دون كيشوت المغرب في مواجهة “حكومة أخنوش”.. الفساد وحرب التنازع على الحقيقة!

هاشتاغ _ عبد القادر حبيب الله

في مشهد سياسي يُذكرنا بالملهاة المأساوية، طلب فوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، من البشير الراشيدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، إثبات أن الفساد يكلّف الاقتصاد الوطني 50 مليار درهم سنويًا. لنقف لحظة ونتأمل في هذا الرقم، نحن نتحدث عن 5000 مليار سنتيم!.

هذا الطلب يوازي مطالبة شخص بتقديم أسماء جميع سكان الصين وأزواجهم وأبنائهم، لكن المفارقة الأعمق تكمن في السياق السياسي لهذا التصريح، حيث أن الحكومة، التي من المفترض أن تكون السند الأول في مواجهة الفساد، تتحول إلى خصم مباشر لهيئة النزاهة ومحاربتها.

قبل فوزي لقجع، كان مصطفى بايتاس الناطق الرسمي باسم الحكومة قد دعا البشير الراشيدي، في خطوة تنم عن عدوانية سياسية، إلى اللجوء للقضاء إذا كان يمتلك ملفات فساد. بمعنى آخر، الحكومة تقول للراشيدي: إما أن تصمت، أو أن تقف أمام المحاكم لإثبات كلامك.

لماذا أصبح البشير الراشيدي، رئيس هيئة محاربة الرشوة، عدو الحكومة الأول؟ الإجابة تكمن في أن الرجل لم يتجاوز خطًا أحمرًا واحدًا، بل ثلاثة خطوط حمراء دفعة واحدة. أولا، فضح غياب التفاعل الحكومي مع الهيئة، مؤكدًا أن رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، لم يعقد أي لقاء مع هيئة النزاهة منذ تشكيل حكومته. وكأن هذه الهيئة، التي تمثل أحد أهم أسلحة الدولة في مواجهة الفساد، غير مرغوب فيها من الأساس. هذه الحقيقة وضعت الحكومة في موقف محرج، خاصة وأنها تناقض الخطاب الرسمي حول “التزامها” بمحاربة الفساد.

ثانيًا، وصف البشير الراشيدي تعامل الحكومة مع ملف الفساد بأنه يفتقر إلى الجدية. هذا التصريح دفع الناطق الرسمي باسم الحكومة إلى إطلاق خطاب حاد وعنيف، يعكس حالة التوتر داخل دوائر رئيس الحكومة عزيز أخنوش.

ثالثًا، طالب البشير الراشيدي بضرورة تسريع تشريع قانون يجرم الإثراء غير المشروع، معتبرًا أنه تشريع هيكلي يمكن أن يشكل نقطة تحول في تقليص معدلات الفساد. لكنه أضاف، بجرأة، أن الحكومة لم تتقدم بأي نص قانوني في هذا الإطار، ما يكشف تهاونها الواضح في التعامل مع هذا الملف الحساس.

البشير الراشيدي يعلم تمامًا أن مجرد الحديث عن الإثراء غير المشروع هو إعلان مواجهة مع الحكومة. ولعلّه لم ينسَ أن مشروع القانون الجنائي، الذي كان يضم هذا المقتضى، تم سحبه بالكامل من البرلمان في أول خطوة اتخذتها حكومة أخنوش.

هذه الخطوة، في حد ذاتها، كانت إعلانًا مبطنًا بأن الحكومة ليست في عجلة من أمرها لتجريم الإثراء غير المشروع. أما الآن، فالحكومة تحاول تحويل الراشيدي إلى “دون كيشوت” جديد في مغرب يتصارع فيه الواقع مع الخطابات.

إن السؤال عن 50 مليار درهم، الذي طرحه فوزي لقجع، لا يهدف إلى البحث عن الحقيقة، بل إلى توريط الهيئة في نقاش عبثي، حيث أن الجميع يعلم أن تقييم تكلفة الفساد يتم عبر مؤشرات دولية دقيقة، تأخذ في الاعتبار معدلات التنمية، وحجم الناتج الداخلي الخام، ومستويات الرفاهية. لكن يبدو أن الحكومة اختارت طريق الهروب إلى الأمام، بدلًا من مواجهة الواقع.

الإنصاف يقتضي القول إن الفساد ليس مسؤولية الحكومة وحدها. الفساد ظاهرة مجتمعية متجذرة في بنية الدولة، تتداخل فيها عوامل اجتماعية، وثقافية، وتربوية، وإدارية. لكنه، في الوقت نفسه، مسؤولية الحكومة بشكل أساسي، كونها تملك السلطة التنفيذية التي يفترض أن تُفعل القوانين وتواجه الظاهرة بصرامة.

ومع ذلك، يبدو أن حكومة أخنوش اختارت نهجًا مختلفًا: كلما ذُكر الفساد، سارعت إلى حزم أسلحتها وتوجيهها نحو الأطراف التي تنتقدها، بدلًا من مواجهة المعضلة بجرأة.

إن تحويل البشير الراشيدي إلى خصم سياسي، بل وربما وضعه خارج “الشرعية المؤسسية”، يعكس عقلية استبدادية لا تقبل أي اختلاف في وجهات النظر، حيث أن محاربة الفساد ليست مجرد شعارات انتخابية أو خطابات رسمية، بل إنها معركة إرادة سياسية حقيقية تُقاس بفعالية السياسات والنتائج الملموسة، وليس بالتعبير عن النوايا.

فالحكومة الحالية، بدلًا من أن تفتح الباب أمام هيئة محاربة الرشوة وتدعم جهودها، اختارت أن تُدير ظهرها لها.

وفي النهاية، السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن أن نتوقع تقدمًا حقيقيًا في محاربة الفساد في ظل هذه المعطيات؟ الإجابة قد تكون محبطة، لكنها واضحة: بدون إرادة سياسية جادة، سيظل الفساد ينخر في جسد الدولة، وستظل الحكومة مشغولة بحروبها الجانبية، بينما يخسر الشعب المغربي 50 مليار درهم سنويًا، وربما أكثر.