تحرير الذاكرة: هل إقترب العلم من الخيال العلمي؟

قبل الحديث عن “تحرير الذاكرة Memory Edit “، وإلى أي مدى ذهب الخيال العلمي بمحبّيه في هذا الأفق، وهل لازال البون بينه وبين العلم يحسب بالسنين الضوئية، علينا أن نعرف أولًا أن الذكريات تصنعها خبرات الحياة التي عشناها. أنت مثلًا تحب محشي ورق العنب، يسيل لعابك أمامه الآن لأنك سبق وتمتعت والتهمت منه على مدار حياتك عشرات الأطباق التي صنعتها لك أمك بكلِّ حب ومهارة . لكن ماذا لو كان حبك للمحشي لم يكن إلا نتيجة لخبرات وذكريات قام بزراعتها شخص آخر في عقلك دون أن تدري؟

تعدُّ عملية استزراع الذاكرة أحد أنواع تحرير الذاكرة التي تناولها أدباء الخيال العلمي من قبل ظهور علم الأعصاب أو حتى علم النفس الحديث. ونقصد بمصطلح تحرير الذاكرة Memory Edit، وفقًا لموسوعة الخيال العلمي الشهيرة، زراعة أو مسح ذاكرة أو بعض ذكريات شخص ما سواء رغمًا عنه أو بمحض إرادته. ولقد شغلَ هذا الموضوع مكانًا بارزًا في العديد من روايات الخيال العلمي التي سلبت عقول القرّاء من العامة والمتخصصين في علوم الأعصاب وعلم النفس. وكان أيضًا موضوع دراسة وتجارب علمية هامة جرت في السنوات الأخيرة.

واستهلالًا، سأقوم باستعراض سريع لعدد من روايات الخيال العلمي التي تناولت موضوع التلاعب بالذاكرة:

أولا: تحرير الذاكرة في الخيال العلمي
١- دار تنظيف الذاكرة
تناولت هذه الرواية ( The Memory Clearing House) تأليف ازرائيل زانجويل ( 1864- 1926) عملية نزع بعض الذكريات وإضافة أخرى يتم اقتراضها من أشخاص آخرين باستخدام تكنولوجيا متطورة اسمها المؤلف النيموجراف أو كاتب الأفكار.

2- تشويه العقول
تناولت هذه الرواية (Mindwarper)، وهي من تأليف اريك فرانك رسل موضوع زراعة ذكريات وأفكار جديدة في رؤوس العلماء والباحثين الأمريكيين باستخدام جهاز إلكتروني متطور، لتدمير توازنهم الذهني، ولتحميل عقولهم بشعور رهيب من الذنب نتيجة تذكُّرهم جريمة قتل يظنون أنهم ارتكبوها.

٣- المدينة والنجوم
يقوم الناس في رائعة أرثر سي كلارك ( The City and Stars) باختيار أي من الذكريات تصاحبهم في بعثهم الجديد في صورة تكنولوجية، والتخلّص من الباقي.

٤- فيلم Inception
في هذا الفيلم الرائع، قام ليوناردو دي كابريو بتمثيل دور لص من نوع خاص يسرق الأفكار من خلال الولوج إلى أحلام كبار أصحاب الشركات ومشاركتهم إياها. قام رجل أعمال بتكليف دي كابريو بزراعة فكرة داخل عقل أحد منافسيه لتبدو الفكرة كأنها من بنات أفكار هذا الرجل.

٥- فيلم eternal sunshine of the spotless mind
قام بطلا هذا الفيلم، بعد انفصالهما عن بعض، كلامنتين ( كايت وينسلت) وحبيبها چويل ( جيم كاري) بإجراء عملية جراحية لمسح ذكريات علاقتهما تمامًا للتخلِّص من كل الآلام التي صاحبت هذه العلاقة.

ثانيًا: تحرير الذاكرة في علم الأعصاب
1- كيف نتخلّص من ذكرى معينة أو نضيف أخرى عن طريق العلم؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب علينا في البداية أن نفهم كيف تتكون الذكريات، وكيف تظل حية في عقولنا. في الماضي، كان علماء الأعصاب يظنون أن الذكريات تُخزن في موقع واحد محدد يشبه إلى حد كبير دولاب الملفات، لكن الأمر اختلف الآن حيث اكتشف العلماء أن كل ذكرى منفردة تُخزن في الروابط العصبية في المخ.

ولشرح ذلك ببساطة، فإن أي ذكرى تتكون عندما يثير نوع من البروتينات خلايانا العقلية لتنمو وتشكل روابط عصبية جديدة – بمعنى خلق توصيلات جديدة بشبكة خلايانا العصبية. وعندما يحدث هذا، يتم تخزين هذه الذكرى في عقولنا، و تظل هذه الذكرى هناك طالما نستدعيها أو نفكر فيها من وقت لآخر.

يظن بعض الناس أن الذكريات طويلة الأجل مستقرة وثابتة ، لكن الحقيقة أنه عند استدعاء هذه الذاكرة والتفكير فيها تصبح مرنة، ويعاد تشكيلها عبر الوصلات العصبية لتصبح أكثر قوة وحيوية عن ذي قبل.

وتعرف هذه العملية بالتعزيزreconslidation، وهي تفسر لماذا تتغير ذكرياتنا بشكل طفيف بمرور الوقت – على سبيل المثال، إذا سقطت يومًا من فوق ظهر الحصان، فإن كل مرة تتذكر هذا الحادث، تشعر بالألم، وهذا يعزز من الروابط بين هذه الذكرى ومشاعر مثل الخوف والحزن. وفِي النهاية يصبح مجرد التفكير في الحصان كافيًا لإثارة مشاعر الخوف بداخلك.

تعد عملية التعزيز هذه شديدة الأهمية، لأنها النقطة التي عندها يمكن للعلماء التدخل وتحرير الذكريات بالحذف أو الإضافة.

و تشير أبحاث علم الأعصاب إلى أن الذكريات يمكن التلاعب بها بالتغيير حذفًا أو إضافة لأن الذكريات تتصرف كما لو أنها مصنوعة من زجاج سائل قابل للتشكيل أثناء عملية خلقها، بعدها تتماسك ليصبح الزجاج صلبًا، و يصبح سائلًا مرة أخرى عند استدعاء هذه الذكرى، ومن ثم يمكن تغييره قبل أن يتحول صلبًا مرة أخرى.

٢ -الخوف من العناكب ومنع النوربينفرين

أثبتت العديد من الدراسات أنه من خلال منع مادة كيميائية اسمها نوربينفرين norepinephrine – وهي تفرز في رد فعل المخ الخاص بمبدأ ” الهرب أو الحرب”، ومسؤولة عن إثارة أعراض جسدية مثل تعرق الكفين، وتسارع دقات القلب – يمكن للباحثين تثبيط الذكريات المؤلمة المتعلقة بالصدمات، وتمنع من ارتباطها بمشاعر سلبية.

ولقد تمكن الباحثون في هولندا من علاج أشخاص مصابين بالخوف المرضي من العناكب ( فوبيا العناكب ) وذلك باستخدام عقار اسمه بروبرانولول propranolol لمنع إفراز النوربينفرين.

ولقد تم اختبار هذا العقار مرة أخرى في٢٠٠٧ على ضحايا صدمات سابقة. وتم إعطاء المشاركين إما عقار البروبرانول أو العلاج الوهمي placebo كل يوم لمدة ١٠ أيام، وطُلب منهم وصف ذكرياتهم عن هذه الصدمات.

ولَم ينسى هؤلاء الذين أخذوا هذا العقار الصدمة، ولكن بعد أسبوع استطاعوا إعادة سردها لكن دون شعور شديد بالتوتر مثلما كان يحدث في السابق. ولقد تم استخدم نفس الأسلوب لجعل فأر ينسى أن صوتًا معين كان يسمعه هناك يرتبط مع صدمة كهربائية، دون أن يحدث تغيير في الذكريات نفسها.

٣ – تجربة زراعة الذاكرة في الحلزون الأزرق
وفقًا لآخر بحث منشور في عدد مايو ٢٠١٨ من مجلة eNeuro المختصة بعلم الأعصاب، قام فريق من الباحثين في جامعة كاليفورينا بلوس انجلوس USLA، في تجربة هي الأولى من نوعها، بزراعة ذاكرة كائن حي في كائن آخر. وتحديدًا، قام الباحثون بنجاح بنقل الجزيء الوراثي RNA من حلزون بحري snail إلى حلزون آخر.

قام الباحثون بتعريض الحلزون ( الواهب للذاكرة) لسلسلة من الصدمات الكهربائية الخفيفة على منطقة الذيل، على مدار يومين. وعند أي تهديد لهذه الحلزونات تقوم بإبعاد ذيلها.

لاحظ الباحثون أنه عندما يتم لمس الحلزون لمسة خفيفة تقوم الحلزونات التي تعرضت لصدمة كهربائية بسحب ذيلها لمدة تزيد عن نصف دقيقة كرد فعل دفاعي يعكس أنها واعية لما قد يحدث لها. أما الحلزونات الأخرى ( المجموعة الثانية ) التي لم تتعرض لهذه الصدمات فكانت تسحب ذيلها فقط لمدة ثانية أو ثانيتين.

قام العلماء باستخلاص جزيئات ال RNA من الجهاز العصبي للحلزونات البحرية التي تلقت على ذيلها صدمات كهربائية ( المجموعة الأولى ) التي لم تتلق صدمات. وتم حقن جزئيات ال RNA من المجموعة الأولى في ٧ حلزونات بحرية أخرى لم تتعرض لأي صدمات، وحقن جزيئات ال RNA من المجموعة الثانية في ٧ حلزونات أخرى ( مجموعة ال control )، والتي لم تتلق أي صدمات.

المدهش أنه عندما تم لمس ذيل الحلزونات التي نقلت إليها جزيئات الحلزونات الأولى، كانت تسحب ذيلها لمدة تزيد عن ٥٠ ثانية، كأنها تذكرت خبرات سابقة بصدمات كهربائية على الذيل، وهذا لم يحدث بالفعل.

الخلاصة
إذا كان الخيال العلمي كعادته سباقًا في الحديث والكشف عن موضوعات تحرير الذاكرة محوًا وإضافة، فإن العلم بدوره قد قطع خطوات كبيرة في هذا الطريق.

وحتى الآن لم يحاول الباحثون محو ذكرى ما بالكامل من البشر بسبب اعتبارات أخلاقية، لكن هناك أدلّة كثيرة على أن هذا ممكن بالمزج المناسب بين العقاقير وتمارين التذكر. وربما الأكثر قلقًا في هذا الشأن هو زارعة ذكريات غير مزيفة. باستخدام نفس آلية التعزيز، حيث بات من الممكن أن نجعل الناس تتذكر جريمة لم ترتكبها أبدًا – بل وحتى سرد تفاصيل حية ودقيقة جدًا عن هذه الجريمة الخيالية.

وعلى أي حال، وعلى الجانب الأكثر تفاؤلا، بات من المتوقع أيضًا باستخدام هذه الآليات أن يتمكن الباحثون من علاج القلق واضطراب ما بعد الصدمات، والأنواع المختلفة من الفوبيا، والزهايمر.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *