بوبكري يكتب: العلم والمعرفة أساس قوة الدولة والمجتمع والأفراد

محمد بوبكري

تفيدنا دروس التاريخ أن العلم والمعرفة شكلا دواما دعامة للسلطة عبر التاريخ الحديث، كما أنهما ساعدا على قيام الدولة على مأسسة فعلية، حيث ساهما في تكوين الفرد والمواطنة، مما ساعد على تطور المجتمع بمختلف مؤسساته. لذلك، لا يمكن الفصل بين البناء المستمر للوطن والمواطن وتقويتهما.

لقد كان العلم مصدر اعتزاز وفخر وقوة بالنسبة لأمراء النهضة في الغرب. ومع تطور الدولة الوطنية تمكنتْ من امتلاك قوة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان المؤرخون يغتبطون لعثورهم في الاَلات الحربية التي صنعها أرشميدس للملك هيرون Hieron عن التحالف بين العلم والمعرفة السلطة، فإن الفلاسفة يرددون شذرات فرنسيس بيكون وديكارت التي نظر كلاهما، بطريقته الخاصة، إلى العلاقة بين العلم والسلطة باعتبارها وسيلة لمراقبة الطبيعة والمجتمع وضبطهما. فالتقارب النسقي بين العلم والسلطة حديث جدا، وظل مؤطَّرا بالتطورات التاريخية. وفعلا، فقد ساعدت إقامة الأكاديمية العلمية ومراكز البحث ومعاهده أهل السلطة على اكتساب معارف علمية لمواجهة التحديات التقنية والعسكرية والاقتصادية لدولهم.

ويجد هذا الارتباط بين العلم والسلطة لنفسه تعبيرا مختلفا في الغزوات والبعثات التي قام بها العلماء الأوروبيون، مما مكن القوى العظمى تدريجيا من التحكم في العالم بأراضيه وبحاره، وساعدها على اكتشاف الثروات التي توجد في بطن الأرض وأعماق البحار. كما أدى إلى مراكمة البلدان الغربية لثرواتها والزيادة في رساميلها، مما مكنها من امتلاك سلطة على العالم والتحكم فيه عبر تطوير إستراتيجيات سياسية وعلمية وعسكرية، حيث صار التحالف بين العلم والسلطة لا رجعة فيه سواء تعلق الأمر بمؤسساتهما أم بتطبيقاتهما.

وقد تجسد ذلك بشكل جيد في فرنسا إبان حكم نابوليون، حيث تم تكريس المجهودات العلمية لتطوير أسلحة لمواجهة التهديدات الخارجية وضمان الأمن الغذائي للشعب وللفيالق العسكرية، كما تم تطوير الاقتصاد والصناعة. وبالموازاة مع ذلك، تم مضاعفة مؤسسات إنتاج العلم والمعرفة، وتكوين أعداد كبيرة من العلماء وتأهيلهم مهنيا ليتحملوا مسؤولية تدبير المؤسسات الإدارية والسياسية والعسكرية لاحقا. وقد أدى ظهور القمر الصناعي في القرن العشرين إلى جعل العلم أداة قوية للهيمنة الاقتصادية والعسكرية. وكانت هذه الصلة قد تجسدت قبل ذلك، بشكل واضح، في تفوق الصناعة الكيماوية في القرن التاسع عشر، حيُث كرست الولايات المتحدة الأمريكية كل مجهوداتها من أجل السير على نهج ألمانيا في هذا المجال، فأقامت معاهد وجامعات كبرى للبحث العلمي، مما مكن هذه الأخيرة من الانخراط في تطوير مشاريع لصالح كل من القطاع الخاص والعمومي بشكل متنام. وقد تطورت العلاقات بين الجامعات الأمريكية وعلمائها، حيث شجعت حكومات الولايات المتحدة خلال القرنين نفسيهما (التاسع عشر والعشرين) على تكريس العلم لإنتاج السلاح والتجارة فيه من قبل القوى الغربية والشركات المتعددة الجنسية آنذاك، الأمر الذي أصبح مفروضا من جديد بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث قامت دول، كأمريكا وبريطانيا وأستراليا وكندا، بتأسيس مجالس وطنية للبحث العلمي وإدماج المؤسسات والمقاولات العلمية في الاستعداد لمواجهة ما قد ينجم عن الاقتصادية والأزمات الاجتماعية والحروب العسكرية التي يُمكن أن تُفرض عليها.

وقد صار معلوما أن السياسة المتبعة في مجال البحث العلمي توجد في أصول تطور العلوم الاجتماعية، فضلا عن جعل هذا البحث رافعة للتنمية التكنولوجية والاقتصادية…. وهذا ما يفسر السلطة والأهمية الكبيرتين اللتين حظي بهما البحث العلمي في أواخر القرن العشرين، وكونه أصبح أيضا وسيلة للسلطة الاجتماعية، ولنفوذ الدولة الراعية، وأداة لتوسع نفوذ الشركات الكبرى وانتشارها. لقد أصبح اليوم مطلوبا من المختصين في العلوم الاجتماعية أن ينتجوا المعارف التي تساعد على معرفة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها كل من المجتمع والحكومات والمقاولات الخاصة وإيجاد حلول لها.

وقد مكن كل من توفير معارف حول السكان والمجتمع، وخصوصا الإحصاء الاجتماعي والاقتصادي، من بناء فضاء للحريات التي تؤطر سلوك الأفراد في أفق تدبير عقلاني للشأن الاقتصادي والاجتماعي. وإذا كان كل من ظهور النيوليبرالية ونهاية الحرب الباردة قد أديا إلى نوع من الجمود في مؤسسات البحث العلمي في ثمانينيات القرن الماضي، فإنه سبق للشركات متعددة الجنسيات والعلاقات أن لجأت منذ نهاية القرن التاسع ِعشر إلى اعتماد المعرفة العلمية لتثبيت سلطها وتركيز المعلومات لديها من أجل الاستئثار بها والاستحواذ عليها وصياغة القوانين والاتفاقيات الدولية. وقد شجعت عولمة المبادلات الاقتصادية على تنظيم لقاءات دولية لتحديد المشكلات ومحاولة تطوير حلول لها. كما تم، عبر ذلك، تحديد سلوكات الدول والمقاولات والمؤسسات العلمية وانخراط هذه الأخيرة وعلمائها، في العمل على مستوى آخر لوضع نظام يدبره علماء السلطة ابتداء من القرن السادس عشر.

عندما أتأمل تاريخ العلم وإبداعاته وتطوره وما نجم عن ذلك من تحولات حضارية واقتصادية ومعلوماتية واجتماعية وسياسية وتقدم في مختلف الميادين، ترد على ذهني أسئلة من نوع: هل يقيم نظامنا التعليمي المغربي علاقات سليمة مع مختلف العلوم والمعارف؟ هل يواكب الانفجار المعرفي الذي تعرفه مختلف المجالات المعرفية والحقول العلمية؟ إضافة إلى ذلك، فالمتعلم المغربي لا يفكر من داخل المادة الدراسية العلمية، ما يعني أنه لا يكتسب منطقها، ولا يتذوقها، كما أنه لن يكون قادرا على توظيفها لاكتشاف العالم من حوله ومعرفة نظامه وكيفية اشتغاله وإنتاج معارف حوله…

فضلا عن ذلك، فمفهوم مدرستنا للتدريس يفصل بين المعرفة والقيم، ما يعني أن مفهوم التدريس عندنا لا يفهم طبيعة كل من العلم والمعرفة والقيم، كما أن أساليب التدريس في مدرستنا تفصل بين النظرية والممارسة، وبين العلوم الحقة والآداب والإنسانيات. لذلك يغدو ضروريا طرح التساؤلات الآتية: ألا يشكل هذا ضربا لملكة الخيال لدى المتعلم؟ ألا يدل هذا على أن القائمين على المدرسة عندنا لا يعرفون أن ألبيرت أينشتاين قد اكتشف نظرية النسبية عن طريق الحدس قبل أن يبرهن عليها بالمعادلات الرياضية؟ ألا يجسد هذا عدم وعيهم بدور الآداب والفنون والإنسانيات في تطوير العلوم والمجتمعات فكريا وماديا؟

فوق ذلك، فمفهوم مدرستنا للتدريس تطبعه نزعة تقنوية تتعارض مع طبيعة المواد الدراسية، بل تنسفها نسفا. كما أن مفهومها هذا يفصل بين المعرفة والقيم، ما يعني أن مفهوم التدريس عندنا لا يفهم طبيعة كل من العلم والمعرفة والقيم. فوق ذلك، يفصل المفهوم السائد عندنا حول التدريس بين التقويم والتعلم، مما جعل منظومتنا التربوية تعاني من تشوه كبير، حيث إنها لا تنظر إلى العملية التعليمية التعلمية بكونها سيرورة، مما يتناقض مع طبيعتها. ويعود كل هذا إلى أن الثقافة العربية الإسلامية التقليدية المنغلقة متوغلة في مجتمعنا ومنظومتنا التربوية، مما يعني أننا في حاجة إلى تحديث نظامنا التعليمي، الأمر الذي يمكن أن يساعد بدوره على إحداث تحول في ثقافة مجتمعنا الراهنة التي تناهض العلم والمعرفة والمجتمع ومؤسساته والإنسان. وبدون تحديث منظومتنا التربوية لا يمكن عقد تصالح بين العلم والمعرفة والمجتمع ومؤسساته.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *