بوبكري يكتب: الدول تصنع جيوشها والجيش يصنع الدولة في الجزائر

محمد بوبكري

صرح « عبد المجيد تبون » في آخر مقابلة إعلامية له قائلا: إن الجيش قد خرج من المشهد السياسي الجزائري، وهذا ما لا يمكن أن يصدقه أحد، لأن الرأي العام الجزائري والرأي الدولي مقتنعان بأن العسكر يستولون على المشهد السياسي في الجزائر، ما حولها إلى ثكنة عسكرية يطغى عليها الاستبداد.

وهذه هي عادة رؤساء الجزائر، حيث عندما يصل أحدهم إلى السلطة، يتحدث عن احترافية الجيش، وعدم تحكمه فيه. وهذا ما فعله « عبد العزيز بوتفليقة » الذي تطرف في كلامه ووجه رسائل قوية للعسكر، لأنه اختزل الجزائر في شخصه، حيث قال:  » أنا ممثل الجزائريين »، » أنا تجسيد للجزائر برمتها، ولا يمكن لأي مؤسسة في البلاد، بما في ذلك الجيش الوطني الشعبي، أن تلتهمني، وقولوا للعسكر أن يلتهموني، إن استطاعوا ذلك ». وكانت هناك معارك بين « بوتفليقة » والجنرالات، عرفت توقيفات واعتقالات في صفوف العسكر، بل إنها وصلت إلى إقالة « الجنرال « توفيق محمد مدين » وآخرين…

وإذا عدنا إلى كلام « تبون »، وجدناه يقول:  » إن الجيش قد بلغ درجة من الاحتراف والمهنية، فابتعد عن السياسة »، وهذا الكلام غير منطقي، بل إنه مجرد مديح خانته العبارة. فلا يمكن أن يقبل الشعب الجزائري هذا الكلام ويقتنع بخروج الجيش من السياسة لمجرد أن « تبون » قال ذلك، لأن الواقع يؤكد العكس؛ أليس الجيش هو الذي جاء بـ »بوتفليقة » إلى السلطة؟ أليس الجنرال « القايد صالح » هو من قام بإقالته واعتقال أخيه؟ أليس الجنرال  » القايد صالح » هو الذي فرض « تبون » نفسه « رئيسا »؟ ألم يقم الجنرال « سعيد شنقريحة » بإعادة الجنرالين « خالد نزار » و »توفيق محمد مدين »، وإلغاء الأحكام الصادرة في حقهما وإغلاق ملفاتهما؟ أليست هذه القرارات سياسية بامتياز؟ أليس العسكر هم من يصنعون الرؤساء والحكومات والبرلمانات…؟ فقائد الأركان هو دوما الحاكم الفعلي للجزائر، ونشرة الثامنة تغطي أنشطة « الرئيس » ورئيس الأركان، وأنشطة الجنرالات، وافتتاحيات مجلة الجيش تخوض دوما في السياسة. قد يقول قائل: إن الحديث في السياسة لا يعني الانخراط في ممارستها، لكن كيف يمكن أن يخوض الشخص في الحديث عن السياسة دون ممارستها؟ لا يخوض في الحديث في هذا المجال إلا من يمارسه. لذلك فالخوض في السياسة هو ممارسة لها ولو بصفة غير مباشرة. صحيح لقد كان الجنرالات، سابقا، أعضاء في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير، حيث كانت هناك فترات يمارس فيها العسكر السياسة بشكل مباشر، وأخرى بشكل غير مباشر، واليوم يقوم الجيش اليوم بصنع كل القرارات السياسية والاقتصادية بطريقة غير مباشرة، لأنه قرر تسيير البلاد من خلف الستار، لأن الجنرالات قرروا الحكم من خلف رئيس مدني ليتحمل مسؤولية ما يتخذونه من قرارات. هذا ما يفعلونه اليوم مع « تبون » الذي يعي ذلك جيدا، ولا يتردد في تضليل الجزائريين، مع أنه مجرد ممثل في مسرحية كتبها وأخرجها الجنرالات. لكن انتهازيته جعلته يبالغ في مديح العسكر من أجل كسب ودهم للحفاظ على كرسيه، ما جعله يتحول إلى آلة لتفريخ الكذب والتضليل…

هكذا، فالجيش لم يغادر السياسة أبدا، بل إنه غارق فيها حتى النخاع، حيث يؤكد بعض الخبراء في الشأن الجزائري أنه إذا كانت القاعدة العامة كونيا تقول: إن الدول هي التي تصنع جيوشها، فالجيش هو الذي صنع الدولة في الجزائر.

وأضاف « تبون » قائلا: الجيش الجزائري من أكثر جيوش العالم انضباطا ووطنية، وهو يطبق أوامر الرئيس، وهذا كلام مجانب للصواب، إذ يبالغ هذا الشخص ويمارس أقصى درجات الكذب، لأن الجيوش خاصيتها الانضباط، لكن الجيش الجزائري لا يخضع لأوامر الرئيس، ولا يرضى بالخضوع إلى صنيعته، بل إن « تبون » هو الذي يطبق أوامر الجنرالات، ولا يكف عن مدحهم. وقد نسج « تبون » هذه الكذبة على منوال ما قاله عن المنظومة الصحية الجزائرية التي اعتبرها أحسن منظومة صحية في شمال أفريقيا وإفريقيا كلها، لكن هذه الكذبة تعرت بمجرد ما مرض ونُقِلَ إلى ألمانيا ليخضع للعلاج هناك…
و
من باب التزوير أن « تبون » يقول عن نفسه: « أنا وزير الدفاع الوطني »، و »أنا القائد الأعلى للقوات الجزائرية ». فهذا الكلام مخجل هدفه التضليل، لأنه ينسجم مع مشيئة العسكر الذين اختاروا التواري عن أعين الشعب الجزائري حتى لا يحاسبهم أحد، فهم اتخذوا « تبون » قناعا يرتكبون خلفه جرائمهم بهدف تحميله مسؤوليتها، لأنهم يتوهمون أن ذلك يمكنهم من الحفاظ على عذريتهم السياسية…

ولا يخفى على أحد اليوم أن الجيش كان منخرطا كلية في السياسة منذ بداية ستينيات القرن الماضي، لأن العقيد « هواري بومدين » هو أول من مكن الجيش من الهيمنة على الحياة السياسية في الجزائر، حيث أصَّل داء الاستبداد الذي ما تزال الجزائر تعاني منه إلى اليوم. لقد كان الجنرال « خالد نزار » عضوا في المجلس الأعلى للرئاسة، كما أن « تبون » ينفذ اليوم خطط الجنرالات الشيوخ خالد نزار وتوفيق وشنقريحة، ما يدحض كلامه ذاته.

لقد حدث في عهد « بوتفليقة » أن ابتعد الجنرالات ظاهريا عن السياسة، لكن ذلك لم يكن نابعا عن قناعة مبدئية، بل كان خوفا من تحميلهم مسؤولية ملفات خرق حقوق الإنسان في تسعينيات القرن الماضي، حيث قرروا التواري مؤقتا عن الأنظار تجنبا للضغوط الدولية…

كما قال « تبون » في هذا اللقاء مع الصحفيين:  » إن الجيش أقوى سندا للجزائر ». وهذا الكلام يعود إلى أن الجيش هو من جاء بهذا الشخص إلى السلطة، وهو من أرسله إلى الخارج للعلاج على نفقة خزينة الجزائريين. وهذا ما جعله يقول هذا الكلام، لأنه يريد كسب ود الجيش وثقته. فعلا، إن الجيش يشكل سندا له، لكن دون أن يكون سندا للجزائر ولا للشعب الجزائري، لأنه نهب أموال البلد وهربها، ما تسبب في تفقير الجزائريين، وضرب الحريات، وعرقل تطور المجتمع حتى لا يبرز مجتمع متعدد يتوفر على تنظيمات متنوعة تطالب بحقها في تدبير الشأن العام… ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الجيش مارس العنف على الجزائريين، وهمش مناطق بأكملها وأقصاها من حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسلط قمعه الوحشي على أبنائها لمجرد أنهم تظاهروا سلميا مطالبين بحقوقهم المشروعة. وهذا ما جعل بعض المناطق تطالب بالانفصال، ما يعني أن الجنرالات هم الذين تسببوا في ردود الفعل هذه التي قد تهدد الكيان الجزائري. هكذا، فالجيش لا يشكل سندا للجزائر، ولا للجزائريين، بل إنه يشكل سندا لنفسه ولـ « تبون » الذي تحول إلى بوق للجنرالات. وعلى هذا الشخص أن يعلم الجنرالات لا يثقون في بعضهم البعض، حيث قد يفتكون ببعضهم البعض إذا اشتد ضغط الحراك الشعبي عليهم. كما قد يبعدون « تبون » كما فعلوا مع بوتفليقة، واستبدلوه بـ « تبون »…

فضلا عن ذلك، لم يتوقف الجنرالات عند حدود التورط في أوحال السياسة، بل تورطوا في قضايا الفساد، حيث تم اعتقال بعضهم وإبعادهم في عهد « بوتفليقة » بسب ملفات فسادهم، ومنهم الجنرال « طرطاق » و »توفيق مدين » وآخرين:
وأضاف « تبون » قائلا: « الجيش يحمي الدستور ». وهذا كلام غير موزون لا ينهض على أي منطق سليم، حيث ينم عن جهل هذا الشخص بأبسط المبادئ الدستورية العامة؛ فالجيش يحمي الوطن، ولكنه لا يحمي الدستور، لأن هذا الأخير وضع مؤسسات لحمايته، في حين يفرض الجيش في الجزائر دستوره الذي يخول له كل الصلاحيات، لأنه يمنح شرعية مطلقة لانقلاباته… وأسأل « تبون »: « هل يقبل الجيش المشاركة الشعبية في وضع الدستور؟ هل يمارس هو نفسه صلاحياته كما هو منصوص عليها في هذه الوثيقة؟ ولماذا هذا الصمت؟ هكذا، فإن هذا الشخص يقول عكس قناعته، ما يعني أنه يمارس النفاق لإرضاء الجنرالات، رغم أن ذلك يضر بالجزائر والجزائريين معا، كما أنه ينفي وجوده، لأنه يقوم بمحو ذاته وينبطح على بطنه أمام الجنرالات، ما يدل على أنه ليس ذاتا، وأن انتهازيته جعلته لا يعترف بذاته، فصار يمارس النفاق والكذب والتضليل…

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *