خالد ارحو يكتب: الحركات الاحتجاجية الجديدة و رهان التغير

خالد ارحو
إن الحق في التظاهر والاحتجاج السلمي تكفله المرجعية الدولية والوطنية، التي تعد الإطار المعياري والمرجعي الذي يضمن التمتع الفعلي بهذا الحق على ارض الواقع لفائدة الأفراد والجماعات، غير أننا في هذه المقالة اخترنا مقاربة هذا الموضوع الحيوي من زاوية نظر الفاعل الاجتماعي والسياسي، وذلك بغرض مساءلة هذا التحول والمسار الجديد الى أي مدى يمكن أن يصل تأثيره في تدوير حركية الصراع؟ وكذلك المساهمة في إثراء النقاش العمومي وخلق تقارب في وجهات النظر حول مفهوم الفعل الاحتجاجي المنتج من طرف مختلف التنظيمات الاجتماعية المعنية فعليا بقضايا المجتمع، والحركات الاحتجاجية المستقلة عنها، خاصة وان هذه الأشكال الجديدة تدعي قيامها على نقد الممارسة التقليدية. هذه مجرد تساؤلات وأفكار أولية، نراها قد تكون مساعدة لبناء فهم جماعي لهذه المسألة التي بدأت تشكل نموذجا يغري بالانضمام إليه والانتصار له، نظرا لما يشكله من فضاء أكثر رحابة ويسمح بتمرس النشطاء والمناضلين على اكتساب خبرة في تحمل مسؤولياتهم في ممارسة فعل التغيير.

وفي هذا الإطار، وتجنبا لأي خلط مفاهيمي، نود أن نثير انتباه القارئ أنه لسنا هنا بصدد البحث عن التأصيل النظري في ماهية أو أصول الحركات الاحتجاجية ــ التي في تقديرنا تختلف من حيث التشكل والمكونات والأهداف عن الحركات الاجتماعية ــ سواء عبر الصيرورة التاريخية أو في بلدنا، بل سنحاول استدراج الوقائع المتصلة ببيان أسباب ظهور هذا النوع من التعابير الاجتماعية، التي تحولت إلى نموذج لإنتاج فعل الاحتجاج، دون حاجة إلى الوسائط الاجتماعية التقليدية المعروفة، نظرا لما توفره من إمكان لمشاركة الفرد ضمن الجماعة، وتحول الجماعة بدورها إلى قوة ضغط دافعة نحو تحقيق الهدف الذي من أجله وجدت.

وإذا كانت الكرامة المتأصلة في الإنسان تشكل إحدى الدوافع، إذ لم نقل المحرك الأساسي لإعلان الرفض والسخط والغضب النابع من الإحساس بالظلم، فإن الشروط الموضوعية والذاتية تساهم بدورها بشكل مباشر في تنامي الشعور بالإقصاء من المشاركة الفعلية والتهميش لدى الفرد والجماعة معا، كما تعمل على إذكاء الوعي الحسي في صفوف المواطنين وتمدهم بالجرأة الكافية للانخراط في كل احتجاج ترى فيه إمكان متاح يملك القدرة على تغيير واقع الحال نحو الأفضل.

وبالنظر للتراجع الملحوظ على مستوى القضايا الاجتماعية، من ضمنها على سبي المثال لا الحصر، التسريحات الجماعية للعمال وفقدان مناصب الشغل وعدم استقرار الشغل وتنامي الإحساس الفردي والجماعي بالإقصاء من دورة الحياة العادية، جعل المواطن الذي كان من المفترض أن يكون الفاعل الأساسي والمحوري في أي عملية تغيير منتظرة التي تتعلق بواقع معيشه اليومي والاستفادة من الخدمات الأساسية، بأن يتحول إلى موقع المتفرج والمتلقي، أو المتابع في أحسن الظروف للتحولات التي تتجاوزه، عوض التمتع الفعلي بباقي حقوقه الأخرى، خاصة حقه في حرية الرأي التعبير والتفكير والتنظيم التي ترتبط بباقي الحقوق.

وفي هذا الخضم، نشأت الحركات الاحتجاجية وأصبحت إمكان مادي قادر على ممارسة الرقابة المباشرة سواء من خلال الفضح والتشهير والاحتجاج الميداني الجريء في الفضاء العمومي، ينخرط فيها كل من له مصلحة في ذالك، دون أي شرط مسبق، بل يكفي الالتزام والإيمان بما أعلنته المبادرة الفعلية، لتتحول منذ البدء إلى دينامية متمردة عن الممارسة التقليدية في الاحتجاج، التي كانت تنتجها مختلف الوسائط الاجتماعية المعروفة في معارك النضال الجماهيري، معلنة بذالك عن ميلاد أشكال جديدة من التعبير المجتمعي، الذي لم يجد في العرض المقدم له من طرف مختلف الفرقاء والفاعلين الاجتماعيين، ما يليق به، أو يستجيب لطموحه في ممارسة حقه المباشر في المشاركة والاحتجاج.

إن التفاوت في السياقات المحلية حسب خصائص كل منطقة، كان محددا في طبيعة تشكل كل حركة احتجاجية على حدا، مما زاد في تنوع تجارب هذه الحركات، حيث تميزت كل تجربة عن أخرى، سواء من حيث موضوع الاحتجاج، أو في طبيعة وأشكال الاحتجاج، مستغلة كل المقومات في إعطاء الدعم والشحنة المطلوبة لفعلها الاحتجاجي، فمنها من اختارت شكل المواجهة المباشر بالاعتصام الدائم كتجربة جبل ألبان بإيمضر نواحي مدينة تينغير الذي دام لأكثر من 9 سنوات والذي قادته حركة « على درب 96 « ، احتجاجا على « شركة معدن ايميضر » التي تستغل مناجم الفضة، دون النهوض بأوضاع المنطقة التي ظلت متخلفة على ركب التنمية المستدامة، وما ترتب عنها من مشاكل اقتصادية واجتماعية وافتقادها لأبسط الخدمات الأساسية، هذا الاعتصام الذي جاء بثقافة جديدة مبنية على قيمة التآزر لدى مفهوم الجماعة صاحبة المصلحة المباشرة ، واكتشافها لمدى قدرتها الذاتية في التعبير عن نفسها كحركة احتجاجية مستقلة، رافضة لما يمارس في حق منطقتها التي تعتبره مجالها الحيوي بثرواته وتقاليده وطبيعة ساكنته.

كما عرف المغرب كذلك هبات احتجاجية على شاكلة موجات غضب، كالمطالبة بالحق في الماء الصالح للشرب بمنطقة زاكورة، أو ما أطلق عليه النشطاء إسم « ثورة العطش » الذي شاركت فيه مختلف فئات ساكنة المنطقة مدعومة بفعاليات المجتمع المدني ومدونين، حيث نظمت مسيرات ووقفات احتجاجية ضد الخصاص في هذه المادة الحيوية الأساسية. وكذلك نشير إلى احتجاجات حركة « حركة أكال من اجل الثروة والأرض » التي تعتبر اكبر تجمع من القبائل من مختلف مناطق المغرب، حيث نظمت مسيرات احتجاجية وطنية ضد ما تتعرض له أراضي الجموع من خروقات وانتهاكات.

وتبقى مسيرة عائلات المعطلين المعتقلين بمنطقة بني تجيت، هي المتميزة في زمن جائحة كورونا، حيث قامت بتنظيم مسيرة مشيا على الأقدام في اتجاه مدينة بوعرفة التي ستحتضن محكمتها الابتدائية أطوار محاكمة أبنائهم نزلاء السجن المحلي بمدينة بوعرفة على خلفية الأشكال الاحتجاجية المتنوعة التي كان من ضمنها الاعتصام المفتوح والدائم أمام مقر الدائرة الإدارية بجماعة بني تجيت، من اجل المطالبة بحقهم في الشغل والعيش الكريم، قبل أن يتم محاصرتهم في وادي بوجراد المهجور حيث تضامنت معهم ساكنة المناطق المجاورة و بعض الفعاليات المدنية والسياسية ونشطاء اجتماعيين.

وفي إطار إبداعها المستمر، وبفضل نشطائها الذين يملكون مهارات عالية في مجال المعلوميات ومواكبة التطور التكنولوجي، خلقت هذه الحركات الاحتجاجية الناشئة لنفسها مكانة قوية على مستوى منصات التواصل الاجتماعي وجعلت منها القاعدة الخلفية لتنظيم تحركاتها، وعملت على فك طوق العزلة الإعلامية والتعريف بنفسها كفاعل محوري في هكذا فضاء يستعمله الملايين من المغاربة، هذا بالإضافة إلى استعمال بعض قنوات اليوتيوب الخاصة وكذلك المواقع والجرائد الالكترونية المحلية والجهوية والوطنية، بالإضافة إلى استغلال تطبيق الواتساب وتطبيقات مجانية أخرى قادرة على تحقيق التواصل وتنسيق أشكال الاحتجاج بطريقة سريعة ومضمونة، كما تملك القدرة المطلوبة بفضل قوة وديناميكية شبابها على التحرك الميداني، للسهر على تنظيم التجمعات الخطابية، في عملية حشد القوى الشعبية التي تعد الحامل الشرعي والأساسي لموضوع المطلب او المطالب.
وهكذا، ووفق ما تم مقاربته، يتبين أن هذه الحركات الناشئة وما تنتجه من فعل احتجاجي يتميز بالجرأة في اتخاذ مبادراته وتنفيذها على أرض الواقع، متجاوز كل ممارسة تقليدية قد ترهن فعل الاحتجاج وتربطه بتقديرات خاصة بها وفق معادلة سياسية لا يعرف منطقها وحسابتها إلا هي، حيث لا تجعل بالضرورة المصلحة المباشرة الخاصة بالجماعة المحتجة ضمن أولوياتها.

إن أشكال التعبير الاجتماعية الجديدة هذه، لا تخضع لنفس منطق الممارسة السابقة حتى في أشكالها التنظيمية، بحيث تعتمد على معيار الشرعية الذي يحدده التواجد الميداني في اختيار من يقود احتجاجاتها وفق سياقات خاصة، غالبا ما تتحكم فيها معطيات محلية تتعلق بموضوعة الاحتجاج، كما يمكن ان تضاف إليها معاير سوسيو ثقافية أخرى تكون محددة في فرز القيادة، كتجربة اعتصام جبل البان بإميضر ،وتنسيقية حركة أكال من أجل الثروة والأرض،أي أنها تكون في حاجة إلى الحد الأدنى من شكل الانتظام الذي يضمن مواصلة عملية الاستشارة والمشاركة الجماعية في اتخاذ القرار وتنفيذها.
لهذا نقول، إن هذه الحركات تستمد شرعية وجودها من مطالبها، ومن طريقة ممارسة فعلها الاحتجاجي عبر خلق فضاء جماعي يعطي الإحساس بالانتماء لها دون وجود تراتبية بين منتسبيها ( لأنها ترفض هذا النموذج من الأصل)، مما يجعل الجميع يتملك فكرة الحركة ويؤمن بقدرتها التي هي في نفس الوقت قدرته هو التي يراها تتحقق ولأول مرة على أرض الواقع، وذالك بعيدا عن أي وصاية قبلية أو بعدية في نظره، قد تحد من تطور أي فعل، وتجهز على حقه في التعبير والمشاركة ضمن الجماعة، التي كانت تحدد وفق معايير أخرى هو غير مؤمن بها وليس معنيا بها في موضوعه.

إن هذا الوضع يخلق علاقة شبه رومانسية تصل حد التماهي بين المنخرط في الاحتجاج والحركة التي أعلن انتمائه لها بكل عفوية، لتلتقي هذه الإرادة مع الرغبة الجماعية المتاحة، وتتحول إلى قوة مادية على ارض الواقع، تعمل بجهد لتمنيع نفسها من الاختراق ضد كل من هو غريب عنها حسب منطقها ، وطريقة اشتغالها.
خلاصة: تعتبر هذه ا لحركات الاحتجاجية الناشئة ظاهرة اجتماعية قوية، تدعونا إلى إنتاج معرفة جديدة ومتجددة بشأنها، وتفرض علينا المزيد من الاجتهاد، عوض الارتكان إلى المناهج الكلاسيكية التي لم تعد قادرة على فهم وتفكيك طلاسيم فاعلين جدد، قد يكون لهم دور محدد في تحقيق التغيير المنشود.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *