جماعة العدل و الاحسان …. الواقع والمآلات

رغم الحظر الذي يطال انشطتها و فعلها داخل المجتمع ، تبقى جماعة العدل و الاحسان احدى اهم مكونات الساحة السياسية بالمغرب ، اولا باعتبار عدد اتباعها و مناصريها الكبير و ثانيا باعتبار مواقفها و أراءها السياسية المتصادمة مع النظام السياسي .
فالجماعة التي تأسست في اواسط السبعينات من القرن الماضي على يد الاستاذ عبد السلام ياسين ظلت وفية لنهجها المزدوج الاهداف ، فهي في نفس الوقت جماعة دينية تدعو الى تطبيق الشرع و الدين ، و في نفس الوقت هي جماعة ذات توجهات سياسية واضحة ، تدلو بدلوها في كل القضايا و الاشكاليات السياسية بالبلاد .

هذه الازدواجية التي تميز عمل و فعل و فكر الجماعة يربط اطرافها خيط ناظم رفيع ، فهي جعلت هدف و اساس وجودها و خط « نضالها » مربوط بعودة حكم الدولة الى منهاج النبوة ، او بمعنى اوضح فهي تسعى الى فرض الخلافة الاسلامية كنموذج سياسي و ديني لتدبير الدولة و المجتمع .
و كباقي الحركات الاسلامية ، التي تجعل من الدين اساس مشروعها السياسي و المجتمعي ، استطاعت جماعة العدل و الاحسان ، ان تجد لها موطأ قدم ، بل مكان فسيحا داخل مجتمع محافظ يقدس الدين ، و وتمكنت كذلك من النفاذ الى شتى المجالات المجتمعية من جامعات و نقابات و جمعيات و اشكال تنظيمية اخرى .

و جود و تطور الجماعة ، رافقته دينامية كبيرة على كافة المستويات ، استطاعت من خلالها ، بناء الة تنظيمية قوية ، محكمة و متشعبة ، يصعب اختراقها او التأثير فيها و في اعضائها ، فهي تعتمد على نظام عمل و تدبير شبه سري ، يضمن انغلاق قنوات السيطرة على اجهزتها و هياكلها التنظيمية و القيادية .

فعل الجماعة داخل المجال السياسي المغربي ، لم يخلو من مظاهر الصدام و المواجهة مع باقي الفاعلين، و خاصة قوى اليسار ، التي ضلت الجماعة لسنوات تعتبرها عدوها الاول ، الذي يتوجب محاربته و التصدي له على كافة المجالات و الاصعدة ، و هكذا وظفت الجماعة كل امكانياتها و طاقاتها لمواجهة و محاصرة امتداد اليسار ، و خاصة في الجامعات ، حيث شهد الكل الانزالات الكبيرة التي قامت بها الجماعة في عدد من المواقع الجامعية في بداية التسعينات ، و كيف تورط اعضاؤها في عديد من اعمال العنف ضد مناضلي و مناضلات المكونات اليسارية المغربية .

تراكم التجربة و تطور و تلاحق الاحداث السياسية و تسارعها بالمغرب ، سيفرض بلا شك على الجماعة ، تغير استراتيجيتها و طرق اشتغالها ، كما سيدفعها الى التفكير الجدي في ضرورة تغير تصوراتها و مواقفها السياسية ، بما يضمن لها امكانيات الاستمرار و التطور في افق تحقيق مشروعها المجتمعي.

رحيل عبد السلام ياسين مؤسس الجماعة و منظرها الاول و الحصري الذي ارتبطت به و بمواقفه و تصوراته و رؤاه لسنوات طويلة ، سيخلف فراغا كبيرا داخل الجماعة ، و سيطلق العنان لمجموعة من الاصوات داخلها للتفكير بشكل علني حول مألات الجماعة و مصيرها ، و عن ازمة الانسداد في الافق الذي باتت تعاني منها ، خاصة في ضل فشل استراتيجيتها و منطقها في تحقيق اهدافها و مشروعها الذي أسست من اجله .

لن نعيش في جلباب عبد السلام ياسين

مباشرة بعد وفاة عبد السلام ياسين ، طفت الى سطح جماعة العدل و الاحسان ، مجموعة من الاختلافات و التباينات التي كانت مختفية بين اعضاءها ، وشاهدنا كيف انقض صقورها على ألتها التنظيمية ، و كيف عملوا على ابعاد المقربين من زعيمها الراحل و في مقدمتهم نجلته نادية ياسين ، و كيف اخدوا مسافة كبيرة من عدد من طروحاته و مواقفه التي جرت على الجماعة مجموعة من الانتقادات و الاعتراضات داخليا و خارجيا (الرؤى و الاحلام ) ، لتنخرط الجماعة في تبني خط سياسي جديد أكثر عقلانية و انفتاحا .

الدولة المدنية في افق دولة الخلافة

يبقى موقف الدولة المدنية الذي رفعته و سوقت له حركة العدل و الاحسان ، كقناعة سياسية جديدة ، اهم تغير حصل على خطها السياسي و قناعاتها الفكرية ، منذ تأسيسها ، فالجماعة ألغت دائما في أدبياتها و مواقفها ، التنوع الحاصل في بينية المجتمع المغربي ، و رفضت كل مبادئ و شروط قيام الدولة المدنية ، فهي كانت تعتبر ان الدولة يجب ان تحكم و تدار بمنهاج النبوة الاول ، و ان الاسلام و تطبيق الشريعة هو الحل ، و وظفت كل امكانياتها و طاقتها لإحقاق ذلك.

موقف العدل و الاحسان الجديد من الدولة المدنية و تبنيها لها كشعار جديد لعملها و فعلها السياسي ، أملته مجموعة من المتغيرات و الضرورات ، التي فرضت عليها الانصياع لهذا الطرح ، فالجماعة وجدت نفسها بمعية مجموعة من الفاعلين و الشركاء في ميدان الاحتجاجات التي عرفها المغرب في سنة 2011 في خضم الربيع العربي ، و رأت ان شروط التغير داخل المغرب اصبحت اكثر نضجا و تتطلب القيام بتنازلات مهمة في سبيل تثبيت اقدامها داخل المرحلة السياسية الجديدة ، و انه من السذاجة السياسية تبنى مواقف خاصة داخل هذه الموجة الاحتجاجية الكبرى ، التي تتطلب المسايرة و عدم التشويش .

و رغم تبني الجماعة لشعار الدولة المدنية ، الا ان موقفها هذا يكتنفه كثير من الغموض و الالتباس ، حيث ان الجماعة لم تبدي اي تراجع او الغاء لطموح احقاق الخلافة ، و هنا يستحضرني تصريح سابق للمتحدث باسم الجماعة ، فتح الله ارسلان لموقع العربية  » من الخطأ ان تضع الجماعة الدولة المدنية في مقابل الخلافة ، فهذه الاخيرة تستوعب الاولى  » ، فالجماعة غير قادرة على التخلي عن خلفياتها الدينية و التخلص من ارثها السياسي الثقيل، فهي تعي جيدا ان خروجها الصريح عن منطق الخلافة سيفرغ شرعيتها من محتواها و سيحولها الى فاعل سياسي عادي بدون اي امتياز ديني .

غموض الانسحاب من حركة 20 فبراير

فجائية و سرعة اتخاذ الجماعة لقرار الانسحاب من حركة 20 فبراير و تجميدها لأنشطتها داخلها و ما رافقه من خفوت لزخم هذه الاخيرة ، سيدفع االى طرح مجموعة من الاسئلة حول دوافع و خلفيات هذا القرار ، فرغم التبريرات التي حاولت الجماعة سياقتها لتفسير انسحابها ، الا ان علامات استفهام كبيرة ضلت تحوم حول هذا القرار، خاصة و ان الحركة كانت في قمة توهجها ، و بدأت تحقق جزء كبيرا من مطالبها .

المتتبع الجيد ، لعمل الجماعة خلال تلك الفترة ، سيفهم بسرعة ، ان الجماعة اصبحت رهينة لمطالب و مواقف غريبة و بعيدة عنها ، و تم تلجيم قناعاتها و تصوراتها ، و اصبحت حبيسة لأداة مجتمعية بفاعلين متعدين و مختلفين عن الجماعة ، بحيث بدل ان تؤثر الجماعة في الحركة و توجها ، اصبحت الحركة هي التي تؤثر على الجماعة و تلزمها بتبني مواقف و مبادئ و مطالب تتنافى مع قناعاتها و و توجهاته السياسية و الدينية .

فتحديد سقف الملكية البرلمانية ، كأفق لمطالب حركة 20 فبراير ، حد من هامش الحركية السياسية للجماعة ، و جعلها تبتعد بشكل كبير عن تصورها لنظم الحكم ، و أذكى الاعتقاد لدى قادتها و منظريها ، ان الحركة ستتحول لفاعل سياسي عادي ضمن باقي الفاعلين يقبل بشروط اللعبة السياسية و قواعدها بالبلاد ، و هو ما يتعارض مع تصبو الجماعة لتحقيقه .

الانفتاح على المكونات السياسية

بعد سنوات من العزلة السياسية ، و التصادم مع باقي الفاعلين، اقنعت الجماعة بحتمية الانفتاح على باقي مكونات الحقل السياسي المغربي ، و ضرورة تغير نهجها الصدامي و الرافض لكل القوى المجتمعية، و تبني مقاربة اكثر انفتاحا وقبولا لباقي التعبيرات المجتمعية .
فالجماعة التي عانت لسنوات طويلة من الغربة و الحصار السياسي، باتت اليوم اكثر اقتناعا بضرورة تطبيع وجودها داخل المجال السياسي المغربي، من خلال ارسال تطمينات حول مواقفها  » الديمقراطية  » و « الوطنية » ، و اصطفافها مع باقي الفاعلين و القوى المجتمعية في كافة القضايا و الهموم الوطنية و المجتمعية .

و شاهدنا كيف عملت الجماعة في السنوات الاخيرة على تنظيم زيارات لمقرات الاحزاب الوطنية ، و كيف فتحت فضاءاتها لمختلف الفاعلين السياسيين ، و كيف اصبحت تشارك في مختلف التظاهرات والتعبيرات المجتمعية جنبا الى جنب مع باقي مكونات الحقل السياسي المغربي .
اقتناع الجماعة بالانفتاح على الفاعلين السياسيين بالبلاد ، نابع من اقتناعها الاكيد بضرورة توفرها على الشرعية السياسية ، لفرض نفسها كفاعل اساسي و محوري داخل الساحة السياسية المغربية ، فعزلتها الاختيارية و مواقفها الرافضة لكل الفاعلين التي مارستها لسنوات عددية ، جعلت منها مكونا غريبا و غير موثوق فيه ، مما عطل أفاقها و طموحاتها ، و جعلها خارج دائرة التأثير السياسي الفعلي و الحقيقي، و سهل محاصرتها و محاربتها .

استراتيجية الكر و الفر …في اطار العمل السلمي

راهنت جماعة العدل و الاحسان منذ تأسيسها على ضرورة التشبت بالعمل السلمي في افق تحقيق مشروعها المجتمعي ، مع استغلال الزخم التنظيمي الذي تمتع به و توظيفه في فرض الامر الواقع ميدانيا ، من خلال الحضور القوي و الكثيف في الساحة و التمايز في المواقف و المطالب عن باقي القوى المجتمعية.
و لعل الانزالات القوية التي قامت بها الجماعة في الجامعات المغربية ، و العسكرة الكبيرة داخل المظاهرات الوطنية الكبرى و معارك احتلال الشواطئ و غيرها من الوقائع و الاحداث ، لخير دليل على نهج و استراتيجية الجماعة السابقة ، المبنية على الرفض و التفرد و القوة .
تطور الجماعة و انفتاحها ، سيجعلها تعي جيدا انهما ملزمة بالتنسيق و العمل المشترك مع مجموعة من التعابير و الحساسيات المجتمعية الاخرى ، و ان مطالبها يجب ان تشمل كافة الفئات و المستويات المجتمعية ، بمعنى ان الجماعة ملزمة بالفعل الدائم والتأطير المستمر لكل الهموم و القضايا المجتمعية، ليس فقط من منظورها الديني ، بل هي معنية كذلك بقضايا الشباب و الرياضة و الثقافة و الاقتصاد و الى غيرها من المجالات المجتمعية .

تغير قناعات الجماعة و تكتيكاتها، سيجعلها تعتمد استراتيجية جديدة تقوم على منطق الكر و الفر ، و الذوبان داخل المجتمع وتعابيره و تنظيماته، و تبني مطالبه وقضاياه ، من خلال انخراطها المؤثر داخل مجموعة من الحركات الاحتجاجية ذات المطالب الاجتماعية و المهنية ( حراك جرادة ، الريف الاساتذة المتعاقدين…) ، و حتى انها تمكنت من اختراق بعض « الالترات الرياضية » في مجموعة من المدن و أثرت في خطابها و مطالبها .

نهج الجماعة الجديد ، مكنها من تسهيل انخراطها داخل المجتمع ، و عقد عمليات تعقبها و محاصرتها ، و اتاح لها هامش مناورة و حركية كبير ،و مكنها من كسب مساحات جديدة داخل المجال السياسي و الاجتماعي المغربي .

غموض الممارسة الديمقراطية الداخلية

رغم كل الرسائل و التطمينات الديمقراطية التي لا تنفك الجماعة ارسالها يمينا و شمالا ، الا ان سؤال الممارسة الديمقراطية يضل يثير شكوك مجموعة من المتتبعين لعمل و فعل الجماعة ، فمرجعتيها الفكرية ، و سنوات العمل الشبه سري و المنع الذي عاشت في ظله ، كلها عوامل اثرت بلا شك في سيرورة الممارسة الديمقراطية داخل دواليبها التنظيمية .

ضلت الجماعة لسنوات عديدة رهينة لسطوة و سيطرة مرشدها العام الراحل عبد السلام ياسين ، و بنيت العلائق بين مختلف افرادها و اعضائها ،على منطق التبعية و الخضوع لتوجيهات الشيخ و من يعينهم لشغل المناصب و المسؤوليات داخل هياكلها ، و لم يشكل منطق الديمقراطية الداخلية ، هاجسا لدى الجماعة ، و استعاضت عنه بمنطق الدين الذي يفرض طاعة اولي الامر و يمنع مخالفتهم او الخروج عنهم .

و رغم رحيل مرشدها العام ، و محاولات الانفتاح التي قادتها الجماعة ، الا ان مسألة الديمقراطية الداخلية ضلت بعيدة عن اي اشارات خارجية ، بحيث تحرص الجماعة على احاطة كل محطاتها التنظيمية بنوع من السرية و الغموض ، يجعل من الصعب التأكد من اعتمادها على الديمقراطية كألية لاختيار أجهزتها و هياكلها .

التنازلات المؤلمة

المتتبع لسيرورة و تطور جماعة العدل و الاحسان ، يكاد يجزم بتحول الجماعة الى حزب سياسي و تسوية وضعيتها القانونية و الشرعية ، فالخطوات التي قامت بها الجماعة و تغيراتها العديدة التي طرأت على فلسفتها و استراتيجيتها و منطقها السياسي ، تؤكد و تزكي هذا الطرح.
رغم صعوبة هذا الاختيار بالنسبة للجماعة ، الا انها مطالبة اليوم بتقديم تنازلات قد تكون مؤلمة بالنسبة لها و لأعضائها ، فطول مدة رهانها على تحقيق مشروعها المجتمعي و السياسي ، خلق ازمة انسداد في الافق داخلها ، فهي لم تتمكن من تحقيق اي تراكم ديمقراطي او تغير داخل الدولة و المجتمع ، كما لم تتمكن من فرض آرائها و مواقفها ، و ضلت حبيسة وضعية جمود سياسي ، بدأت تداعياته تظهر على المستوى الداخلي اكثر منه على المستوى الخارجي .

فعدد من مناضلي الجماعة ، لم يعدون قادرين على كبح جماح تطلعاتهم و طموحاتهم ، في ضل استمرار وضعية الخناق و الحصار التي تعاني منها الجماعة ، فغياب الافق السياسي و المستقبلي ، اصبح هاجس يسيطر على مختلف هيئات و اعضاء الجماعة ، و يتسبب في نزيف تنظيمي مهم ، تتجلى اهم مظاهره في الانسحابات الكثيرة التي باتت تشهدها الجماعة .

تردد الجماعة في تسريع وثيرة تطورها و تحولها ، مرتبط بقراءة سطحية و صورة نمطية كونتها بناء على فشل مجموعة من التجارب السابقة في تحقيق التغير من داخل المؤسسات ( الاتحاد الاشتراكي ، العدالة و التنمية ) ، وجعلت من فكرة النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات وجها من اوجه الفشل و الخضوع .

لكن ما تغفله الجماعة ، او تريد اغفاله ، ان النضال المؤسساتي هو بناء متجدد ، يقتضي وجود اطارت متعددة ، قد تستنفد مهامها في اطار التداول على السلطة ، و لكنها تضمن الدفع بعجلة هذه الاخيرة عبر خلق التراكمات الديمقراطية ، التي يساهم الكل في خلقها و ارسائها.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *