د. محمد الحيرش يكتب: رفقا بالجامعة .. رفقا بالمستقبل!

كثيرا ما أقرأ في هذا الفضاء وأحيانا في منابر مغربية ورقية أو رقمية كتابات حول المشاكل الذي تعانيها الجامعة في بلادنا، وهي كتابات تهيمن عليها تقويمات عنيفة وأوصاف قاتمة مستمدة من معجم « جنائزي » يوحي بالسقوط ويعجل بالنهاية !

إن الرصد الموضوعي لأوضاع جامعتنا وللمشاكل التي تشكو منها يتطلب التحلي بقدر غير قليل من الحيطة وعدم الانزلاق نحو ما من شأنه أن يسوغ إقبار فكرة الجامعة ويقذف بها نحو أفق ملتبس لن تظهر مخاطره على الأجيال إلا بعد فوات الأوان.

فعلا تخترق جامعتنا معضلات بنيوية ذات طبيعة إدارية وبيداغوجية وعلمية. وهذه المعضلات كما هو معروف لدى المتتبعين ليست طارئة أو وليدة اليوم، بل تضرب بجذورها في أحقاب سابقة اقترنت باللحظات الأولى لتأسيس الجامعة في نهاية الخمسينيات وما تلا ذلك من تدافع « سياسي » في بلادنا بعد الاستقلال حول المسألة التعليمية بوجه عام وحول الأهداف والمهام التي ينبغي أن تُسنَد إلى الجامعة بوجه خاص. وهو الأمر الذي يرجع بنا إلى ظهير 1975 بوصفه أهم إطار قانوني منظم للتعليم العالي بعد عقدين من الاستقلال، حيث اختصر هذا الظهير مهام الجامعة وحصرها في تكوين الموارد البشرية التي تحتاجها الدولة لتغطية الخصاص الإداري والوظيفي في جملة من قطاعاتها، وأهمل البحث العلمي ولم يوله اهتماما واضحا سواء في جوانبه المتصلة بالبنيات المادية أو في جوانبه المتصلة بالقوانين والتشريعات المنظمة.

والحقيقة التي ينبغي أن نستحضرها في هذا الخصوص أن البحث العلمي الذي أنجزه الأساتذة الرواد في مؤسساتنا الجامعية بمختلف تخصصاتها كان عملا تطوعيا خالصا انخرطوا فيه إلى جانب التكوين والتدريس بتضحية وتفان، وزاولوه بنكران ذات خارج أية تحفيزات وفي غيبة أية تشريعات مؤطرة.

ومنذ ذلكم الوقت حتى اليوم لم يتوقف الأساتذة الباحثون في مجالس شعبهم أو من خلال ممثليهم في مجالس المؤسسات والجامعات أو في ندواتهم ومؤتمراتهم النقابية عن التنبيه إلى المعضلات المتعددة التي يواجهونها عن كثب في عملهم اليومي. غير أن ما كانوا يلمسونه هو غياب الإرادة السياسية الواضحة التي تتفاعل مع مطالبهم الداعية إلى الارتقاء بالجامعة بما يجعلها منتجة للأفكار، ومسهمة بفعالية في تنمية البلاد والعباد، وفي تعميم قيم العقل والحرية والإبداع…

فعلا تلاحقت بدءا من أواخر التسعينيات مجموعة من القوانين التي كان من مقاصدها إصلاح الجامعة على الصعيد التربوي والعلمي وعلى صعيد الهياكل التسييرية. لكن المثير في الأمر أن هذه القوانين، التي عدت حينئذ بمثابة مرحلة انتقالية في مسلسل تطوير الجامعة المغربية، اختُزلت مقاصدُها عند تطبيقها إلى صيغ تقنية ضيقة، فأفقدها ذلك روحَها واستُبعدت منها البواعث التحديثية التي استحكمت في تشريعها.

ولئن كانت هنالك أسباب عديدة أدت إلى العدول بهذه القوانين إلى غير مقاصدها الأصلية كعدم اقتناع بعض المسؤولين في الحكومات المتعاقبة بفكرة الجامعة كما هو متعارف عليها في المجتمعات المتقدمة، والترويج لجامعة بتخصصات تقنية ومهنية فحسب، والميل إلى تعيين بعض المسؤولين الذين لم تكن لهم الكفاءة التدبيرية، فإن جزءا من هذه الأسباب نتحمل مسؤوليتَه أيضا نحن الأساتذة وخصوصا أولئك الذين سارعوا منا على عجل إلى تولي الإشراف على مسالك تكوينية في الإجازة الأساسية أو المهنية أو في سلك الماستر والدكتوراه وهم يفتقرون إلى الخبرة التربوية والعلمية الكافية التي تسمح لهم ذاتيا بتقدير جسامة المهمة الملقاة على عاتقهم. وقد ترتب على هذا ما ترتب من مشاكل صارت معروفة لدى الخاص والعام حتى أصبحنا نجد بعض المسؤولين على شعب أو على مسالك تكوينية حديثي العهد بالجامعة لم تمض على تعيينهم بها أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات. ولنا أن نتصور على سبيل المثال نوع الأداء التسييري وقيمة المردود التربوي والعلمي لمسؤول على مسلك من المسالك يفتقر إلى الخبرة اللازمة في التعليم العالي، بل ينعدم لديه حس الانتماء إلى الجامعة بما هي فضاء عام تضبطه معايير عقلانية وقيم وأخلاقيات..
لكن مع كل المعضلات والمشاكل التي أضحى تشخيصها متاحا ومتداولا فإن كل منظور قادم لإصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في بلادنا لا ينطلق من الإيمان بفكرة الجامعة ومن الاقتناع بحاجة مجتمعنا الحيوية إليها لن يكون سوى منظور تقني يعمق المشاكل ولا يحلها. بل إن ما تتطلبه جامعتنا للوفاء بمهامها في تنمية المجتمع وتحديثه هو جعلها أولوية في البرامج السياسية الوطنية، والانفتاح الجدي على آراء الفاعلين الأساسيين أساتذة وطلبة وإداريين، والتفاعل مع تطلعاتهم واقتراحاتهم…

لهذا ينبغي الاحتراس من « الخطاب التيئيسي » الذي يعمم على جامعتنا أحكاما ذاتية غير دقيقة، ويسهم في الإتيان على الأخضر واليابس كما يقال. فما زالت الحياة تدب في أوصال جامعتنا، وما زال رموزها وأساتذها من المؤسسين وممن جاؤوا بعدهم يحظون بالتقدير والاعتبار لما أسدوه للفكر المغربي ولما أبدعوه من أعمال تمثل شجرة الأنساب الأصيلة التي يستظل بها كل منتسب إلى الجامعة من الأجيال اللاحقة…

ولكل منا أن ينجز تمرينا بسيطا ويتوقف عند الأسماء العلمية في تخصصه كما تواترت في جامعتنا منذ التأسيس إلى الآن. لا شك أنه سيلفي أن الأسماء التي توقف عندها لها مكانتها المتميزة والرائدة لا في المغرب فحسب بل في عموم أرجاء الوطن العربي. أما إذا ما استطعنا أن نوسع هذا التمرين على أكثر من تخصص في العلوم الإنسانية وما يرتبط بها من تخصصات أدبية ونقدية فإننا قد لا نختلف في أن الأسماء الأكثر حضورا وتداولا واحتراما لمنجزها في عالمنا العربي هي أسماء جامعية مغربية. فهل يمكن للواحد منا أن لا يكترث لما أنجزه الجامعيون المغاربة الرواد وتلامذتهم من مختلف الأجيال في مجال الفلسفة واللسانيات والسميائيات والسرديات والبلاغة وتحليل الخطاب وفي مجال الدراسات الاجتماعية والتاريخية أو في الترجمة والدراسات الثقافية والنقدية وغيرها. في كل هذه المجالات كانت الجامعةالمغربية رائدة ومجددة ومبدعة.

لكل ذلك يبقى مطلب إصلاح الجامعة مطلبا حيويا وملحا، لأنه السبيل الذي يمكن أن يعمق المكتسبات ويقوم الاختلالات ويفتح منافذ الأمل أمام الأجيال اللاحقة، أي أمام المستقبل.

ولكل ذلك أيضا لن يكون مفيدا وناجعا كل كلام يختزل مشاكل الجامعة في تقويمات ذاتية مبتسرة هي أقرب إلى تصفية حسابات وأبعد ما تكون عن الإسهام في خلق نقاش عمومي عقلاني وموضوعي يثمر اقتراحات حقيقية وينتج حلولا وبدائل…

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *