ظاهرة الشاعر المنبوذ في التاريخ العربي: من الشنفرى إلى أمل دنقل

وسام الدين محمد عبده

يعرّف (ابن منظور) الشعر بأنه: «مَنظُوم القول غُلِبَ عَليهِ الوَزن والقافية، وإن كانَ كُلّ عِلمٍ شِعرًا»(1). وهذه الرؤية تتكرر عند كثير من النقاد القدماء والمعاصرين، بما يفيد أن الشعر في السياق العربي تعبير عن الثقافة الجامعة بالمعنى المعاصر، ويلعب الشاعر في هذا السياق دور المثقف اليوم. فهو بمثابة صوت الأمة وضميرها وعقلها الحر الطموح. ويفرق المفكرون بين المثقف الملتزم والمثقف العضوي، أو المثقف الذي يستخدم ملكاته العقلية في التعرف على الحق ومن ثم يبشر به أمته متحملًا في ذلك التضحيات التي تفرض عليه(2)، وبين المثقف الذي العضوي الذي يستخدم ذات الملكات العقلية ليبرر ويشرعن مصالح الجماعة التي ينتمي إليها بغض النظر عن مدى مطابقة هذه المصالح والطموحات للقيم والحق والعدالة(3).

والمطالع لتاريخ الشعر العربي، سوف يجد من أمثلة المثقف، الشاعر الملتزم: أمثلة كثيرة مثل عنترة بن شداد الذي أوقف القسم الأكبر من شعره على قضيته الشخصية، قضية تحرره من الرق والاعتراف به من قبل أبيه وأقاربه وأبناء قبيلته (4)، كما سوف يجد من أمثلة المثقف، الشاعر العضوي: أيضًا أمثلة كثر، مثل ابن هانئ الأندلسي الذي أوقف شعره على الترويج لمذهبه العقائدي والدولة التي تمثل هذا المذهب (5).

ويبدو أن نبذ المثقف الملتزم من قبل القوى المسيطرة على المجتمع، ظاهرة تاريخية واجتماعية موضوعية. ويمدنا تاريخ العالم، بغض النظر عن الحقبة التاريخية والمنطقة الجغرافية، بالعديد من الأمثلة التي يتم نبذ المثقف الملتزم. هذا النبذ يأخذ صور شتى، ما بين صور بسيطة مثل التجاهل والتهميش من قبل المؤسسات والمثقفين العضويين، وصولًا إلى النبذ الجسدي الذي قد يبلغ حد القتل. والحضارة العربية ليست بمعفاة من السنن والنواميس الاجتماعية، فترى ظاهرة نبذ المثقف فيها كما في غيرها، وبنفس التنوعات. وللنبذ أمثلة عدة في تاريخ الشعر العربي، نرصد منها بعض النماذج التي تبين كيف تطورت هذه الظاهرة الحضارة العربية إلى الحد الذي بلغته اليوم.

الشنفرى الصعلوك الذي أنقلب على عشيرته
من شعراء الجاهلية واسمه عمرو بن مالك، ولقب بالشنفرى، لضخامة شفته (6) أو لسوء خلقه (7). وهو أحد الشعراء الصعاليك، وهم جماعة من الشعراء الذين تخلت عنهم قبائلهم أو تخلوا هم بطوعهم عن قبائلهم لأسباب مختلفة، وعاشوا من قطع الطريق ومهاجمة القبائل فرادى (8). وقصة الشنفرى قد ذكرا مفرقة في الأغاني للأصفهاني (9) وخلاصتها أن أبو الشنفرى كان قاطع طريق، استفز بغاراته القبائل الأخرى، فقامت قبيلته بقتله بنفسها، فاختارت زوجته أن تنفي نفسها عنهم، ولجأت إلى أخيها، وهو أيضًا أحد الشعراء الصعاليك، واسمه تأبط شرًا، الذي ضمها وابنها إلى كنفه. فشب الشنفرى إلى جوار خاله يأخذ عنه فنون القتال وفنون الشعر.

لما عرف الشنفرى أن مقتل والده جرى على يد قبيلته، اقسم أن يقتل منهم مائة نفس، ولا يزال يسعى في أن يبر بقسمه حتى قتل منهم تسع وتسعون نفس، ثم وقع في أسر قومه فقتلوه وصلبوا جثته، ثم مر أحدهم بعد سنة فألفي عظامه، فرفسها بقدمه، فدخلت عظمة الساق في قدمه، فأصيب بالغرغرينا ومات. فأبر الشنفرى بقسمه حيًا وميتًا.

ويظهر غضبه الشديد من قبيلته في غير موضع من شعره، فتراه في لاميته المشهورة يقول:
أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ
وفي الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْكَرِيـمِ عَنِ الأَذَى
لَعَمْـرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيـقٌ على امرئ
وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون : سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ
وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَـى مُتَعَـزَّلُ
سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ
وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأَلُ
فهو يطلب منهم تحويل صدور مطايهم عنه، كناية عن رغبته في أن يغادروه أو كناية عن رغبته في ألا يرتبط بهم، ومن ثم يصرح بأنه يميل إلى قوم آخرين، مبينًا أن في أرض الله الواسعة منأى له عن عشرتهم السيئة، ويصرح بأنه يفضل عن عشرة قومه عشرة وحوش البيداء، السيد العملس وهو الذئب الشاب، والأرقط الزهلول أي النمر السمين، والعرفاء الجيأل الضبع(10).

وعندما أسروه، واستعدوا لقتله، سألوه عن أي محل يود أن يدفن فيه، فيعلن عن رغبته ألا يشرفهم بدفنه، وأن يترك لضباع تأكله.

لا تَقْبُروني إن قَبْري مُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ وَلكِنْ أبْشِرِي أمّ عامِرِ
وأم عامر كنية للضبع عند عرب الجاهلية.

الشنفرى نموذج لهؤلاء الذين يقع عليهم ظلم لا قبل لهم به، ولا منجى منه، ولا سبب له، فينقلب على مجتمعه الظالم، ويظل يحقد عليه حتى ليفضل عشرة الوحش عن المقام بين أهله، وأن يصبح طعام للوحوش من أن يدفن في أرض تضم هؤلاء الذين ظلموه، وهو نموذج سوف يتكرر مرات تلو مرات في تاريخنا العربي، بل أزعم أنه لا يزال يتكرر حتى يومنا هذا.

أمل دنقل (العراف):
لم يكن أمل دنقل أحد الشعراء الرسميين المعترف والمحتفى بهم من قبل المؤسسات الثقافية الحكومية، بل كان شاعر الفقراء والمستضعفين الذين لا يستطيعون أن يمنحوه منصبًا أو مالًا، ولكنهم منحوه مكانًا في قلب الأمة ووعيها. كان قوميًا وحدويًا حتى النخاع، ولكنه كره أن يحتكر القضية شخص أو حزب، فأوسع المثقفين العضويين المحسوبين على النظام والنظام نفسه نقدًا عنيفًا. فهذا النظام في قصيدته (كلمات سبارتكوس الأخيرة) قيصر الطاغية، والذين يسكتون عنه لا يجب أن ينتظروا إلا قيصرًا جديد.

وفي قصيدته (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) هو نظام مستبد عاجز عن النصر، لا يلجأ إلى الشعب إلا بعد الهزيمة، هذا الشعب نفسه الذي يدعونه اليوم إلى الموت ولم يدع يومًا إلى مجالس الفتيان. ولا يتردد أن يدين النظام العربي كله في قصيدته (تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات)، والتي شجب فيها المعارك بين الأشقاء الأردنيين والفلسطينيين في سبتمبر 1970. وبحلول عام 1972، كان الشعب يتململ من حالة اللا حرب واللا سلم التي تعيشها البلاد، الحالة التي وصفها دنقل في قصيدته (الكعكة الحجرية) بأنها حالة أصبحت فيها المنازل والزنازين والمدى أضرحة، وعندما اندلعت مظاهرات الطلاب في صيف هذا العام، تبنى الطلاب هذه القصيدة لتعبر عنهم.

نرشح لك: أمل دنقل.. الجنوبي بين زرقاء اليمامة والعهد الآتي
كانت كل هذه المواقف تؤكد مكان الشاعر في صفوف الناس، ولكنها في نفس الوقت تؤدي إلى استبعاده من دائرة المدجنين المرضي عنهم، ولكن هذا لم يؤثر في الشاعر، والذي كان عليه أن يستعد لمواجهة عدو جديد يسكن جلده هذه المرة، أنه السرطان الذي علم بأنه قد أصابه في أواخر السبعينات، ولكن السرطان لم يمنعه من يشن هجومًا عنيفًا على توجهات المصالحة مع إسرائيل، والتي قدمها في صورة ملحمته الشعرية المسماة (اقوال جديدة عن حرب البسوس)، والتي قدم فيها قصيدته الشهيرة (لا تصالح)، والتي اعتبرت وصية الشاعر الأخيرة، والتي مثلت بيان ثوري يرفض التخاذل ويتنبأ بجيل يأتي بالنصر.

وغدًا..

سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً

يوقد النار شاملةً

يطلب الثأرَ

يستولد الحقَّ

من أَضْلُع المستحيل.

مات أمل دنقل في مايو 1983، ولكن مكانه ظل محفورًا في وعي هؤلاء الذي أختار أن يقف في صفوفهم، وعندما اندلعت الثورة المصرية، كان دنقل غائب بالجسد، حاضر بالروح والقصيد بين هؤلاء الذين أحبهم وأحبوه.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *