سر نجاح المسيرة الخضراء التي جعل منها الحسن الثاني « سلاحا ناعما » لإربك خصوم المغرب

علي بنستيتو

بعد أن نجحت المسيرة على الأرض وبدأت تعطي ثمارها على الصعيد السياسي والدبلومسي من خلال جر إسبانيا إلى طاولة المفاوضات، تعددت القراءات في خطة الملك الراحل واختياره لتظاهرة شعبية مسالمة كوسيلة للضغط على مدريد للتنازل عن الصحراء. فقد اعتبر العديد من المحللين حينئذ أن حشد هذا العدد الهائل من البشر من مختلف شرائح المجتمع ونقلهم في ظروف آمنة إلى تخوم الصحراء، ليقتحموا بصورة سلمية وجماعية الحدود مع الصحراء، سلاحهم الوحيد، الراية المغربية والمصحف الشريف، تحركهم مشاعر الوطنية التي ألهبت فيهم روح الفداء والتضحية، يمثل بكل المقاييس حدثا تاريخيا متميزا وفريدا من نوعه، معتبرين أن فكرة المسيرة كانت بمثابة « سلاح ناعم »، لكنه ذو أثر « فتاك »، لجأ إليه الحسن الثاني في مواجهة خصومه وفي مقدمتهم المستعمر الاسباني لإجباره على التفاوض، بعد أن فشلت معه كل المساعي لجره إلى طاولة الحوار. علما أن المغرب، الذي تمكن غداة الاستقلال، بواسطة آلية التفاوض من استرجاع طرفاية سنة 1958، ثم سيدي افني سنة 1969، وجد مساعيه هذه المرة، تصطدم برفض حكومة فرانكو الاعتراف بحقوقه التاريخية في الصحراء.
بالنسبة لباقي خصوم المغرب وفي مقدمتهم الجزائر، فقد أربك الإعلان المفاجئ عن المسيرة الشعبية حسابات الرئيس بومدين، الذي كان يخطط لإقامة كيان انفصالي في الصحراء، كشوكة تدمي أقدام المغرب، ولتحقيق ذلك تحالف مع اسبانيا وشجعها بكل الوسائل على المضي قدما في بلورة هذا المشروع الانفصالي الذي يخدم في الآن ذاته أهدافه وأهداف الدولة الاستعمارية. ولم يتوانى، من أجل تحقيق هذا الهدف، في تقديم العديد من الإغراءات الاقتصادية والمالية للحكومة الاسبانية. علمان أن الحسن الثاني من جانبه، كما كتبت حينئذ بعض المنابر الإعلامية، لم يتردد في سلك كل السبل لإقناع الجزائر بالكف عن معاكسته لاسترجاع الصحراء، حيث ذهب إلى حد التعهد بمنح الجارة الشرقية، « ممرا آمنا » نحو المحيط الأطلسي، لتصدير حديد مناجم منطقة « كارت الجبيلات »، جنوب تندوف.
على الصعيد الداخلي، تعددت آن ذلك، القراءات ، حيث رأى البعض أن المسيرة كخطة تكتيكية لجأ إليها الملك الراحل، هي فكرة خلاقة ظل الحسن الثاني، بما عرف عنه من ذكاء ومناورة للإيقاع بخصومه السياسيين، يلمح إليها بشيء من الغموض والضبابية في خطبه وتصريحاته، دون أن يميط اللثام عن فحواها صراحة إلى أن آن الأوان ونضجت الأمور، واستبعدت بعض القراءات أن تكون المسيرة مجرد « نزوة » أو « مغامرة » غير محسوبة، كما زعمت حينئذ منابر إعلامية مناوئة للمغرب، وخلص أصحاب هذه القراءات إلى أن عنصر السرية والتخطيط المحكم مثلا مفتاح نجاح المسيرة، وهو ما تبين لاحقا من أن الحسن الثاني بدأ التخطيط الفعلي لهذا الحدث غير المسبوق في تاريخ المغرب، قبل الإعلان عنه بشهور عديدة.
وتقول بعض الروايات، منها ما حكاه الملك نفسه في بعض تصريحاته، إنه اختلى في منتصف غشت 1975، بمجموعة محدودة العدد من سامي الشخصيات العسكرية في القوات المسلحة الملكية، من ذوي الثقة والكفاءة، وأسر لهم بمشروعه الخاص بتنظيم مسيرة شعبية إلى الصحراء، وكلفهم بسرعة إعداد مشروع خطة بذلك وعرضها عليه. وبعد أن تبلورت هذه الخطة في صيغتها النهائية واستقر الرأي على تنفيذها، كان لابد من إشراك أركان الجهاز التنفيذي في التحضيرات الميدانية للمسيرة، مما حتم فرض طوق من السرية على الترتيبات الخاصة بها لمنع تسرب المعلومات المتداولة، وهو ما تم بالفعل ووفر عنصر المفاجأة لإعلان الملك عن قرار المسيرة.
ولم يكن من باب الصدفة الإعلان عن المسيرة خلال النصف الأخير من شهر أكتوبر، بل كان الأمر مخططا له كي يأتي مباشرة بعد إفصاح محكمة العدل الدولية عن رأيها الاستشاري القانوني بشأن ملف الصحراء.
ومع ذلك ، لم يكن إقدام الحسن الثاني على مثل هذه « المغامرة »، بالأمر الهين، كما كتب بعض المحللين آن ذلك، بالنظر للعواقب المحتملة التي كان في الإمكان أن تنجر عنها، وأقلها حمام الدم الذي كان سينتج لو تصدت القوات الاسبانية لهذه الحشود من المتطوعين المدنيين العزل المسالمين، مما كان سيمثل تهديدا وتحديا حقيقيا للنظام والأمن في المملكة.
ولعل تلك التخوفات والهواجس هي التي كان يقصدها الملك الراحل عندما أشار في كتاب « ذاكرة ملك »، لما سأله الصحفي الفرنسي « إيريك لوران »: « ماذا كنتم ستفعلون لو أخفق رهانكم على المسيرة الخضراء »؟، فأجاب: « عندما عدت إلى الرباط قادما من أكادير، صعدت إلى شرفة القصر لأتأمل اخضرار ملعب الغولف، ونظرت إلى البحر نظرة مغايرة وأنا أخاطب نفسي.. (لقد كان من الممكن أن لا تعود إلى الرباط إلا للم حقائبك استعدادا للمنفى). فلو فشلت المسيرة لكنت استقلت » يقول الملك. « إنه قرار أمعنت التفكير فيه طويلا بحيث كان يستحيل علي أن أترك على الساحة ضحايا لم يكن لهم سلاح سوى كتاب الله في يد والراية المغربية في اليد الأخرى. إن العالم كان سيصف عملي بالمغامرة… » قبل أن يضيف.. » وكما نقول عندنا في اللهجة المغربية « ما كان باقيلي وجه أقابل به الناس »، يقول الملك للصحفي الفرنسي.وللحديث بقية. (يتبع)

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *