركها المختصون، بل ستغتني ثقافته بمعرفة المبادئ الأساسية لذلك العلم وتلك المعرفة وأسئلتهما الكبرى، وتاريخهما ومفاهيمهما، وأساليب إنتاج المعرفة في إطارهما، والأهداف البشرية التي يخدمانها… وهكذا سيشعر بالعلوم والفلسفة والفنون، مثلما يشعر الفلاحون الغارقون في ماء نهر بالسدود التي تتيح لهم استثمار أراض جديدة… يجب على المدرس أن يقود اكتشافات المتعلمين واختراعاتهم عبر خلق “وضعيات-مشكلات” وسيرورات وتوظيف عُدَّة تدريسية ملائمة لذلك… لكن يتعين عليه أن يبدأ بالبرهان على أنه لا يعرف، حيث إن المعرفة عالم مملوء بأسرار وألغاز لا نهائية ، يمكن للبشر السير تجاهها والاقتراب منها ، دون قدرتهم أبدا الإحاطة بها وامتلاكها كليا. كما أن المدرس الحكيم هو الذي يسمح لتلميذه بأن يفكر ويحفزه على طرح أسئلته ووجهات نظره وأفكاره واعتراضاته… حتى وإن كان مخطئا. فكثيرة هي الأفكار التي بدت تافهة لأول وهلة، وأصدر مدرسون عاديون أحكاما سلبية في حقها، لكن التطور العلمي أثبت صوابها لاحقا؛ من ذلك، على سبيل المثال، أن ذرة “بوهر” Bohr Niels اعتُبرَتْ من الأفكار الخاطئة في البداية، لكونها تتناقض مع نظرية الفيزيائي “ماكسويل” Maxwell، لكنها مع ذلك، مكنت من استشراف الآفاق وفتح السبل والآفاق في وقت لاحق…
هكذا، غالبا ما يُنظر إلى المتعلم اللامع بكونه مشاغبا لأنه يخالف العادات المدرسية ويتمرد عليها. ولهذا ينبغي أن نحترم ذلك التمرد ونعرف كيفية تدبيره بشكل مثمر. فلو كان “غاليلي” Galileo متعلما خنوعا واقتصر على الترديد الببغائي لما قاله أرسطو لما تأتت له معرفة حقيقة سقوط الأجسام التي كان مدرسه مخطئا فيها، لأنه كان يردد حرفيا ما هو وارد في نصوص أرسطو. لقد أكد هذا الأخير أن الحجر الثقيل يسقط بسرعة أكبر من الحجر الخفيف، لكن الفتى “غاليلي”، الذي كان يٓقِظا ومشاغبا، لم يتقبل هذه الفكرة التي كانت تبدو للناس سليمة لأول وهلة، فقام باختبارها للتأكد من صحتها أو بطلانها، فصعد إلى أعلى برج بالحجرين، فأكدت التجربة أنه كان على صواب، حيث سقط الحجر الثقيل والحجر الخفيف في الوقت نفسه، وبذلك برهنت تجربة هذا الفتى المشاغب على أنه رغم بطلان فكرة أرسطو، فإن السلطة الرمزية الكبيرة لهذا الأخير جعلت الناس يسلمون بصوابها على مدى عشرة قرون. وهذه هي طبيعة كبار العباقرة وحال البشرية معهم. فعندما يخطئ عبقري، فإن غالبية البشرية تؤمن بأنه على صواب، ولن تتمكن من تجاوز هذا الخطأ إلا بعد ظهور عبقري آخر، الأمر الذي قد يستغرق زمنا طويلا. ويكون العبقري ثوريا حين يكتشف حقيقة، لكنه يكون أكثر رجعية عندما يخطئ، وتكون المعرفة في بعض الأحيان تقليدا واجترارا…، وتكون في أحيان أخرى تجديدا واختراعا وإبداعا، وقد تجمع بينهما في آن. وهناك لحظات يمكن أن يكون المتعلم فيها مُجَدِّدا، فينتبه المدرس اليقظ إليه، فيقبل “تمرده” الإيجابي هذا ويحفزه على الاستمرار فيه، وعلى النقيض من ذلك، يرى المدرس عندنا، لإيمانه بثبات المعرفة وأبديتها، في هذا المتعلم عدوا شرسا له، ولا يرى فيه الإنسان الذي يجب عليه أن يحبه ويٌحٓفِّزه ويٌشجعه ويواكبه ويؤطره… إن هذا النوع الأخير من المدرسين ينخرطون في بناء مجتمع الاستبداد، حيث يكون كل إبداع خطرا، وتحل إيديولوجية النكوص والعنف محل العلم والمعرفة والتربية والنمو والتقدم … (Ernesto Sabato)
وخلاصة القول، إنه لا يمكن لمدرستنا المغربية اليوم، أن تٌكوِّن إنسانا مثل جاليلو، كما لا يمكنها أن تساعد المتعلم على بناء معارفه وبناء ذاته وقِيَّمه، إذ يكمن المشكل في ثقافتنا… ألا تتضمن ثقافتنا السائدة تصورات وتمثلات تتناقض مع العلم والمعرفة والفن من حيث طبيعتهم؟ ألا تحجب هذه التمثلات الواقع عنا؟ ألا تحول هذه التمثلات دون امتلاك أطفالنا القدرة على بناء المعارف والذوات؟ هل تعمل مدرستنا على التخلص من هذه الثقافة التي تعوق قيامها بدورها التربوي؟
فهل ستستطيع مدرستنا، بكل نزعاتها التقليدية، الانتصار على ذاتها وعلى ثقافة مجتمعها بتبني تدريسيات ورؤى بيداغوجية تلهم المتعلمين سبل طرح أسئلتهم الخاصة؟ وهل بمقدورها، وهي القائمة على مسلمات موغلة في النزعة التقليدية، أن تشجع الجيل الجديد على تجاوز الموروث والسائد وابتداع منطلقات حديثة جيدة لبناء المعرفة، تعتمد العقل والعقلانية مرجعين لها؟ وهل لها إمكانية تخصيب خيال المتعلم لكي يعي أن المعرفة إبداع قبل أن تكون نقلا واتباعا وتأسيسا على ما سبق؟ طبعا لا، لأن إصلاح التعليم يقتضي نهضة ثقافية مجتمعية حداثية تقطع مع فرامل النزعات التقليدية وعوائقها وعٌقٓدِها…