مجد حرب
ما هو الإنسان؟ شَرَع الفلاسفة للبحث عن ماهية الإنسان وكينونته من خلال إيجاد صفة مشتركة وعُليا لفصلهِ عن باقي الكائنات، ولم يحتكر ذلك تعريفٌ واحد بل تعدَّدت التعريفات والقِيَم. تُقدِّم الفيلسوفة “حنا آرنت” هذه القيمة على أنها السياسة، لتضع شروطها وتجابه بها الأنظمة الشمولية والاستبدادية التي تُجرِّد الإنسان من قيمته العُليا.
الفكر السياسي بجوهره كوّن العمود الفقريّ للمُجتمع البشري عبر التاريخ، إذ أنه مرجعية عمومية لمراقبة الفرد وقِيَمه وصياغة البنية الأولية لشكلِ حاضرِ المجتمعات ومُستقبلها، وبمختلف اتجهاتها المعاصرة تبقى القيمة السياسية ضرورة مُلحّة لقيام الدولة، ممّا يجعلها تحظى بأهمية كبيرة عند الفلاسفة والمحلِّلين السياسيين، وهذا ما يشكّل، عند البعض منهم، المطالبة بدور أساسي في بناء ساحة عامة لممارسة حرية الفرد واعتباراته الوجودية كإنسان يتمتَّع بصفات تميُّزه عن باقي الحيوانات، والسياسة إحداها، وعلمًا أن الفلسفة لم تخرج من المجال السياسي أو تنفصل عنه منذ أرسطو وأفلاطون، بل كانت بوصلة توجيه للتيارات السياسية استنادًا لما قدمته من رؤىً عن التنظيم الاجتماعي والرقابة، مثل مفهوم السياسة الحيوية لميشيل فوكو، أو فلسفة أفلاطون في علم السياسة، وفلسفة الدين والمجتمع لدى الفرابي، قدّ اتخذت الفلسفة أيضًا دور الناقد أو الداعم لأشكال السلطة السياسية، ومنها الأنظمة الشمولية مثل النازية أو الستايلينية؛ وهذا وصفته الفيلسوفة حنا آرنت بـ”أخطار الفلسفة“.
ما عنته آرنت بالتحديد في هذا الوصف هو التنديد لآراء الفلاسفة الألمان التي دعمت النظام النازي في الحرب العالمية الثانية، وإضافةً إلى ذلك كانت تُحمِّلُ بعض الفلاسفة الذنب في بناء هذه الأنظمة الشمولية وتيار الاستعمار وتخليص الإنسان من قيمته العليا (السياسة)، مع العلم أن آرنت ترفض وصفها بالفيلسوفة وتميلُ نحو وصفٍ أكثرَ دقَّة -من وجة نظرها- وهو محلِّلٌ سياسيٌّ “1“، وعانت آرنت، التي تنتمي لأصول يهودية، من معاداة السَّاميَّة ومن ثمَّ النازيَّة، كما أُجبرت على الهجرة التي قادتها إلى فرنسا ومن ثمَّ إلى أمريكا حتى عام وفاتها 1975 “2“، وهذا ما يجعل فلسفة آرنت تلد من رحمِ المعاناة والقمع الذي تعرضت له من الأنظمة الشمولية، وربَّما هذا ما يجعلُ من فلسفتها مبنية على تجربة شخصية في المجال السياسيّ ومن قلب الواقع المؤلم في الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يجعل الطرح الفلسفي المقدّم من الفيلسوفة آرنت لمواجهة الأنظمة الشمولية ومحاولة الحفاظ على هويتها اليهودية أمام عنصرية الحزب الآري، جوهريًّا في نقده.
حنا آرنت “(1906–1975) Hannah Arendt” فيلسوفةٌ سياسيَّةٌ مؤثرة بطرحها على الفكر في القرنِ العشرن، حيث أنها قدَّمت مفهومها عن الطبيعة السياسية في الأنظمة الشمولية والثورة وطبيعة الحريَّة، حيث نُشِر عملها “حالة الإنسان” الذي يُعتبر من أهم أعمال آرنت في مجال قِيَم الحرية والتعددية وأهمية السياسية في الحياة العامة، وتناولت به دراسة فلسفية أصيلة تعود إلى الفلسفة اليونانية عن الوجود الإنساني، وعبَّرت عن شروطه المتوجب توافرها وأهمها العمل والساحة السياسية العمومية وإمكانية الولادة الجديدة للأفكار والثورات “3“.
بالإضافة إلى عملها الذي نُشر عام 1951 “أصول الشمولية”، وهو دراسة عن أصول واعتبارات الأنظمة الشمولية وتحليلها، والذي أثار جدلًا واسعًا حول طبيعة الجذور الفكرية لهذه الأنظمة الشمولية وما هي سوابق وجودها المؤهلة لها”3“، كما استمرت، عن طريق الأطروحات والمقالات والكتب المختلفة، في تطوير مفاهيم فلسفية سياسية جديدة تضيء على الحالة الإنسانية وقيمتها وكيفية توفير رؤية جديدة لطبيعة الحياة السياسية.
من المفارقات لتفهُّم البنية الفلسفية للتعبير عن الوجود الإنساني والقيمة العُليا بين ديكارت وحنا آرنت أنَّ ديكارت يقول “الإنسان حيوانٌ مفكِّر“، بينما آرنت عبَّرت عن القيمة العُليا بهذا الوصف من خلال استبدال كلمة “مُفكِّر” بوصفه “سياسيّ” فتُصبح “الإنسانُ حيوانٌ سياسيّ”، ولهذا صمَّمت آرنت على إعادة بناء البنية السياسية للطبيعة البشرية كونها ضرورة بشرية، وهذا يوضِّح تأثُّرها العميق بالفلاسفة مثل هيديجر؛ الذي تُعتبر آرنت تلميذة تيارهِ الفلسفي، كما مرُّوا بعلاقة عاطفية المدى ولكن مكثفة، وانتقلت فيما بعد للدراسة مع الفيلسوفُ الوجوديُّ جاسبرز، الذي ارتبطت معه بعلاقة فكرية مرنة، وهذا ما جعل السياسة والمجتمع، إضافة لسؤال “ما الإنسان؟” يقف موقفًا مركزيًا لدى حنا آرنت “3“.
كما أنَّ تفكيرها بالوجود الإنساني كان يلتزمُ بوطئ الشَّر عليه في محاوره الثلاثة: التوتاليتارية “النظام الشمولي”، الاستعمار، معاداة السامية، وأثرها اللاإنساني على طبيعة الإنسان السياسيَّة، فحوِّل من حيوانٍ سياسيٍّ “حسب تعبيرها” إلى مجرَّد عضو يفقتدُ صفاته الإنسانية بسبب التبعية والأدلجة التي ينالها من مجموعةٍ أعلى منه “السلطة الشمولية”، وهي محاور الشرّ الثلاثة، وهذا ما يجعل من الإنسان كائنٍ بليدٍ يفتقدُ الإرادة الحقيقيَّة لوجوده المتجسِّدة في ممارسة حياته السياسية وحثِّ نفسهِ على القرارِ والتفكير والعمل، فالأنظمة الشمولية بعد أن تجرَّد الإنسان من قيمته العليا “السياسية” لن يكون إنسانًا بل سيكون كائنًا هلاميًا يفتقدُ إلى حريته وفاقدٌ لكلِّ خصائصه المتفردة، بل هو أيضًا خاضعٌ لخصائصٍ تخطُّها الأنظمة، وبوصفٍ أدق يُصبح بيدقًا في رقعةِ شطرنج، وهذا ما يجعل هناك شيء من الصعوبة في انتمائه لصفة الإنسان تبعًا لتعريف آرنت للإنسان، فهو اسم بدون مضمون؛ وجابهت آرنت بدقَّة، وبشكلٍ دؤوب، في هذا المحور النابع من تجربتا الشخصية وتعريفها لماهيتها كإنسان بعد أن رصدت كل الشرّ من الأنظمة الشمولية والاستعمار والسامية.
كتبت آرنت “شرط الإنسان الحديث” الذي يُعتبر بينًا فلسفيًا في نقد الحداثة وتعريتها بعد أن أجرت تحقيقًا فلسفيًا شاملًا تناول أصول الديموقراطية والفلسفة القديمة في العصر اليوناني، وجلبتها لنقد البناء السياسي المعاصر والحديث، واقتراحها إعادة بناء ظواهر الحياة للمجتمع البشري بغية توفير عمل ووجود إنساني يتوافق مع الوضع السياسي الحديث، كما توجَّهت به إلى الوسائل التي يمكن أن يحمي الإنسان بها نفسه من الأنظمة الشمولية لكي لا يفقد قيمته العليا “السياسة” ويغدو كائنًا دون قيمة، بل يعيشُ في تبعية سياسية شمولية تقصيه من إرادته الأنسانية “3“.
تعود بنا فلسفة آرنت لمخالفة أفكار أحد الفلاسفة الوجوديُّون وهو جان بول سارتر، بمصادمةٍ مع جملتهِ الشهيرة “الجحيم هو الجميع” في مسرحية (لا مخرج) الذي مثَّل بها معنى الجحيم، لكن آرنت ترى الجحيم على أنه “العزلة”، فالإنسان بطبعه كائن سياسي ضمن مجتمع سياسي ويخوض قوانين سياسية للحثِّ على الوجود المحكوم بالسياسة، فالشرط الإنساني للوجود هو ألا يكون منعزلًا ولا وحيدًا بل بمشاركة الآخرين حياته والوجود في العالم وكأن الشرط للوجود الإنساني يتمثَّل في العيشِ المُشترك، وهذا ما دعى حنا آرنت لاستحضار بُعد وجودي للذاتِ الإنسانية من الفلسفات القديمة، وهو البعد السياسي، حيث الإنسان يجب أن يمتلك سمات الوجود “النشاط والعمل، حرية المشاركة السياسية كحالة عمومية، القدرة على الولادة الجديدة دائمًا، وتُعدّ ثورات المُستعبدين مثالًا على ذلك” بعيدًا عن التصورات الماورائية التي تجسِّد معنىً للوجودِ الإنسانيّ.
وترى آرنت أن سمات الوجود تلك تتوفَّر في المحيط السياسي، وهو أكثر ما يستطع الإنسان التعبير عن إرادته به، كما أنها أعادت تدوير مفهوم تأثير الفكر السياسي لدى أرسطو لتصيغ بنية فلسفتها على أن الإنسان حيوان سياسي يعيش في مجتمع سياسي، وإن لم يكن كذلك يجب أن يكون إلهًا أو كائنًا تبعيًا سافلًا مثل باقي الحيوانات، فالسياسة هي المجال الأبرز الذي يحقق به وجوده ويختبر به حريته، وكأن السياسة هي مسكن الوجود الإنساني، وربّما هذا يشبهُ لحدٍّ ما وصف إنسان هوبز وإنسان ميكافيلي؛ فإنسان هوبز هو حيوان قاتل وعنيف ومنجذب للقوة والحرب “حرب الكل ضد الكل”، بينما إنسان ميكافيلي هو يجب أن يتخذ شكل الأمير الذي يجب عليه أن يتصرف كحيوان، وأن يقلِّد الأسد والثعلب معًا “4”.
فهذه القيمة التي حصلت عليها السياسة من مفهوم حنا آرنت هي قيمة مطلقة للدلالة على الوجود الإنسان، كما أنَّه يتوجب الذكر أن الساحة السياسية يجب أن تتمتع بالحرية، وهي شرط أساسي لتنالَ قيمتها، ووضعها كغاية في حدِّ ذاتها دون أن تخضع لأيّ شيء خارجها، ومن الخطأ أن نعتبر الحرية أنها ظاهرة خاصة وتأمُّلية بل يجب أن تمتاز بالمشاركة والعالمية والفعل السياسي.