لماذا يجب أن نقرأ؟

محمد بوبكري

تقول Danièle Sallenave إن الحياة بدون كتب هي حياة مبتذلة ومبتورة. فما هي الحياة المبتذلة؟ هل ينقصها المال، أو الشرف، أوالحياة الجميلة؟ هل تنقصها الثقافة والأسفار؟… ليس الأمر كذلك، إذ هناك أغنياء متعلمون يعيشون حياة مبتذلة. ويعود ذلك إلى أن حياتهم تفتقر إلى الفكر والكتب، حيث تعاني من الشقاء جراء افتقارهم إلى الخيال والحلم ومعرفة العالم والخبرة الواسعة والعواطف والإحساسات التي توجد في الكتب، وخصوصا الرواية والشعر والتشكيل وكل ما يبدعه الخيال…

لكن، هل نقرأ؟

نعم إننا نفعل ذك إذا كان المقصود بالقراءة هو المطالعة الحرفية للحصول على بعض المعلومات المباشرة، لكن عندما يُقصد بها ولوج مستويات الفضاءات الأدبية والفنية، وتشغيل خيالنا وامتلاك القدرة على اتخاذ مسافة من النص والتأمل والحلم عبر الكلمات…، فإني أشك في أننا نمارس هذا النوع من القراءة، أو نستطيع إنجازه بما يقتضيه من صفاء وصرامة…

يرى Marcel Proust أن « القراءة تمكننا من امتلاك المفاتيح السحرية التي تفتح في أعماقنا أبواب المنازل والفضاءات التي لم نعرف ولوجها، مما يجعل دورها مفيدا في حياتنا »، فهل نحن قادرون على فهم هذه الفكرة المأخوذة من « Sur la lecture »؟

إننا لا نهتم بولوج هذه المنازل والفضاءات الداخلية التي تمكننا القراءة وحدها من دخولها على حد تعبير Proust، إذ يصعب علينا القيام بذلك عندما لا نكون مسلحين بمفاتيح القراءة، كما أن قانون السوق لا يمنح أية قيمة لهذه الحياة الداخلية التي إذا ما اكتشفنا أنها موجودة، فإننا نخاف منها ونحكم إغلاق الباب عليها، ثم نلوذ بالفرار…

ومع ذلك، ولحسن الحظ، فالأمور لا تبقى كذلك، إذ يحصل أن يقرأ المرءُ كتابا في يوم ما، فإذا بشيء ما ينفتح في داخله، فلا يتراجع عن التوغل فيه، مما يُخَلِّصه من نموذج هذا العالم الجبان والمتكبر الذي يراد فرضه عليه. وهكذا ستسري الحياة في هذا الإنسان، حيث سيعثر على ذاته التي ضاعت منه، فينقذها من أن تظل قابعة في غياهب هذا العالم وتفاهاته….

كل الناس يفكرون ويتأملون ويحسبون…، لكنهم يفكرون بدون أسلحة ولا أدوات، ويحسبون بدون اللجوء إلى الكلمات، ويتأملون بدون الرجوع إلى الكتب… وعندما يفكر الإنسان في أمور الحياة…، فإنه يزنها. وإذا كان الأدب يكشف عن حقيقة العالم، فليست لهذه العملية ذاتها أية غاية أخرى سوى تمكيننا من الحكم عليه بهدف اكتساب القدرة على تدبير أنفسنا وتدبيره في آن…

ليس الهدف من معاشرة الكتب وغايتها هو إحداث قطيعة مع الحياة العادية المبتذلة، بل هو تغييرها، إذ لا تمكننا المؤلفات من الانفلات من الحياة المبتذلة فحسب، بل وكذلك تساعدنا على الرقي بها نحو الأفضل، حيث تتضح لنا أكثر، مما يساعدنا على إعادة النظر فيها وتغييرها نحو الأحسن…

ليست القراءة حيوية فقط للنجاح في بلوغ ما نريد إنجازه، وإنما كذلك للعيش في هذا العالم وجعل الحياة متسقة ومتماسكة، وصونها من السقوط في الابتذال والرتابة والاستجمام الخامل. فليس الكتاب موضوعا ثقافيا ولا ترفيها فحسب. إنه أكثر من ذلك، حيث إنه فكر وصرامة ولذة ونمو وسمو واستشراف…، مما يجعله مضادا للخمول والجمود والرتابة والميوعة…

وهكذا، فإننا نكون على خطأ وعلى صواب في الآن ذاته عندما نقول إن القراءة تمكننا من الهروب من العالم، إذ تساعدنا على عدم الانسياق وراءه والانقياد له، مما يجعلنا ننضم إليه عبر التفكير فيه من أجل تغييره… إضافة إلى ذلك، فهي تمكننا من الانفلات من الكذب، كما تكشف لنا الزيف وتبعدنا عنه.

وإذا كان في هذا العالم حقيقة ينبغي البحث عنها، فللأدب يعود أمر الكشف عنها؛ الكتاب بكل بساطة هو الفضاء الذي يُمَكِّن الإنسان من أن ينتزع ذاته من ذاته بهدف الانفتاح على العالم، إذ تمكنه القراءة من الغيرية، وتجعله ينفتح على ذاته وعلى العالم وعلى الآخر وعلى الطبيعة…

تشكل قراءة كتاب ما استكمالا لكتابته، وذلك لا يحدث عبر إضافة معنى إليه، أو بالقيام بتأويل شخصي له، بل من خلال العمل على تجسيده في عالمنا. وإذا كانت القراءة تُمَكِّنُ من تجسيد العالم، فإن الشخصية الروائية تُمَكِّنُ من تجسيد الإنسان. فعبر اتصالنا بأبطال الرواية ودخولنا في حوار معهم، نحن ندخل في مساءلة ذواتنا، مما يمكننا من فهمها. وبواسطة هذه الشخصيات الروائية نصير آخرين لكي نصير أنفسنا. وهكذا، يصبح جليا أن الخيال الأدبي يجعل القارئ يحمل رؤوسا متعددة على كتفيه.

لقد بين Alberto Manguel أن القارئ مبدع، كما أكد أن القراءة نشاط معقد جدا، بل إنها غامضة، بحيث لم يتمكن الباحثون بعد من فهم كل ما نقوم به بالضبط عندما نقرأ. فكل ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن القراءة هي عملية إعادة بناء معقدة يمارسها القارئ، لكنها تكون شخصية. ويعني هذا أننا عندما نقرأ، فإننا نجعل النص يرن بتجربتنا وذكرياتنا مع قراءات أخرى، وأحكامنا المسبقة وأمزجتنا وأخيلتنا وهواجسنا وأحلامنا . فقد نحفظ بعض الجمل دون غيرها، إذ قد نوسعها ونؤولها… ويكمن دور القارئ في أنه يجعل مضامين تلميحات الكتابة وظلالها مرئية.

نلاحظ أن أغلب الكبار المتعلمين لا يقرؤون، إذ من المؤكد أن القراءة لا تشغل سوى حيز ضئيل جدا في حياة هؤلاء ومحيطهم في مجتمعنا، فإلى ماذا يعود ذلك؟ قد يعود أساسا إلى أنهم ينظرون إليها بكونها مجرد تمرين مدرسي خالص. وهذا ما يجعلهم يظنون أن مهمة القراءة تنتهي بمجرد تخرج الإنسان من المدرسة أو انقطاعه عنها، إذ يصير يتوهَّم بقوة الأشياء أنه لم يعد مجبرا عليها! تفاديا لذلك، ينبغي أن نساعد التلاميذ على اكتشاف لذة القراءة وما سينجم عنها من سعادة، مما يمكنهم من السمو وإدراك معنى الحياة… ومن أجل ذلك، يجب أن نتوقف عن جعلهم يقومون بتمارين آلية مملة جدا تنفرهم من القراءة مدى الحياة…

يجب أن يعي التلميذ أن القراءة تغذي عقله وروحه ووجدانه وتثريهم…، وأن الكتاب يمكنه من النفاذ إلى لذة التخيل والحلم والتأثر بـ « القصص والحكايات »، والقلق على الكائنات الخيالية… ويمكن زرع كل هذا في الإنسان عبر كل أنشطة القراءة. كما ينبغي أن ننقل إلى الأطفال أن تعلم القراءة هو النفاذ إلى سلطة منح الحياة للكلمات التي كان الكبار وحدهم يمتلكونها سابقا…

أضف إلى ذلك أن مُدرسي الآداب أصبحوا مُدرسي لغة، بمعنى أنهم يُدَرِّسونها باعتبارها لغة تواصل فقط وليس باعتبارها أيضا لغة ثقافة، والحال أن البُعدين متكاملان بحيث لا يجوز الفصل بينهما. وفي هذا الصدد، تساعدُ النصوص الأدبية على ترسيخ معرفة اللغة وإثرائها…، ناهيك عن أنها وسيلة فعالة للتكامل، وهو ما ينبغي أن يعيه المدرسون ويعملوا على تطبيقه.

يبدو في الظاهر أنه يمكن التخلي عن القراءة، لكن ما عواقب ذلك؟ هل سيؤدي ذلك إلى التوحش؟ الجواب لا، إذ لا يمكن لأي كتاب أن يقينا من ذلك. لكن الانغلاق على الكتب هو شكل خفيف من أشكال التوحش تجاه ذواتنا وتجاه الآخرين، إذ ينجم عن القضاء على خيال الإنسان حرمانه من أن يكون أكثر إنسانية وسعادة وتقدما وإبداعا وإنتاجا…

يرى بعض المهتمين أن الوسائل السمعية البصرية جعلت الناس يلتصقون بما هو مباشر ظنا منهم أنه الواقع فعلا، مما ينجم عنه عدم إحساسهم بالحاجة إلى المتخيل والحلم… لكن الإنسان في حاجة إلى أن يحدد موقعه بالنسبة إلى ماضيه الشخصي وإلى ماضي البشرية وعلاقته بهذين الماضيين… ولكي يتمكن من بناء هذا النوع من العلاقة، ينبغي عليه أن يلجأ إلى الذاكرة والخيال والحلم، وإذا لم يفعل فسيشكل ذلك خطرا عليه في المدى البعيد.

يختزل بعض الناس القراءة إلى مجرد تسلية، لكن إذا كانت المطالعة لا تخلو من ترفيه، فإن حصر وظيفتها في هذا الجانب وحده يُجازف باعتبارها ليست عامل إثراء للإنسان، والحال أنها على العكس من ذلك تماما. لا أقصد هنا قراءة الصحف، وإنما مطالعة المؤلفات الخيالية والفكرية التي تحفر في الإنسان والأشياء والحياة فضاء لتلك القوى الموجودة بداخلنا، والتي تكون أحوجُ إلى العزلة والسكينة والهناء والسلام منها إلى التبادل من أجل النمو.

القراءة تسلينا، حيث تنقذنا من مضايقة صخب اليومي الذي نغرق فيه، كما أنها تدخلنا في بعد آخر من الحياة الإنسانية، أي في ما يسميه الفيلسوف التشيكي Jan Patocka بـ « قلق الروح » « le souci de l’âme ». والمقصود بهذا القلق هو ذلك الصوت العنيد الموجود فينا الذي يقول إن مصير الإنسان لا يكمن في أن يكون غنيا ولا في أن يستعبد أو يهيمن، ذلك أن « الحياة الجيدة » هي بالضرورة شيء آخر غير السعي من أجل « عيش طيب »، كما أن الحفاظ على الحياة لا يفي بالضبط بالغرض من وجود الإنسان. فالإنسان لا يعيش بالخبز وحده، ولا عبر تلبية حاجاته الحيوانية فحسب…

لقد أبرز كل من Montesquieu وMarcel Proust، على التوالي، الطابع المُسَلِّي للقراءة، بل يعتبرها الثاني « صداقة »، وهذا ما ننساه فنفتقد بالتالي ذوق القراءة جراء اختزالها في دلالتها الوظيفية. وفكرة « الصداقة » جميلة، حيث تجعلنا ننظر إلى القراءة بكونها « محادثة » « Discussion » مع كبار الأزمنة الماضية بتعبير « ديكارت ». نعم إن القراءة تُسَلِّي وتُلَطِّف كما يقول Victor Hugo.

هناك حقيقتان متعارضتان: الأولى تكون مجسدة في واقع معطى في الوثائق…، والثانية نتيجة تفكير في هذا الواقع ينجم عنه بناء معرفة حوله. وتبعا لذلك، توجد حقيقة أكثر في النظرة إلى العالم كما تقدمها بعض الوضعيات الخيالية التي يرتبها السارد ويقدمها ويحللها، حيث تكون هذه الوضعيات أكثر حقيقة من الوقائع العارية. لقد كتب Baudelaire: « إن الخيال هو مَلِكَةُ ما هو حقيقي la Reine du vrai، والممكن هو إقليم من أقاليم ما هو حقيقي » (Curiosités esthétiques).

وهكذا، تشكل مطالبة الخيال الأدبي بالحقيقة انخراطا في معركة ضد كذب الصورة والتلفزيون الذي ليس سوى مؤسسة لصناعة الكذب على نطاق واسع عبر استغلال سذاجة الناس… يقول Christophe André : إن التلفزة تزودنا بصورة مصطنعة عن الواقع، وعن الوجود والعلاقات الإنسانية، إذ تقدم لنا أخوة كاذبة ودموعا اصطناعية وسلوكات مدروسة من لدن صاحب الكاميرا الذي يريد إحداث تأثير ما في المشاهدين أو خلق جمهور معين لبرنامجه التلفزي. وإذا تمكنت التلفزة من غسل أدمغتنا، فإن ذلك يشكل خطرا على الرغبة في الرواية وعلى تذوق قراءتها وإدراك معانيها…

تكمن أزمتنا الثقافية في عطالة خيالنا، إذ تشبه معضلة باخرة توقفت في عرض البحر لأنه ليست هناك ريح. أضف إلى ذلك أن وعينا وروحنا وفكرنا قد تعرضوا للشلل جراء النزعة النفعية وآثار طغيان التعطش إلى المال… وإذا كانت الحياة بدون كتب ممكنة، فإننا سنعيشها كجسد بدون روح، أو شجرة بدون نسغ la sève ولا ريح (Danièle Sallenave).

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *