سعيد جعفر يكتب: بايدن يخطب من الرباط

سعيد جعفر

سيكون مهما للمغرب ولإفريقيا والعالم الإسلامي ولأمريكا نفسها لو أن الإدارة الأمريكية اختارت المغرب منصة لعرف خطاب الرئيس الأمريكي المنتخب الجديد للعالم العربي والإسلامي وإفريقيا.

من نفس المنصة بالعاصمة الرباط الذي خطب قبل شهور بابا الفاتيكان مخاطبي كل مؤمني ومؤمنات العالم من مسيحيين ومسلمين ويهود يمكن لبايدن أن يخاطب قادة وشعوب هذه الدول.

لاشيء قد يمنع بايدن والادارة الأمريكية من ذلك خصوصا وأن الوثيقة السياسية لبايدن الديمقراطي المعتدل وأوراق تيار التقدميين في الحزب الديمقراطي تلتقي كثيرا مع فلسفة المملكة المغربية في تدبير الشأن الديني، وفي تدبير الصراعات الإقليمية، وفي تدبير التحديث في قضايا المرأة وحقوق الإنسان وحتى الأقليات.
ولا أظن أن أي دولة عربية أو مسلمة يمكن اليوم أن تستجيب لهاته التحملات الفلسفية والنظرية والعملية. فلا مصر ولا تركيا ولا السعودية ولا الإمارات ولا قطر يمكنهم ذلك لانخراطهم في محاور اقليمية ودولية بحسابات معروفة.

إن المملكة المغربية تقدم منذ مدة نفسها كقوة اقليمية ملتزمة بضوابط القانون الدولي وتميل إلى الوساطة والتحكيم أكثر من ميلها إلى النهج العسكري والى التدخل في شؤون الدول الداخلية، وهو ما يتطابق كليا مع رؤية التقدميين والديمقراطيين وحتى ليبراليي الحزب الديمقراطي الذين يعتبرون في وثائقهم وفي خطابهم بمناسبة الانتخابات الرئاسية أن أمريكا تخسر كثيرا من سمعتها بسبب النهج الهجومي للسياسة الخارجية لترامب وادارته، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلائها الاقليميين في الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وأمريكا اللاتينية.

تقضي وثيقة بايدن خصوصا على أن أمريكا ستعود لدورها التقليدي في التحكيم والوساطة في حل النزاعات الحدودية وعلى تشجيع الحوار الداخلي بين القوى السياسية المتنازعة وتشجيع الأنظمة السياسية على الدمقرطة والتكيف الداخلي.

وفي الحقيقة هذا ما يفعله المغرب في علاقته بعدد من دول الساحل وإفريقيا والخليج، الحياد وعدم التموقع والانتصاب كوسيط لتقريب وجهات النظر كما حدث في أزمة مجلس التعاون الخليجي وفي مالي والكوت ديفوار وليبيا وغيرها.

وفي هذه النقطة يمكن للادارة الأمريكية الجديدة أن تعتمد على المغرب في تصريف جزء من فلسفة الديمقراطيين والتقدميين والليبراليين في الحزب الديمقراطي في فض النزاعات الاقليمية في المنطقة العربية والاسلامية والافريقية.

لقد أظهر المغرب أنه شريك فعلي لأمريكا وأوربا في الحرب على التطرف والارهاب سواء من خلال فعاليته الدينية أو الأمنية وأصبح مصدرا للخبرة في هذا المستوى، وبامكان الادارة الأمريكية أن تستثمر هذا التقدم ضمن خطة محاربة التطرف التي تقترحها وثيقة بايدن ووثيقة سانذرز.

لقد أظهرت إمارة المؤمنين وعيا خاصا بالتحولات الدولية ولا هي سعت إلى زعامة دينية إقليمية ولا قومية ولا قارية، بل تفهم وظيفتها على أنها حاضن للاعتدال والوسطية و ضامن للأمن الروحي للأفراد متدينين وغير متدينين، مسلمين ونصارى ويهود وملحدين ولا أدريين.

وطيلة الاوقات الكثيرة التي احتضنت فيها المكون العبري حضاريا وسياسيا وقانونيا، وطيلة الأوقات التي التزمت فيها باحترام وضمان ممارسة النصارى واليهود وغيرهم لطقوسهم و لشعائرهم الدينية بدون أي وصاية أو منع، وطيلة الوقت الذي تجرب فيه المملكة تمرين تدبير ممارسة الأفارقة جنوب الصحراء لمعتقداتهم الوضعية الخاصة بهم، وطيلة المدة التي تلتزم فيه بحرية الأفراد في التدين من عدمه، فهي تقدم نموذجا جيدا في تدبير الشأن الديني والعقدي يتلاءم على الأقل مع فلسفة التقدميين والليبراليين المعتدلين في الحزب الديمقراطي من مسألة التدبير الديني ومحاربة التطرف.
ولهذا سيكون من المفيد لو سعت الدولة المغربية إلى طرح تجربتها على أطراف الحزب الديمقراطي للتفاعل معها.

إنها واحدة من المرات القليلة التي تجد فيها المملكة المغربية نفسها متقدمة في ملفات بعينها تجاه انتظارات ادارة أمريكية، ومنذ حكم الجمهوريين جورج بوش الأب والابن وحكم الديمقراطيين (كلينتون وأوباما) كانت المملكة المغربية بوسائلها الخاصة وعبر لوبيات الضغط المتعاملة معها على علم بمخططات الادارات المتعاقبة لكن لم يكن لها ملف متكامل للتفاوض به، وبالتالي كانت تكتفي بمسايرة الخطط والتفاعل معها في الحد الأدنى.
بل أن بعض هذه الملفات كانت تكلفته ثقيلة على المملكة كما هو حال سعي الإدارة الأمريكية على عهد أوباما إلى توسيع مهام المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الانسان في كل التراب الوطني.

ورغم ما وقع من سوء فهم في العلاقة لحظة وصول ترامب للسلطة فإن المغرب كان في موقع جيد لتنتبه الادارة الأمريكية لأهميته، فبمجرد ما بدأت الادارة الجديدة عملها حول ملف الأمن القومي الأمريكي حتى كانت المملكة جزء رئيسيا ضمن الخطة والتي تطورت لدرجة إقرار لجنة عليا مشتركة للتعاون الأمني.

اليوم توجد المملكة في وضع جيد وتملك ملفات متعددة ليس فقط للتفاوض بها ولكن للعمل على إدماج جزء منها في السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية بما يخدم المصالح الوطنية، فالحياد الاقليمي للمملكة وفلسفتها في حل النزاعات عبر الوساطة والديبلوماسية، وخبرتها الدينية، و علاقاتها السياسية والاقتصادية في افريقيا خصوصا على قاعدة رابح-رابح، وتدبيرها السياسي الداخلي بالادماج السلس لكل القوى السياسية بما فيها المكون الإسلامي مع ضمان التعددية السياسية والثقافية واللغوية دستوريا وقانونيا كلها تساعد على تكلف المملكة بمسؤولية في هذا الباب.

لا يمكن أن يستمر العالم بهذا الجنون وهذه الروح الهجومية والبراغماتية الفجة التي طرحتها الدوائر الاستراتيجية العالمية الضيقة والتي كانت شخصيات هجومية واندفاعية كترامب وماكرون وأردوغان وبوريس جونسون أوجه وأدوات لها في نفس الوقت، والتي كادت أن تشعل حروبا في شرق المتوسط والقوقاز وفي القرن الافريقي والهلال الخصيب وكانت قريبة من اشعالها في مناطق الأحواض المائية والمصبات المائية.
لقد كنا قريبين من العودة إلى حادثة المروحة ولم تكن ليلة فيينا إلا إعادة جدولة زمنية لما حدث قبل حوالي 75 سنة من الآن لولا أن التصويت المكثف للأمريكيين والأمريكيات ومن خلفهم آلة إعلامية ضخمة و دوائر تخطيط أخرى رأت غير ذلك.

إن الفلسفة المعتدلة للمملكة يمكن أن تستفيد كثيرا من الظرفية الدولية الجديدة وهي مطالبة بتكييف واقعها السياسي الداخلي مع هذا الوضع الجديد في الإدارة الأمريكية.
إن تجاور فلسفة ليبرالية معتدلة وفلسفة تقدمية في الإدارة الأمريكية الجديدة يطابق إلى حد كبير فلسفة وعقيدة الدولة الصلبة التي يعكسها دستور المملكة ولا سيما في فصليه 41 و42 وتعكسها المجالات المحفظة للملك وصلاحياته في هذا الباب.
ثمة معطيين يجب الانكباب عليهما بشكل مستعجل جدا:

1- على الديبلوماسية المغربية أن تشتغل بسرعة لطرح استضافتها لخطاب بايدن من الرباط لأن هذا سيساعد على اعطاء دفعة لعدد من خطط المملكة غلى مستوى الأرض وعلى مستوى العلاقات الدولية

2- سيكون من الجيد لو ان الدولة نجحت في التكييف السليم للخطاطة السياسية الداخلية بما يتلاءم مع الخطاطة الدولية كما حدث في 2011.
إن الفلسفة الديمقراطية المعتدلة والتقدمية للإدارة الأمريكية ومن خلفها الحزب الديمقراطي الحاكم لا يمكن إلا أن يكون لها مخاطب ديمقراطي معتدل وتقدمي على مستوى المؤسسة الحكومية وعلى مستوى الإدارة والخطاب في قضايا المرأة والحرية الدينية والأقليات وغيرها.

شروط و ملابسات وضرورات 2021 تختلف كليا عن شروط وملابسات وضرورات 2011 ولهذا وجب تكييف معطيات الداخل مع معطيات الخارج.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *