في مجالسة الكتب ومعاشرتها

محمد بوبكري

يرى « جورج ستاينر » George Steiner أن الذين يحرقون الكتب ويحظرون الشعر ويقتلون الشعراء يعرفون بالضبط ما يفعله هؤلاء. فلا يمكن التنبؤ بتأثير السلطة الغامضة للكتب، حيث يمكن أن تكون لنفس الصفحة من نفس الكتاب تأثيرات متباينة جذريا على قرائها. فقد ترفع من الشأن أو تحط منه، كما يمكن أن تفتن أو تثبط العزيمة. كذلك، قد تدعو إلى الفضيلة أو التوحش، كما قد ترفع من الإحساس أو تبتذله وتبخسه. وبشكل مشوش، إنها قادرة، في الآن نفسه، على إحداث الأثر ونقيضه، وذلك في إطار الجواب الحيوي والمعقد جدا، السريع والمتتالي جدا الذي لا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يتنبأ بقوته أو يستطيع تخمينه. ففي لحظات مختلفة من حياة القارئ، يمكن أن تحدث ردود فعل مختلفة كليا. كما ليس في التجربة البشرية ظاهرة أكثر تعقيدا من اللقاء بين النص والإدراك، أو كما لاحظ  » دانتي » Dante بين أشكال اللغة التي تتجاوز إدراكنا وأنظمة الفهم التي تكون لغتنا دونها وغير متكافئة معها.
لكن قد يتضمن هذا الحوار الناقص دعوة إلى العنف واللاتسامح والاعتداء الاجتماعي والسياسي. وعلى النقيض من ذلك، تشكل الكتب مفتاحا من أجل أن نصير أكبر مما نحن عليه الآن. لقد أثارت قدرتها على إحداث التفوق والسمو نقاشات عديدة. فمنذ السومريين، شكلت الكتب رسلا وتضمنت أخبارا للقاء الإنسان بالله. وقبل « كاتولوس » Catulle بكثير، كانت بريدا للحب… وفوق ذلك، مع ظهور بعض الأعمال الفنية الرائعة، بلغ التخيل قمته، فأصبحت هناك إمكانية للانتصار على الموت؛ إذا كان الكاتب منذورا للموت، فأعماله تبقى خالدة في الحياة بعده…
إن اللقاء مع الكتب كاللقاء الذي يغير حياة الرجل أو المرأة بعد لقاء أحدهما بالآخر. فعن طريق النص نؤمن بمعتقد معين، أو نتبنى فكرا معينا، أو نرتبط بإيديولوجية معينة… وهذا ما يمنح وجودنا غاية وحجة ومعنى.
قد لا ينتبه الناس إلى قيمة كتاب معين، فيبقى عرضة للإهمال واللامبالاة طيلة حياة صاحبه، ولا يتم الاعتراف بمكانته إلا بعد وفاة هذا الأخير بمدة طويلة. ومن ثمة، فالكِتاب الأصيل لا يكون على عجلة من أمره، بل يستطيع الانتظار قرونا من الزمن ليكون له وقعٌ في نفوس البشر…
تمنح الكتابة للإنسان والعالم حياة أعمق من الحياة الواقعية، لكن كيف يمكن لخطوط على ورق تتناول شخصية روائية أو تبسط مسرحية أن تتجاوز في جوهرها وحضورها المدهش… الحياة المعيشة؟ إن هذه الشخصية المتخيلة هي أكثر حياة وتعقيدا من الوجود الخاص لمبدعها ومتلقيها. فهل هناك رجل أو امرأة أكثر جمالا من Hélène؟ وهل هناك إنسان أكثر تعقيدا من هملت Hamlet ؟ وهل هناك بشر لا يشمله النسيان كإيما بوفاري Emma Bovary؟ إن هذا هو السؤال المركزي والأكثر صعوبة في مجالي الشعر وعلم النفس…
القراءة سيرورة تقوم أساسا على اشتغال القارئ الجدي مع الكاتب. ويشكل فهم نص ورسمه في متخيلنا وذاكرتنا وتمثلنا إعادة إبداعه عبر وسائلنا المتاحة. والقراء الكبار لسوفوكليسSophocle وشكسبير، وأمثالهما، هم الممثلون والمخرجون الذي يمنحون الكلمات جسدها الحي. كما أن حفظ نص شعري عن ظهر قلب هو الالتقاء به في منتصف الطريق في إطار سفره العجيب إلى هذا العالم. فمن خلال القراءة الجيدة له يجعل منه القارئ شيئا مفارقا، حيث يكون عبارة عن صدى يعكس النص، لكنه يتجاوب في الوقت ذاته مع إدراكاته الخاصة وحاجياته وتحدياته وأحلامه. إن ألفتنا وصداقاتنا الحميمة مع الكتاب هي إذن جدلية ومتبادلة، حيث نقرأ الكتاب، لكن من الممكن، وبشكل أكثر عمقا، أن يقرأنا الكتاب.
إن التواطؤ بين الكاتب والقارئ، وبين الكتاب والقراءة التي نقوم بها غير قابل للتنبؤ ولا للتأثر بالتغيير.
يرى خورخي بورخيس Borges أن جوهر الواقع يوجد في الكتب؛ أي من خلال قراءتها وكتابتها والحديث عنها. لقد كان واعيا في أعماقه بمواصلة الحوار بين النص والقارئ الذي ابتدأ منذ آلاف السنين والذي يرى أنه لن ينتهي أبدا. فالكتب تستعيد الماضي وتسترجعه. وبمرور الزمن يتحول كل نص شعري إلى مرثية. لقد كان بورخيس مع النظريات الأدبية القائمة على النزوات والأهواء، كما كان ينحى باللائمة على الأدب الفرنسي بالخصوص لكونه لا يركز على الكتب والمؤلفات، وإنما على المدارس والتصنيفات النقدية. يقول Adolfo Bioy Casares لقد كان بورخيس الإنسان الوحيد، على حد معرفته، الذي عندما يتعلق الأمر بالأدب لا يخضع أبدا للمواضعات والتوافقات والتعاقدات، ولا للعادة، ولا للكسل. لقد كان يهب ذاته للصدفة، ويجد السعادة أحيانا في قراءة ملخصات السيناريوهات والمقالات الموسوعية… لم يكن يحس أبدا بأنه مرغم على قراءة كتاب حتى آخر صفحة منه. وقد كانت خزانته، كخزانة أي كاتب آخر، تعكس إيمانه بالصدفة وبقوانين الفوضى، حيث يقول عن نفسه: إنني قارئ مناصر لمذهب المتعة hédoniste لأنني لم أسمح أبدا لشعوري بالواجب أن يتدخل في مسألة شخصية تتعلق باقتناء الكتب.
هناك مؤلفون وكتاب يحاولون وضع العالم في كتاب. وهناك آخرون، وهم قلة، ينظرون إلى العالم بكونه كتابا يحاولون قراءته لأنفسهم وللآخرين. وقد كان بورخيس ينتمي إلى هذا الصنف الأخير، وكان من أولئك الذين يعتقدون أنه مهما كانت الظروف، فالواجب الأخلاقي يكمن في أن نكون سعداء. كما أنه يؤمن بإمكانية أن نجد هذه السعادة في الكتب، وذلك رغم أنه كان عاجزا عن تفسير ذلك، حيث يقول: إنني لا أعرف بالضبط لماذا أعتقد أن الكتب تمنحنا إمكانية السعادة، لكنني أعترف في أعماقي بهذه المعجزة. لقد كان يهب ذاته للكلمة المكتوبة. وبكل رهافة حسه، فقد كان نموذجا يمنحنا نحن قراءه إمكانية ولوج العالم اللانهائي للكتب.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *