غرامشي وإدوارد سعيد: نظرة اشتراكية حول حركة المقاطعة العالمية

أفنان أبو يحيى

أعجب المفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد، مؤلف كتاب الاستشراق وكتب عدة عن قضية فلسطين، بالماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي لوجهات نظره حول الهيمنة الثقافية. ما الذي كان يمكن أن يحدث لو تمكن هذان العملاقان الفكريان من التعاون في صياغة استراتيجية وتكتيكات حركة المقاطعة العالمية، لمقاطعة الاحتلال الإسرائيلي وسحب الاستثمارات معه وفرض العقوبات عليه، التي أطلقها المجتمع المدني الفلسطيني عام 2005، أي بعد عامين فقط من وفاة سعيد و68 عامًا بعد غرامشي؟

يشكل هذا المقال محاولة لفهم مفاهيم غرامشي للقيادة الأخلاقية والحس المشترك والحس السليم والهيمنة الثقافية والبنية الفوقية وحرب المواقع وفلسفة الممارسة، وتأثيرهم على تفكير سعيد وصلتهم بحركة المقاطعة. في إطار هذا أسعى للإجابة أيضًا عما إذا كانت هناك حاجة إلى منظور ماركسي أو اشتراكي يدعم حركة المقاطعة العالمية. لماذا لا يكفي أن يستجيب الاشتراكيون ببساطة لنداء المجتمع المدني الفلسطيني ويجدوا طرقًا لدعم حركة المقاطعة في النشاط العملي؟ هل تساهم النظرية الماركسية بأي شيء ذا أهمية لهذه الحركة؟ الاستنتاج الذي تم التوصل إليه هو أن كل من غرامشي وسعيد تركا وراءهما إرثًا يقدم رؤىً لا تقدر بثمن، وأسباب لماذا وكيف يمكن أن تنجح حركة المقاطعة في الدول الرأسمالية الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لتصبح جزءًا من انتفاضة عالمية تعمل جنبًا إلى جنب مع المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة.

الماركسية فريدة كفلسفة لأنها تتجاوز رغبة تغيير العالم من خلال الإعلان فقط عن نيتها لتغيير العالم. لذلك، يبحث هذا المقال أيضًا في مسار ثلاث سنوات لحركة المقاطعة في بورتلاند، أكثر المدن اكتظاظًا بالسكان في أمريكا. الهدف هو تحديد ما إذا كان إرث غرامشي وسعيد قد ساعد في توجيهها رغم وجود العلاقة الجدلية بين النظرية والتطبيق، لكن لا يكتمل أيًا منهما دون الآخر، حيث توجه النظرية الممارسة، والممارسة بدورها تعمق وتصحح وتثري النظرية. وفقًا لهذا الرأي، يجب اختبار فعالية المبادئ النظرية على أرض الواقع.

إن مفهوم غرامشي لـ “القيادة الأخلاقية” ملائم في هذا السياق. بالنسبة لغرامشي، فإن الطبقة العاملة “اقتصادية” إذا كنا نتحدث عنها فقط، لكن ماذا بشأن الآخرين؟ حث غرامشي الحزب الاشتراكي في إيطاليا، ثم الحزب الشيوعي في وقت لاحق على تناول “المسألة الجنوبية” -أي محنة الفلاحين- خاصة في الجزء الجنوبي الأقل تصنيعًا من إيطاليا. لكن غرامشي لم يكتفِ بمساءلة تحالف العمال والفلاحين فقط إذ دعا أحزاب الطبقة العاملة إلى توفير “القيادة الأخلاقية” لجميع “الأطراف الفرعية”، الذين وصفهم بأنهم أي شخص في وضع تابع في المجتمع الرأسمالي أو ما نسميه اليوم ب “نسبة ال99%”.

وبالمثل، في كتابه الاستشراق، أبرز سعيد وجهة نظر القيادة الأخلاقية في موضوعه الأساسي المتمثل في تحدي الطريقة التي أنكر بها الاستعمار الغربي قدرات الشعوب المستعمرَة. إن نقد سعيد لمفهوم الغرب للشرق يستند في نهاية المطاف على فهم جذري ورفض لمفهوم الثقافات المتفوقة، ووضع الإطار “الاستشراقي” بمنطقية تشرح سياق الاستعمار والإمبريالية.

يرتبط مفهوم غرامشي عن الحس السليم ارتباطًا وثيقًا بفكرته عن الهيمنة الثقافية والبنية الفوقية. بالنسبة لغرامشي، طبقت الدول الرأسمالية المتقدمة حكمها وسيطرتها ليس فقط من خلال جهاز الدولة القمعي -أي الشرطة والمحاكم والسجون والجيش- ولكن أيضًا من خلال المؤسسات التي ظهرت في المجتمع المدني. يعتمد جهاز الدولة في المقام الأول على القوة والإكراه للحفاظ على الحكم الرأسمالي في حين أن مؤسسات المجتمع المدني بدءًا من النقابات إلى الكنائس إلى وسائل الإعلام إلى ما نسميه اليوم المنظمات غير الحكومية غالبًا ما تساعد في صنع الموقف بنفس الترتيب القائم للأشياء بدلاً من تغيير هذا الأمر.

تنبع فكرة الهيمنة الثقافية جزئيًا من قول ماركس الشهير حول الأيديولوجيا الألمانية: “إن الأفكار السائدة في كل عصر هي أفكار الطبقة الحاكمة، أي الطبقة التي تشكل القوة المادية للمجتمع، هي في نفس الوقت القوة الفكرية المسيطرة”.

ناقش غرامشي سبب خضوع العمال لهذه الأفكار المهيمنة حتى عندما تتعارض مصالحهم الطبقية تمامًا مع مصالح الرأسماليين، مستعينًا بأفكار الحس السليم والبنية الفوقية لشرح كيفية قيام أفكار الطبقة الحاكمة بتأسيس الهيمنة على المجتمع بشكل عام وجعله يبدو كما لو أن النظام الرأسمالي هو مجرد نتيجة الحس السليم والتسلسل الأفضل للشؤون الإنسانية.

وبطريقة ما، توقع غرامشي قبل ما يقرب 100 عام طرح الصحفي توماس فرانك في كتابه الأكثر مبيعًا “ما الخطب في كانساس؟” لماذا صوت الناخبون في ولاية كانساس التي كانت يومًا معقلاً لإلغاء عقوبة الإعدام والاشتراكية الزراعية، ضد مصالحهم الاقتصادية الخاصة من خلال تبني الأجندة الاجتماعية للحزب الجمهوري؟

من أجل إرساء ثوابت هذه الهيمنة الثقافية والحفاظ على عملها بسلاسة، تساعد الطبقة السائدة أيضًا في إحكام السيطرة على البنية الفوقية، مثل المؤسسات التعليمية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، لضمان فعالية أفكارها العليا. إن المهندسين المعماريين الرئيسيين الذين صاغوا لنا “الحس السليم” قطعة قطعة هم وسائل إعلامنا وعلمائنا الأكاديميين الذين يفلحون في إخفاء الطبيعة المنهجية للقمع ولاستغلال الرأسماليين. يتعلم الناس تبني الأفكار وقبولها بما يتعارض مع اهتماماتهم الخاصة لأنهم محاطون يوميًا بوصفات افتراضية من الأفكار المهيمنة التي يجب أن تكون صحيحة لأن الجميع على ما يبدو يعتقدون أنها حقيقية. المثير للجدل هو أن تكون منشقًا ومختلفًا عن النظام الراسخ “للحس السليم”.

في قضية فلسطين وفي ظل نزعة الصهيونية للاضطهاد، يفكك سعيد أفكار “الحس السليم” التي دعمت الرواية الإسرائيلية لعقود وجعلت وجود “دولة” يهودية يبدو معقولاً بالنسبة للعديد من الناس. وتشمل هذه الحجة أن المحرقة تركت الشعب اليهودي بدون بديل سوى إقامة “دولة” يهودية خاصة بهم لحمايتهم وجمع شتاتهم، وأصبحت المقاومة الفلسطينية للإرهاب الصهيوني في رواية “المنطق السليم” مجرد اضطهاد مستمر لليهود، كما أصبحت “إسرائيل” أسطورة هارون الأخوية في الوقوف إلى جانب موسى الدول العربية المجاورة، وفقًا لهذه الرواية المهيمنة.

ولمواجهة هذه الرواية، طبق سعيد “الحس السليم” كما يجب أن يطبّق، بعكس “الحس السليم” السائد، مفكِكًا كل نفاق وكذب وتناقض داخل الرواية الإسرائيلية عن طريق إظهار تعارضها مع المبادئ الراسخة لحقوق الإنسان والديمقراطية. من خلال ذلك، أسس سعيد إلى جانب آخرين كثر رواية فلسطينية بديلة لهيمنة النماذج السائدة.

في الاستشراق، يعترف سعيد بتأثير غرامشي مشيرًا بشكل خاص إلى تفريق غرامشي بين مؤسسات الدولة السياسية والمجتمع المدني والدور الذي يلعبه الأخير في تأسيس الهيمنة الثقافية، قائلًا:

“قام غرامشي بالتمييز التحليلي المجدي بين المجتمع المدني والسياسي حيث يتكون الأول من انتماءات طوعية (أو على الأقل عقلانية وغير قسرية) مثل المدارس والأسر والنقابات، في حين يتكون الآخر من مؤسسات الدولة (الجيش والشرطة والبيروقراطية المركزية) التي دورها في النظام السياسي هو الهيمنة المباشرة. وبالطبع، فإن هذه الثقافة موجودة في مؤسسات المجتمع المدني، حيث لا تتبنى الأفكار والمؤسسات والأشخاص من عدا النظام السياسي الهيمنة ولكنها تعمل من خلال ما يسميه غرامشي بالموافقة [الضمنية] عليها. في أي مجتمع غير شمولي، تسود أشكال ثقافية معينة على الآخرين، تمامًا مثلما تكون بعض الأفكار أكثر تأثيرًا من غيرها؛ شكل هذه القيادة الثقافية هو ما حدده غرامشي على أنه هيمنة، وهو مفهوم لا غنى عنه لأي فهم للحياة الثقافية في الغرب الصناعي. إن الهيمنة، أو بالأحرى نتيجة الهيمنة الثقافية في الواقع، هي التي تعطي الاستشراق القوة والمتانة التي أتحدث عنها حتى الآن”.

ناقش سعيد أيضًا بشكل خاص رؤى أخرى لغرامشي حول فكرة “اكتشاف المرء لذاته” و “عملية التسوية أو جرد المخزون” والتكيف مع الظروف التاريخية. كما سنرى لاحقًا، هذا أيضًا ذو صلة خاصة بحركة المقاطعة. يقول سعيد في صفحة اخرى من الاستشراق:

“من زاوية شخصية، يقول غرامشي في كتابه رسائل السجن: “نقطة الانطلاق للنقد هي أن يعي المرء نفسه حقًا كمنتج للعملية التاريخية حتى الآن، كمكون أودع فيه عددًا لا نهائيًا من الآثار، بدون إغفال لأي حقبة”.. الكثير من محتوى كتابي الاستشراق مستمد من البحث الذاتي في وعيي بأنني “شرقي”; عندما كنت طفلاً نشأ في مستعمرتين بريطانيتين، فلسطين ومصر، ومن ثم أكمل تعليمه في الولايات المتحدة “الغربية”، ظل للطرف الشرقي مساهمة مستمرة في وعيي المبكر العميق. لقد كانت دراستي للاستشراق من نواح عديدة محاولة لجرد أو تسوية آثار علي، أي الجانب الشرقي، حول الثقافة التي كانت هيمنتها عاملاً قويًا في حياة جميع المستشرقين، ولهذا السبب كان على الشرق الإسلامي أن يكون مركز الاهتمام. وسواء كان ما حققته هو التسوية التاريخية التي كان يعنيها غرامشي، لكن على أية حال، شعرت أنه من المهم أن أعمل على محاولة إنتاج واحدة”.

من المسلّم به أن سعيد لم يكن ماركسيًا بل وانتقد ماركس لاستسلامه لأفكار المستشرقين. في وقت كتابة الاستشراق، كان تأثير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أكثر وضوحًا، على الرغم من أن سعيد لم يتبنى إنكار فوكو للواقع الموضوعي. كما يشير المؤرخ زكاري لوكمان في “تاريخ الاستشراق وسياسته” إلى أن تبني سعيد لأفكار فوكو كان دائمًا جزئيًا ومتضاربًا، جنبا إلى جنب مع غرامشي، أعجب سعيد أيضا بالناقد الثقافي الماركسي ريموند ويليامز، متنازلًا لاحقا بشكل علني، كما يذكر لوكمان، عن مفهوم فوكو المفرط “للسلطة”، متمسكًا “بإمكانية وجود مجتمع أكثر عدلا في المستقبل”.

ظهر تقدير سعيد لأهمية مفهوم الهيمنة الثقافية مرة أخرى في نقده للطريقة التي طورت بها وسائل الإعلام المؤسسية رهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا في كتابه “تغطية الإسلام” موضحًا تأثير الإعلام والخبراء على الكيفية التي نرى بها العالم (1981).

الأهم من ذلك، كيف تتم ترجمة هذه المفاهيم النظرية إلى ممارسة؟ حملة حركة المقاطعة في بورتلاند-أوريغون، بقيادة تحالف شامل لأطراف دينية ومهتمين بالعدالة الاجتماعية وناشطي سلام وجماعات يسارية علمانية تعرّف بورتلاند بأنها المدينة الخالية من الاحتلال، قدمت بعض الإضاءات الهامة.

كان الهدف من الحملة هو إقناع مجلس المدينة بالتخلي عن أي شركات ضالعة في دعم الاحتلال الإسرائيلي. كانت المحاولة الأولى لمجتمع التضامن الفلسطيني في حركة مقاطعة سياسية تهدف إلى مؤسسة ديمقراطية تمثيلية. جميع حملات المقاطعة السابقة كانت اقتصادية -أي تهدف إلى إقناع تجار التجزئة بالاستغناء عن المنتجات الإسرائيلية- لكن من الواضح أن هذه الحملة السياسية كانت الأولى من نوعها التي واجهت معارضة عامة من اللوبي الصهيوني المحلي، وخاصة الاتحاد اليهودي في بورتلاند الكبرى، الذين تجاهلوا في السابق حملات المقاطعة الاقتصادية.

جاء أول انتصار كبير للحملة عندما صوتت لجنة حقوق الإنسان في المدينة بالإجماع لتأييد دعوة المدينة من مقاطعة منتجات/خدمات أربع شركات هي: مجموعة سيكيوريكور (شركة خدمات أمنية ومعدات مراقبة)، وكاتربيلر (أكبر شركة مصنعة لمعدات البناء في العالم)، وهيوليت باكارد (شركة اتش بي للالكترونيات وتكنولوجيا المعلومات) وموتورولا سوليوشنز (شركة معدات اتصالات وإلكترونيات) بسبب تواطؤهم وعلاقاتهم الوطيدة مع الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته. كان التأييد في حد ذاته إشارة على أن السرد المهيمن قابل للتغيير عندما تدرك مؤسسات المجتمع المدني غير الممولة حكوميًا أن حقوق الإنسان الفلسطينية تُنتهك، خاصة بعد مشاهدة المجازر في الحرب على غزة عام 2014. تمامًا مثلما قالت رئيسة مجلس حقوق الإنسان: “بالنسبة لي عندما سُئلت عما إذا كان قرارنا سيعتبر مثيرًا للجدل، أجبت: ليس بعد الآن”.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *