شهر في الجزائر (3)

فرح ناذر

رحلة، أعراس و أشياء اخرى.

هنا بدأ يندثر « نادر«  المستحيي اللطيف…، بعد أأن وجد الكل مرتعه في محاولة نبشه بسخريتهم المعتادة، إشتد عودي وصرت أنافسهم في السخرية، فما عساك أن تفعله أمام أناس هم منبع الطيبوبة وخفة الدم! لا شيئ إلا الإنصهار.

ملاحظة وجب ذكرها هي تقارب ثقافة الأعراس والمناسبات بين الجزائر والمغرب، عريسين لكن الكل محتفل ومساهم، خاصية تحدد الوجه التضامني بين أفراد المجتمعين.

«  كريم«  نظر إلي طويلا وخاطب جدتي وهو يحاول اظهار الجدية:

« يمَّا، نلاغيو على خالتي ونزوجو نادر، لبارح شفتو يْحَكّرْ على بنت الجار«  يقصد سعاد إبنة أحد وجهاء المدينة.

مستنكراً كلامه وبحياء تجاه جدتي التي لم أكسر حائط الاحترام بيني وبينها بعد: « نتا لي باغي تتزوج وكتديرني قنطرة! ».

الجدة متحسرةً: « ليجون ماراهمش يحبو يتزوجو، الزنقة الزنقة…« 

صادف يومنا هذا يوم جمعة في الجزائر، كنت أنتظر بشوق ما الفرق بين الجمعة في مستغانم وأگادير؟ بعد الوضوء وتغيير الملابس، قدم لي جدي جلباباً جزائرياً صنعاً ولباساً، مغاير تماماً عن الجلباب الذي عهدته، جلباب بدون « قب« ، أيدي قصيرة، جيب في الصدر… حينها علمت أنها ثقافة فتيات البلدة،  يتقنّ فن الخياطة التقليدية والتطريز وما جاور ذلك من أعمال يدوية.

المسجد يبعد حوالي ثلاث كيلومترات ورغم ذلك الكل فضل قطع المسافة على الأرجل تيمناً بحسنات الخطوات، بينما نحن في الطريق بدأ ابن خالتي كريم يخمم في جهر ويتمتم بعض الحسابات؛ نحن في بداية شهر يوليوز، إذن الخامس منها لن يلحق الجمعة القادمة « عرفتي أخالي نادر الخطبة ليوم راها تكون على إستقلال الجزائر« ، هنا ابتسمت وخاطبته: « حتا نتوما كتنبؤو بخطب الجمعة، حسابلي غير حنا؟« 

مجيباً بنبرة حادة: « راه أوبليجي أخالي، بغيتي لفقيه يبات عند « المير«  ولا ؟!

ها نحن في ساحة المسجد، لا شيئ مغاير عن مساجدنا، أحذية مترامية في كل مكان، كلام وشتائم، سخرية وقهقهات…

ولجنا المسجد، بعد التحية وقراءة ما تيسر من القرآن، حان وقت الآذان، هنا انزعجت قليلاً؛ الجزائر التي ولدت حلاقم الراي لم تقدر على ولادة ولو مؤذنا واحدا يعطي الآذان حقه !!!

أنصتوا رحمكم الله، ومن لغى فلا جمعة له… جلست أتأمل؛ « واش هاد الناس لي كيهضرو كاااملين جمعتهم باطلة«  !؟

للإشارة فإن هذه الجمعة كانت هي الأخيرة قبل خامس يوليوز الذي يصادف عيد استقلال الجزائر من الإستعمار الفرنسي، بدأ الإمام في سرد تاريخ الجهاد والكفاح الذي توج التضحيات بالنصر العظيم.

هنا تأكدت أنه لا فرق بين مساجدنا ومساجدهم إلا في الدعاء الختامي، فهم يدعون لفخامة الرئيس ونحن ندعو لجلالة الملك.

حان وقت البحث عن الأحذية، الكل نسي ربه لتوه، سب وشتم ودفع وعفس للثكل، سباق مع البشر لكسب الزمن، ليس لشيء إلا للغذاء و« لاسييست«  على حد تعبير الجزائريين.

ونحن في طريقنا إلى المنزل فقدنا الجد، كانت مناسبة للتمازح والسخرية من بعضنا البعض، ابن خالتي (الحامل أنذاك لإجازة في الاقتصاد فرنسية)، بدأ في حديث نقدي نحو سياسة بلاده والتهميش الذي يطال معظم الجهات… علمت لتوه أنه لم يكن يعلم أن سياسة المساجد متشابهة إلى حد بعيد، لا في التنظيم ولا في المضمون.

وصلنا للمنزل وفي انتظارنا وجدنا الجد، رغم سنه إلا أن العمل والجد و والمثابرة جعلت منه رجلا قوياً، اجتمعنا على « الميدة«  في انتظار ما قد تجود به أيادي ابنتة الخالة، طابق كسكس بالحليب! يختلف مع الكسكس المغربي في الشكل والمضمون، علمت أنهم يسمونه « سَكْسُو« ، في حالة جس نبض، مذاق ربما سيجعلني ألعق أصابعي !!! مذاق رائع فعلاً، يختلف قليلاً عن الكسكس الذي عهدته من أيدي أمي، وكذا في طريقة تحضيره، فغالباً ما ألفنا الكسكس بخضر سبع.

في أوج حرارة الصيف التي قد تعلو عن الأربعين غالب الأحيان، مباشرة بعد الغذاء غالبا ما يستلقي الجميع، نحن شعوب تلزمنا راحة بعد استيقاظنا من النوم.

« لا بأس أَرْوَاح نديرو لاسييست أونسومبل« .

لم يفصلنا إلا يومين عن عرس « ذات الهندام المحافظ«  إبنة الخالة بإبن عمها الذي سألتقيه عشيةً لإحتساء قهوة، الكل على قدم وساق، تحضيرات من هنا وهناك، منزل صار مليئاً بالجيران والأقارب، كل تكلف بما يناسبه وجدي على رأس كبار المفاوضين، لا تمر قضية وإلا أفتى فيها وهو يتحسس ذقنه، بدأت الأسرة في تطبيق العادات والتقاليد، حمام بلدي وحنَّاء بأيدي من تَعَثَّر حظها في الزواج، تنظيف وتزيين في كل أرجاء المنزل…

خرجت وإبن خالتي للقاء « إبن عمي«  المسمى عبد السلام، توجهنا نحو مقهى تنأى المدينة بنحو نصف ساعة سيارةً، في مدخل و مخرج المدينة، رجال أمن إستثنائيين إضافة إلى حواجز الأمن المعتادة، تحقق من الهوية وأسئلة طفيفة تنم عن مستوى حذر الأجهزة الأمنية، ونحن في الطريق، أثارت إنتباهي ظاهرة « الأوطوسطوپ« ، تماماً كمختلف الطرق المغربية، وأنا أمزح خاطبت كريم « جاب الله محلوشي الحدود البرية بين المغرب و الجزائر، كون راه درت أوطوسطوپ باش نجي حسن مانقطع لبيي« .

وصلنا إلى مكاننا المقصود، لم يكن إلا فضاء سياحياً خلاباً طبيعياً عبارة عن « أوبيرج« ، جلسنا في إنتظار « عبسلام«  العريس الجديد أو بلسانهم « مولاي« ، قصدنا النادل وعلى محياه بسمة عمل وإستقبال الزبائن؛ « بونسوار كوزان، أش تحبو تشربو« ؟ ظننت أن أيام « الگازوز«  قد إنتهت، إلى أن طلبت مشروب غازي«  طونيك« ، فاجأني النادل بقوله « ف ليبواسون كاين غير لگازوز« . عدم درايتي بهذا المشروب فضلت أن آخذ قهوة سوداء دون إثارة سخرية وردءاً لرد فعل النادل.

فجأةً ظهر شاب في عقده الثالث، مرتديا لباساً لولا تنقصه ربطة العنق لظننته من الجهاز الأمني السري، قامة طويلة، ذقن حَلِق، شعر مُثَبت، حذاء يلمع، عضلات ملاكم سابق، إبتسامة طبيعية، « بونسوار كوزان« ، موجها كلامه لكريم، بعد التحية والترحاب، تعرفت على « عبسلام«  العريس الجديد.

البساطة لعبت دورها في الإنصهار والإندماج التام بين أفراد هذا المجتمع.

حان موعد العرس، بعد أن تجند الكل لإنجاح هذا الحفل وبإمكانيات بسيطة، فضلت أن أقتني ملابس جديدة تناسب المناسبة، قصدنا متجراً، علماً أنها المرة الأولى التي كان لزاماً علي إرتداء لباساً كلاسيكياً شبه رسمي وبربطة عنق، لم أكن « أنتوي«  وضعها أبداً، وكريم يسخر مني؛ « واااو جيمس بوند الموغرابي«  !!!

فعلاً سبق لي أن أحسست بما أحس به السيد  بن كيران رئيس الحكومة حين إرتدائه ربطة العنق لأول مرة

أرغمني على إرتداء لباسي الجديد لحظة شرائه كما فعل هو، متجهين نحو المنزل ليلاً، تارةً يسخر مني وتارة يرفع من معنوياتي، لحظة وصولنا إلى المنزل كانت النقطة الفاصلة التي كسرت حائط الحياء المفرط تجاه جدتي، إذ قابلتني بزغرودة وأهازيج توحي أني « مولاي«  !!!

غداً يوم العرس ولنا لقاء للتعرف على بعض العادات والتقاليد وإكتشاف الفروق بين ثقافاتنا.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *