سعيد جعفر يكتب: رمضان الإيديولوجي ورمضان الإستهلاكي
رمضان سنة 2020 سيبقى موشوما في ذاكرة المغاربة، فهو أول رمضان سوف لا تصلى فيه صلاة التراويح بالمساجد وأول رمضان سيضطر فيه المغاربة اضطرارا للإقتصاد في الأكل وإعداد الأطباق ارتباطا بالأوضاع الإقتصادية للبلاد وخوفا من المجهول.
في رمضان 2020 صلى المغاربة سنة التراويح فرادى أو في جماعات صغيرة من أهل المنزل وقرأوا ما تيسر من القرآن في المنزل.
وفي الحقيقة فهذا الظرف الطارئ أعادهم إلى جوهر رمضان الذي ارتضاه الرسول (ص) عندما صلى التراويح بالناس لثلاثة أو أربعة ليالي ثم توقف خوفا من المشقة عليهم من صلاة الليل من عدم قدرتهم على صلاتها.
وإذن فالمسلمين على عهد رسول الله (ص) ورسوله الله بينهم لم يكونوا يصلون التراويح، واستمر الحال كذلك مع الخليفة أبا بكر الصديق، حتى زمن عمر بن الخطاب (ض) الذي كلف أبي بن كعب بإمامة الناس لصلاة التراويح في رمضان.
بدون شك لا يجب عزل قرار عمر هذا عن مجمل اجتهاداته في المالية و التعزير وإقامة الحدود وغيرها، والراجح أن قرار عمر بإقامة صلاة التراويح لها علاقة بتعزيز الشعور الديني آنذاك بعد أن انتشرت دعوات الردة عن الإسلام ودعوات عودة الذميين إلى معتقداتهم، ويضاف إليها الإرتخاء الديني الذي بدأ يسم المسلمين بعد تحسن شروط العيش في العهد المزهر لعمر بن الخطاب.
وإذن فجزء من قرار التراويح له علاقة بشروط معينة دينية وفكرية وإجتماعية كانت في عهد عمر بن الخطاب (ض) ولم تكن في عهد الرسول (ص) ولا في عهد أبا بكر (ض)، وبعد أن انقطع الناس بعد ثلاثة ليالي أمها رسول الله وأوقفها رحمة بالناس عادت بعد حوالي ثلاث سنوات من إيقافها من الرسول (ص).
في المغرب كان الخلفاء والملوك دائما يحتفون برمضان والتراويح كسنة وباستثناء المولى سليمان صاحب الدعوة الدينية الوهابية والذي وظف صلاة التراويح لضرب خصومه من شيوخ الزوايا ولا سيما زاوية وزان والزاوية القادرية والشرقاوية وغيرها، فإن باقي الملوك العلويين تعاملوا مع رمضان والتراويح كسنة لم ينزلوها أقل من قدرها ولم يرفعوها أكثر من قدرتها.
يروي مؤرخ المملكة السابق والناطق الرسمي للقصر الملكي سابقا الأستاذ حسن أوريد عن الأمين العام السابق لحزب الاستقلال المرحوم امحمد بوستة، أن ولي العهد الحسن الثاني رحمه الله وأثناء جنازة السلطان محمد بن يوسف يوم 26 فبراير 1961، أشعل سيجارة تأثرا بموت والده وأنه قال “غادي نردو” في إشارة لليوم الذي أفطره بسبب تدخينه سيجارة.
الحسن الثاني رحمه الله لم يكن ملكا عاديا فقد امتهن مهنة الملك صغيرا وأظهر اهتماما و ذكاء وحنكة خاصة في الحكم منذ كان وليا للعهد وكان على دراية كبيرة بالدين.
إذن وإلى غاية 26 فبراير 1961 كانت لنا صورة طبيعية لرمضان كشهر للصيام يتم فيه الصوم والإفطار دون تكلف ولا تشديد، ولا أدله أن ولي العهد أفطر و أعلن استعداده لرد الصوم ودون أن يثير الأمر مشاكل كبيرة لأن الإسلام أصلا دين وسطية واعتدال ودين تسامح.
متى أصبحنا أمام رمضان مركز بطقوس مركزة؟
من المعلوم أن اليسار نادي في بداية الستينيات إلى دمقرطة الحكم عبر دستور ديمقراطي وعبر ملكية برلمانية ولا سيما من طرف الجناح التقدمي في حزب الاستقلال، وهذا الوضع وحتى وإن تعامل معه السلطان محمد بن يوسف بنوع من التكتيك والأبوية، فإن الملك الحسن الثاني واجهه بكل الوسائل ولا سيما بالدين.
في هذه الظروف أحدث الحسن الثاني الدروس الحسنية و أصبحت التراويح وسيلة تعبدية ووسيلة تأطيرية في نفس الوقت وذلك لخلق توازن فكري وسلوكي في المجتمع، وفعلا نجح الراحل الحسن الثاني في خلق توازن فكري في المجتمع بعد أن نجحت الحركة الإتحادية واليسار في التأثير في طبقات واسعة من المجتمع.
شيئا فشيئا حول المغاربة رمضان و طقوسه من تراويح وأطباق إلى شيء أكثر مما أرده له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول الذي كان يفطر بالتمر والحليب ويعفي الناس من صلاة التراويح جماعة، سيصبح قوم منه بعد 15 قرنا يأكلون آلاف الأطباق المنوعة والمشكلة يتهافتون في ذلك ويسرفون، ويحجون بالملايين للمساجد لأداء صلاة التراويح ثم يبرحون المساجد ويهجرونها بمجرد انتهاء رمضان.
هذه مشكلة حقيقية إذ يكشف الناس عن فهم مغلوط لحديث رسول الله (ص) “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه”، ويكشوف عن رياء ونفاق كبيرين جدا.
المشكل الثاني المرتبط بهذا التركيز للتراويح ورمضان أكبر وأخطر بعد أن اصبحت جماعات راديكالية تستغله لأهداف دعوية وسياسية، والمشكل يكبر أن المعركة في الستينيات والتي بموجبها تم تركيز التراويح ورمضان كانت بين مرجعيتين مختلفتين ومتعارضتين، عقلية ودينية.
اليوم لا لأنه يتم استثمار هذا التركيز لرمضان و التراويح للقضم من الشرعية الدينية للملك ومن خلاله تهديد المشترك الديني للمغاربة.
لقد كشفت ردود الفعل الكبيرة من عدد من الحركات الإسلامية ومن الأذرع التابعة لها من رفض لإغلاق المساجد وعدم إقامة للتراويح والعصيان بخرق حظر التجوال بالتكبير والتهليل واستعداء الناس ضد السلطة الدينية بتوهيمهم بمنع الصيام عن واحدة من أخطر المشكلات المرتبطة بتركيز التراويح ورمضان.
يجب التنبيه هنا إلى أن السلطة الدينية التي رفضت قراراتها هي إمارة المؤمنين وتفرعاتها من مجلس علمي أعلى ومؤسسة الإفتاء والشؤون الإسلامية، مما يؤكد هذه الرغبة والسعي لاقتسام هذه الشرعية أو القضم منها.
إن رمضان 2020 فرصة لم تكن لتتوفر قبل لتنظيم هذا الجانب وخطة إصلاح الحقل الديني التي ابتدأت في 2003 لم تكن لتمس الشعور الديني للمغاربة بالتعديل في درجة تركيز رمضان والتراويح.
كان ذلك سيقرأ على أنه تراجع عن الاهتمام الديني والروحي للمغاربة، ورغم أن جلالة الملك أمير المؤمنين خفف من الدروس الحسنية/المحمدية و أصبحت مواضيعها شبه فقهية تقدم قراءات اقتصادية وسوسيولوجية وانثروبولوجية للدين بعيدا عن الدروس الدينية الكلاسيكية، فإن الإطار العام بقي ثابتا دون تغيير.
إن الدولة تعض على الإسلام الوسطي المعتدل وتعض على الخيار الحداثي التقدمي، ولعمري أنه في باب ركن الصيام وسنة التراويح ليس أمامها أفضل من أن تستثمر هذا الواقع الجديد الذي فرضه وباء كورونا لتخبر الناس بأن رمضان هو شهر فضيل، وهو شهر للتعبد الروحي دون استمرار سوقهم في شروط معينة لرمضان وتراويح رمضان لم تعد قائمة وربما شكلت متنفسا لجماعات أخرى تقتات من هذه المركزية المفرطة للمسجد ومن هذا الإقبال العفوي للناس للمساجد.
إن العقل الديني للمملكة وربحا لأسباب جديدة لتجديد الحقل الديني، وتقنينا للتعبد العفوي للناس وما يليه من توظيف لجماعات دعوية وسياسية، مطالب بأن يعيد تحديد وظيفة المسجد بكل ما لها كوظيفة روحية تعبدية لا تكليف فيها.