بقلم: يونس التايب
كثرت، في الآونة الأخيرة، أخبار حوادث تنكيل و تعنيف واعتداء مجاني استهدف بعض النساء، و آخرها ما حدث بحي الفرح، بالدار البيضاء، و قبل ذلك في سلا، و قبله بالرباط منذ بضعة أسابيع.. إلخ.
حالات تكررت بشكل يطرح أكثر من سؤال حول ظاهرة تنامي العنف في الفضاء العمومي، و ضد النساء، بصفة خاصة. مما يحتم على السلطات العمومية المعنية، و على منتخبي الأمة، إيلاء الموضوع ما يستحقه من عناية، و فتح نقاش مسؤول، و محاولة تشخيص الظاهرة في الحدود الممكنة، ثم اتخاذ ترتيبات معينة و إجراءات قانونية لحماية المرأة المغربية.
و لعل الوضعية الحالية تستدعي، أيضا، العودة لتنظيم حملات تواصلية توعوية قوية تستهدف أصحاب “العقلية الذكورية”، لتذكرهم بمقتضيات القانون، و تحيي ضمائرهم حتى يتصرفوا بوعي كامل بحقيقة أن المرأة إنسان كامل غير قاصر، لها حقوق يكفلها القانون، و عليها واجبات كما للرجل، لا أقل و لا أكثر. و أول حقوقها هو الحق في أن تعيش بطمأنينة و أمن، و أن لا ينكل بها أو يستغل ضعفها بأي شكل من الأشكال.
في رأيي، إن مسألة وضعية النساء في مجتمعنا، تحتاج إلى مصارحة للذات، نطرح من خلالها أسئلة عميقة عن حقيقة أسباب ما نلاحظه في واقع المرأة، و ما يميزه من معاناة مادية و نفسية. يدفعني لهذا القول إحساسي بأننا لا نمتلك معطيات دقيقة، موضوعية و بعيدة عن ترسبات التمثلات التي في أذهاننا. كما أننا مجتمع اعتاد أن يتجنب، بل يهرب من طرح القضايا المجتمعية الكبرى للنقاش في جو هادئ، لتتحاور بشأنها جميع المكونات و الحساسيات الفكرية و الثقافية و السياسية في المجتمع، بدون إقصاء و لا تهميش لأي رأي مهما اختلفنا مع أصحابه. و تاريخ العشرين سنة الماضية يشهد أنه باستثناء ما بذل من جهد برعاية ملكية سامية، في بداية القرن الحالي، إبان النقاش المجتمعي حول تعديل مدونة الأسرة، لا أذكر أننا فتحنا نقاشات وطنية موسعة، تتسم بالرصانة و بمقاربة تشاركية، و بحضور عملي فاعل للعلماء و الخبراء من كل التخصصات، لنستمع للمرأة و هي تحكي عن همومها، دون أن نقمع حريتها في التعبير، و “بلا ما نفهمو عليها” أو “نهضرو حنا في محلها”.
وإذا كنا متفقين على أن أعلى سلطة في البلاد، ممثلة في جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، تدافع عن حقوق المرأة المغربية بقناعة كبيرة، و أن عددا من الفاعلين الحقوقيين لم يتوقفوا عن الترافع بنضالية كبيرة من أجل القضايا المشروعة للنساء، إلا أن علينا أن ننتبه إلى أن التحولات المجتمعية، و ضغط مشاكل التهميش الاقتصادي و البطالة، و تراجع أثر منظومة القيم، أثرت بشكل سلبي في وضعية النساء عموما، و في تمثل البعض لهن، خصوصا في المجالات الجغرافية الفقيرة، بالحواضر و القرى. ولكي نغير هذا المسار، بداية الطريق هي أن نمكن المرأة من حقها في أن تبسط لنا تشخيصها لوضعيتها، و أن ندمجها في النقاش العمومي بقدر أكبر، لأنها هي من يعاني و هي التي عليها أن تحدد الإضافات التي ترغب في أن يحملها لها واقعها اليومي، حفظا لكرامتها. بعد ذلك يصبح مشروعا السير معا لتنزيل الممكن من الطموحات، و نحن متأكدون أننا فهمنا الوضعية كما هي، لا كما نتمثلها، و بالتالي نتحرك و نحن واعون بالتزاماتنا الإنسانية و القانونية تجاه نساء وطننا.
و أول الأسئلة العميقة، و أشدها حساسية ربما، هي كيف يمكن أن يتحول المواطن الرجل و المواطنة المرأة، إلى شركاء حقيقيين في هذا الوطن، يتقاسمون فيه نفس الفرص، و يعيشون في ظل قيم إنسانية صادقة، بعيدا عن لؤم الاستغلال و التوظيف في كل أبعاده، و بعيدا عن تبضيع المرأة، و بعيدا عن الشر الذي ينبعث تلقائيا لدى البعض و يدفعهم لتحقير المرأة وتبخيس أدوارها؟
الحقيقة أنه رغم التقدم الذي تحقق، اجتماعيا و حقوقيا، إلا أن واقع المرأة المغربية ليس لوحة بيضاء مشرقة. ومن يعتقد ذلك، أو يروج له، يوهم نفسه بأشياء غير دقيقة. نعم… المرأة المغربية فرد بصيغة الجمع و التنوع، ثقافيا و سوسيو مهنيا و مجاليا و فكريا، في مكتسباتها و في معاناتها، في فرحها و في آلامها. و نعم …هنالك نقط ضوء كثيرة موجودة، بفضل دفاع المرأة عن نفسها و عن كرامتها و عن حقوقها، و بفضل تدافع مستمر بين قوى الخير و العقل و الكرامة في هذا الوطن، و بين قوى الشر و التحقير و الرداءة. لكن، مخطئ من يعتقد أن السعادة والإحساس بالذات، هو شعور تتقاسمه النساء المغربيات، أو أنهن يشعرن باحترام حقيقي دائم، و يلمسن توقيرا و حرصا فعليا، في بيتهن، و في الشارع العام، و في مقر عملهن، و في فضاءات التنظيمات المدنية و السياسية و المهنية التي تنشطن فيها. و من يقول بذلك، يغالط نفسه و يكذب عليها.
رفيقتنا في المواطنة و في الإنسانية، تناضل كل يوم بألف شكل. تناضل و هي تبتسم أحيانا، و تناضل وهي تخفي دمعتها أو تبكي أمام جلاديها. تناضل بالرحيل أحيانا، و تناضل بالبقاء و الصمود أحيانا أخرى. تناضل ضد الخشونة و سوء المعاملة من غريب في الشارع، أو من زوح ظالم مستبد، أو مستهتر غير مسؤول.
رفيقتنا في المواطنة تناضل في فضاءات العمل، في القطاع الخاص و العام، ضد “عقلية” زملاء لا يقبلون بأن تتميز المرأة بذكاءها، و لا يقبلون بأنوثتها مصانة محترمة، بل منهم من قد يسعون، إذا أمكنهم ذلك، أن يطلعوا على تفاصيلها، كأي شيء قابل للاستهلاك.
و الأفضع، أن المرأة تجد نفسها مضطرة لتناضل، أيضا، ضد “عقلية” رفاقها و إخوانها في التنظيمات و الهيئات، حين لا يقبلون أن تتفوق اجتهاداتها على اجتهاداتهم، و لا يقبلون أن تحتل مكانة قيادية على حساب “رجولتهم”. كما تناضل برفض أن يكون حضورها فقط لتزيين منصة الخطابة، أو لأخذ صورة جماعية تنشرها وسائل الإعلام، عربونا على حداثة مفترى عليها، أو دليلا على سعي للمساواة.
هذا الواقع المؤسف، حقيقة “ثقافية مجتمعية” تخترق كل المنظومات الفكرية و الثقافية، و لا يختلف فيها بعض أصحاب “اليمين” عن بعض أصحاب “اليسار”، و لا بعض الفقراء عن بعض الأغنياء، ولا بعض سكان الحواضر عن بعض سكان البوادي، و لا بعض المثقفين عن بعض عوام الناس، إلا من رحم ربك.
و يبقى الأمل أن تكثف السلطات العمومية المختصة من مجهوداتها، التأطيرية و القانونية و التواصلية، حتى يستوعب من يجب أن يستوعبوا ذلك، أن المرأة المغربية هي الأم، و الزوجة، و البنت، و الأخت، و الزميلة و الرفيقة، والمفكرة المثقفة، و المبدعة الفنانة، و المستثمرة و المدبرة، و الأستاذة و المكونة و المعلمة، و الإعلامية و الصحافية، و الطبيبة و الممرضة، و القاضية و المحامية و العدل، والمحدثة و المقرأة، و الرياضية واللاعبة، و الشرطية و الجندية، و الوالية و العاملة، والمنتخبة و الرئيسة و النائبة، و الفلاحة و العاملة، ليكفوا عن نشر ثقافة ازدراء المرأة و التضييق عليها و تعنيفها. و لا يمكن أن نقبل التعاطي مع نساء هذا الوطن إلا على أساس أنهن مواطنات، و أن كل واحدة منهن إنسانة تستحق الاحترام الكامل، لا يهينها إلا لئيم، و لا يظلمها إلا ضعيف، و لا يبخسها حقوقها إلا متسلط أشر.