صحيح ان حزب العدالة والتنمية يعيش مؤخرا على إيقاع خلافات تنظيمية بين مختلف اجنحته و مكوناته، لم يعد بالإمكان مواراتها او منعها من الظهور الى العلن، لكن هذه الازمة او الخلافات لم تؤثر بشكل كبيرعلى بنيته التنظيمية و توجهاته السياسية، فالحزب يثبت عند كل ازمة او مواجهة خارجية وحدة صفوفه و تناغم مواقف أعضائه و قياداته، مع بعض الاستثناءات غير المؤثرة، التي تغرد خارج السرب.
خلافات او ازمة العدالة والتنمية التي تفجرت بشكل علني، مباشرة بعد اعفاء بنكيران وتعين العثماني رئيسا للحكومة، لا يمكن اعتبارها ازمة بنيوية، تهدد وحدة الحزب وتماسكه، فهذه الخلافات او الصراعات وان كانت تبدو ظاهريا قوية وعميقة، الا انها لا تعدو ان تكون مجرد إعادة ترتيب أوراق بشكل حازم داخل الحزب، فرضتها الظروف السياسية المتغيرة التي عاشها الحزب داخل المشهد السياسي المغربي ، و اقتضت مصلحته تواري وجوه و بروز وجوه اخرى.
لا وجود للصقور والحمائم
قد يعتقد البعض ان داخل العدالة والتنمية، هناك صقور وحمائم، بمعنى ان هناك معسكرين، معسكر لين استطاع التخلص من كثير من جوانب ارثه الإيديولوجي وتطوير مواقفه وتكييفها مع الواقع السياسي المغربي ومع ما يقتضيه بناء الدولة المدنية الديمقراطية، و معسكر اخر متشدد و صدامي غير قابل للتغير ، ينهل من المرجعية الدينية و يطمح الى إرساء مشروع مجتمعي ماضوي و متشدد ، لكن ممارسة الحزب السياسية في الواقع تثبت عكس ذلك ، فأمام الملفات الكبرى التي تطرح على المجتمع ، تنبث لكل حمام هذا الحزب مخالب و تتحول الى صقور كاسرة.
و على سبيل الذكر لا الحصر ، يشكل ملف تدريس المواد العلمية باللغات الأجنبية احد الامثلة الحية على ما سبق التنبيه اليه اعلاه، حيث تجندت كل مكونات الحزب لتسفيه هذا المشروع و ضربه و مهاجمة حامليه، و اختفت كل الخطابات المعتدلة و المواقف اللينة و “التقدمية ” ،و اختفت كل خلافات الصقور و الحمائم ، و اصبح الحزب كتلة متجانسة ، و عادت المرجعية الدينية لتأطير خطابهم ، و برز كنه المشروع المجتمعي لهذا الحزب .
مناضلو العدالة و التنمية خط أحمر
عندما بدأ التراشق الاعلامي بين الرميد و عبد العالي حامي الدين و ماء العينين و اخرين ، بعد اعفاء بنكيران ، ظن الكثيرون ان حزب العدالة و التنمية دخل مرحلة الانشقاق التنظيمي ، و ان اواصر الترابط النضالي قد انكسرت بين مناضليه ، و ان الحرب بينهم لن تبقي و لن تذر احدا ، لكن هذا الطرح سرعان ما سيتبدد عندما قررت محكمة فاس اعادة محاكمة عبد العالي حامي الدين في شأن قضية مقتل الطالب اليساري بن عيسى ايت الجيد ، حيث سارع الرميد الى تشكيل و ترؤس لجنة للدفاع عنه ، معلنا مرة اخرى ان العدالة و التنمية جسد واحد ، و ان أي مس بعضو من اعضاء هذا الجسد هو مس بكامل اعضاء الجسد .
نزول و اكتساح مناضلي و قيادات العدالة و التنمية لقاعة المحكمة في اول جلسة لمحاكمة حامي الدين، هو رسالة واضحة لمن يهمه الامر ، ان مناضلي العدالة و التنمية فوق كل الاعتبارات القانونية و السياسية ، و انهم لن يدخروا جهدا في منع ملاحقتهم و متابعتهم تحث أي ظرف من الظروف.
ما قام به حزب العدالة و التنمية اتجاه حامي الدين ، ليس وليد لحظة سياسية ، و ظروف تنظيمية معينة يعيشها الحزب ، بل هو جزء لا يتجزء من العقيدة السياسية للحزب ، و الكل يتذكر كيف ساوم العدالة و التنمية الجميع سنة 2011 ، من اجل اطلاق سراح جامع المعتصم المتابع آنذاك في قضية اختلاسات عمومية .
ثنائية الدين و المبادئ الكونية
رغم قناعة حزب العدالة و التنمية بتعارض كثير من النصوص الدينية مع المبادئ الكونية لحقوق الانسان و الديمقراطية ، الا انه يصر على اللعب فوق احبال هذه الثنائية، فعندما تفجرت فضيحة علاقة الشوباني بسمية بنخلدون ، لم يتوانى الحزب في استعمال ورقة الدين لايجاد المخرج لهذا الثنائي ، و نفس الشيء بالنسبة لبنحماد و فاطمة النجار ، حيث تم تجاوز كل النصوص القانونية المؤطرة للزواج بالمغرب ، و استعمل للنص الديني لطمس معالم الفضيحة.
لجوء الحزب للمبادئ الكونية و استعمالها كمخرج للمطبات التي قد تسقطه فيها بعض تصرفات اعضائه ، سيظهر بشكل جلي، مع نزع امينة ماء العينين لحجابها بباريس ، حيث توالت خرجات مناضلي و قيادات الحزب للدفاع عنها، معتبرين الحجاب قناعة شخصية ، و ان الانتماء للعدالة و التنمية ليس انتماء على اساس ديني ، و ان الحرية الشخصية مكفولة للجميع، ووووو…..
بنكيران …اللعب “القذر”
يعتبر الكثيرون ان خرجات عبد الاله بنكيران الاعلامية ، هي ردود افعال من رجل ذبح سياسيا ، و لا امتداد تنظيمي لها ، لكن المتتبع الجيد للسياقات الزمنية و السياسية لهذه الخرجات ، سيفهم ان بنكيران ، يقوم بالأدوار “القذرة ” التي لا تريد مؤسسات الحزب الرسمية القيام بها.
فقصف بنكيران للخصوم ، لا يلاقي رفضا او استنكارا من طرف قيادة الحزب، و في غالب الاحيان تكون خرجات بنكيران متزامنة مع الازمات و الصرعات التي يواجهها الحزب مع حلفائه الحكوميين او خصومه السياسيين.
والمحاولات المحتشمة لقيادة العدالة و التنمية التبرؤ من غزوات بنكيران الكلامية بترديد عبارة “لا صفة تنظيمية له ” هي محاولات بدون معنى و فاقدة للصدقية ، فبنكيران يعلن مواقفه و هجوماته في لقاءات شبه تنظيمية يطلق عليها زيارات “صلة الرحم” ، تقوم بها اجهزة حزبية بعينها ( مكتب وطني للشبيبة العدالة و التنمية ، كتابات جهوية و اقليمية ، قطاعات حزبية )، و بالتالي لا يمكن التملص مما يقوله بنكيران ، فهو امين عام سابق للحزب و عضو حالي للمجلس الوطني ،و الكثيرون داخل العدالة و التنمية يعتبرون كلامه بمثابة رسائل مبطنة من الحزب الى خصومه ، بان العدالة و التنمية قادر على المواجهة و ان كل الاختيارات متاحة امامه .
التقية خدمة للمشروع المجتمعي
حزب العدالة و التنمية هو كباقي الحركات السياسية التي تعتبر الدين مرجع في عملها السياسي ، فهي تسعى الى فرض نموذج ديني محض انطلاقا من الديمقراطية التي تعتبرها الوسيلة الوحيدة التي ستمكنها من الوصول الى الحكم ، و بمعنى اوضح فهذه الاحزاب و الحركات الاسلامية لا ترى في الديمقراطية و كل ما ينتج عنها و يرافقها سوى اليات و وسائل مرحلية تؤدي الى فرض النموذج الديني المبني على الشريعة و حكم النصوص الدينية ، لهذا فهي لا ترى أي مانع في سلك كل الدروب الممكنة و حتى لو لم تكن شرعية للوصول الى هدفها الاسمى ، فهي تعتمد على تكتيكات معقدة تذهب في غالب الاحيان الى اعتماد ما يطلقون عليه في أدبياتهم “التقية ” ، وهي اظهار عكس ما يؤمنون به لمسايرة الخصوم و طمأنتهم حول المشروع السياسي و الايديولوجي الذي ينتسبون اليه ، الى غاية تحقيق اهدافهم .
لهذا فالخلافات الظاهرية التي تطفو على السطح بين الفينة و الاخرى بين مناضلي العدالة و التنمية ، لا تخرج عن دائرة ما سبق التذكير به ، خاصة و ان غالبيتها لا تحمل أي بعد تنظيمي موضوعي او سياسي ، فهي خلافات للاستهلاك الاعلامي ، و لخلق الالتباس داخل المشهد السياسي من خلال الانقسام في تبني المواقف و الادوار ، فتجد داخل نفس الحزب من يتبنى الموقف و من يتبنى نقيضه كذلك ، ليس انطلاقا من منطق الاختلاف و التنوع في الآراء و الافكار داخل التنظيمي الحزبي ، بل انطلاقا من منطق التشويش السياسي و امتصاص الضربات التي قد توجه للحزب وكذلك استباق الانتقادات التي من الممكن ان تطال الحزب جراء ممارسته السياسية، من خلال تعويمها و جعلها تبدو عادية ، لكن هذا الاختلافات و الصرعات تختفي بمجرد ما يتعلق الامر بالركائز الاساسية للمشروع المجتمعي للحزب الاسلامي ، و يصبح الكل كتلة واحدة و موحدة .