محمد بوبكري.. الجزائر بين خياري الديمقراطية أو الانهيار التام

محمد بوبكري

يجمع المهتمون بالشأن الجزائري على أن هذا البلد يمر اليوم بأزمة خانقة، مردها إلى عوامل عديدة تكمن أساسا في الأسباب التالية:
لقد أدى انخفاض أسعار البترول والغاز إلى انخفاض عائدات الجزائر من هاتين المادتين، فانعكس ذلك سلبا على اقتصادها الذي ينهض أساسا على هاتين المادتين، إذ صارت الدولة عاجزة عن تلبية المطالب الاجتماعية للشعب الجزائري الذي كادت أن تخنقه مشاكل عيشه اليومي. أضف إلى ذلك أن الجزائر لا تنتج ما تحتاجه من مواد غذائية.

لقد انتبه الاستعمار الفرنسي إلى أن للجزائر معطيات طبيعية تؤهلها لتكون دولة فلاحيةـ فعملت الإدارة الاستعمارية في بداية الأمر على إيلاء هذا القطاع أهمية خاصة، حيث شرعت في تأهيله وتهيئته فلاحيا…

لكن، وبعد انقلاب هواري بومدين وصعوده إلى رئاسة هذا البلد، شرع في تخريب قطاعه الفلاحي، اعتقادا منه أن الجزائر يمكن أن تتحول إلى أكبر بلد صناعي أفريقي، وتصبح قوة إقليمية كبيرة قادرة على الهيمنة على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحتى على أفريقيا ذاتها. وقد أصابت عقدة التوسع هذه الجزائر بعاهة مستديمة ما تزال تعاني منها إلى اليوم، حيث كان يمكنها أن تعتني بقطاعي الفلاحة والصناعة معا، ولا شيء كان يمنعها من ذلك، لأن أغلب البلدان الصناعية اليوم هي بلدان فلاحية أيضا. ونظرا لعدم السير على هذا النهج، فقد باتت الجزائر تستورد ما يحتاج إليه الشعب الجزائري من مواد غذائية.

ويعود ذلك إلى الفكر السلفي القومجي لـ “هواري بومدين” الذي كان مأخوذًا بنزعة توسعية أفقدته القدرة على فهم الواقع الجزائري ومحيطه العالمي آنذاك، وجعلته لا يمتلك بعد النظر، ما عمق المشاكل الاجتماعية والسياسية للشعب الجزائري.

كما يمكن إرجاع الأزمة الجزائرية إلى تفشي الفساد في صفوف جنرالات الجزائر الذين استولوا على عائدات البترول والغاز، وهربوها إلى الخارج بغية استثمارها هناك، واحتكروا رخص استيراد المواد الغذائية وغيرها من المواد الاستهلاكية، مما أدى إلى رفع أسعار هذه المواد، ما انعكس سلبا على القدرة الشرائية للشعب الجزائري، وعمق معاناته… أضف إلى ذلك أن حكام الجزائر نظموا صفقات لإنجاز مشاريع وهمية ذهبت الأرصدة المخصصة لها في نهاية المطاف إلى حساباتهم البنكية في مختلف بقاع المعمور…

ويعود كل ذلك إلى أن الجزائر قد انطلقت منذ البداية انطلاقة خاطئة، لأنها كانت لا تمتلك مشروعا تنمويا، ما انعكس سلبيا على خططها الاقتصادية والاجتماعية، وعلى تدبيرها لإمكاناتها الطبيعية، وما اعترى ذلك من فساد وريع، ينمان عن عدم امتلاك جنرالات الجزائر لأية روح وطنية وتهميشهم للشعب الجزائري…

فضلا عن ذلك، لقد أدت السياسة التوسعية لحكام الجزائر، التي أرسى أسسها “هواري بومدين” إلى رغبة حكام هذا البلد في الاستقواء على جيرانهم بهدف التوسع. هكذا، فقد تدخل جنرالات الجزائر في السياسة الداخلية للمغرب وموريتانيا ومالي والنيجير وتونس وليبيا، بغية التوسع على حساب هذه البلدان، ما دفع حكام الجزائر إلى المبالغة في التسلح وخلق تنظيمات إرهابية للنيل من الوحدة الترابية لجيرانها شرقا وغربا وجنوبا. ومن الطبيعي أن التسلح من أجل التوسع والهيمنة كان سببا وراء تبخر عائدات البترول والغاز الجزائريين، كما أن تأسيس منظمات إرهابية وتمويلها وتدريبها وتسليحها لزعزعة استقرار الجيران كان مكلف جدا كذلك. أضف إلى ذلك أن كل هذا يتم عبر صفقات يجني منها جنرالات الجزائر عمولات تذر عليهم أموالا طائلة يكتنزونها في حساباتهم الخاصة.

هكذا، تسببت السياسة التوسعية لحكام الجزائر في تفقير الشعب الجزائري وفي عزلة وجنرالات الجزائر، فأصبح جميع جيرانهم يرفضون التعامل معهم، لأنهم فقدوا الثقة فيهم… وتشكل كل هذه العوامل الأسباب الرئيسية التي قادت إلى الأزمة المكعبة الخانقة التي تجثم على صدور الجزائيين حتى أنها صارت تهدد بخنق أنفاسهم، الأمر الذي يهدد استقرار البلد ووحدته الترابية….

تفسر هذه الأزمة ما عرفته، وما تعرفه وما ستعرفه، الجزائر من حراك اجتماعي، حيث يهب الشارع الجزائري لرفض وضعيته الحالية، ويطالب بتغيير أوضاعه عبر رحيل النظام العسكري الاستبدادي وتعويضه بنظام مدني ديمقراطي حداثي.

وما دامت المؤسسة العسكرية هي التي تمسك بخيوط القرار السياسي في الجزائر، فماذا سيكون رد فعلها أمام هبات جديدة للشارع الجزائري وحراكه؟ وإلى أين يقود هذا الصراع؟ من المعلوم أن جنرالات الجزائر يهيمنون على مجتمعهم بكافة مؤسساته، حيث تمكنوا من اختراق كل المؤسسات، إذ لا توجد في الجزائر أحزاب ولا نقابات ولا تنظيمات للمجتمع المدني بمعانيها السليمة. وهذا ما ضرب المجتمع الجزائري بالجفاف، حتى أنه أصبح عاجزا عن تطوير مشاريع مجتمعية تعكس طموحاته…

لقد عرفت الجزائر حراكا اجتماعيا كبيرا أفضى إلى رحيل عبد العزيز بوتفليقة، لكن هذا الحراك لم يقد إلى ترسيخ تغيير سياسي فعلي، لأنه كان عفويا وتلقائيا بدون تنظيم ولا قيادة، ولا مشروع، ما جعله غير مؤهل للقيام بحوار منتج مع جنرالات الجزائر، حيث تحايل عليه هؤلاء وامتصوا غضب الشارع، وحافظوا على مصالحهم الخاصة، فلم ينجم عن الحراك أي تغيير سياسي عميق يؤسس لمنهجية سياسية تنعكس إيجابا على مستقبل الجزائر وشعبها…

إذا كانت هذه هي وضعية المجتمع الجزائري، فما هي وضعية النظام العسكري بالجزائر؟ يجمع الباحثون المهتمون بالشأن الجزائري على أن الجنرالات هم المتحكمون في الدولة والمجتمع الجزائريين معا. لكن المؤسسة العسكرية لم تكن يوما كلا منسجما، بل إنها عبارة عن أجنحة متصارعة فيما بينها على السلطة والمال، حيث تتغير تحالفات الأجنحة حسب تغير الظروف والأحوال. لذلك، نلاحظ أخيرا حدوث انقلاب عسكري قام به الجنرالات سعيد شنقريحة ونزار وتوفيق ضد بقايا الجنرال “القايد صالح”. كما عرفت هذه المرحلة اغتيال بعض الجنرالات، وإبعاد بعضهم الآخر، واعتقال جنرالات وإيداعهم سجن “البليدة”، كما حدثت مواجهة مسلحة بين قوات “سعيد شنقريحة” التي هاجمت قصر المرادية للفتك بقوات الجنرال علي بن علي قائد الحرس الجمهوري، الذي أراد الجنرال خالد نزار والجنرال سعيد شنقريحة إبعاده، لأنهما طلبا منه التوقيع على إنهاء مهامه وقبوله الإحالة على التقاعد، لكنه رفض لأنه يعي جيدا أن ذلك سيفضي إلى اعتقاله، أو اغتياله..

كما أن جنرالات الجزائر لا يمتلكون أي رؤية للحاضر، ولا للمستقبل، ما يكشف فقرهم الفكري. وهذا ما يفسر ما يعانونه من تيه على كل المستويات وفي كل المجالات، كما أن عاهتهم الفكرية جعلتهم لا يستندون في فكرهم، ولا في ممارستهم على أية منظومة قيمية، حيث تعوزهم الأخلاق في علاقتهم مع بعضهم بعضا، وكذا في علاقتهم بالشعب الجزائري، وبالعالم المحيط بهم… فضلا عن ذلك، فهم يمارسون نفاقا كبيرا، حيث يرغبون في التحكم في كل شيء عبر الإمساك بكل خيوط البلد من خلف رئيس مدني يقومون هم ذاتهم باختياره وتعيينه، لكنهم لا يريدون أن يكونوا مسؤولين مباشرين أمام الرأي العام عن السياسات التي يرسمونها لبلدهم. وهذه هي قمة التضليل والنفاق، لأنهم يفسقون بأموال الشعب، ولكنهم يرفضون أن تتم محاسبتهم على ذلك….

ليس للرئيس أي دور في الجزائر، فهو مجرد دمية في يد الجنرالات، حيث لا يمكنه فعل أي شيء بدون موافقتهم؛ إذ يأتمر بأوامرهم، ولا يملك أي هامش للتحرك، بل إنهم يحجرون على لسانه وحركاته وتحركاته وحتى على مظهره وهندامه وتسريحة شعره ومشيته ونبضات قلبه… فلا أحد من الجنرالات يرغب اليوم في أن يكون رئيسا، لأنه يعي أن كرسي الرئاسة هو ضد مصالحه الحالية، كما أنه قد يقوده إلى الموت أو السجن.

وخلاصة القول، إن الدولة في الجزائر لا تمتلك مشروعا. وللأسف، فإن المجتمع لم يتمكن بعد من تطوير مشروعه الخاص، ما يفسر أن هذا البلد الشقيق يعيش فراغا سياسيا كبيرا يحول دون قدرته على تحديث الدولة والمجتمع وبناؤهما ديمقراطيا… واليوم، ورغم ما يمارسه الجنرالات من تضليل، فقد أصبح الجزائريون على وعي تام بمسؤولية العسكر عن مآسي الشعب الجزائري ومعاناته… وليس مستبعدا أن تواجه المؤسسة العسكرية في الجزائر، في المستقبل القريب، ضغوطا شعبية كبيرة، خصوصا أن هذه المؤسسة لم تعد متماسكة كما كانت من قبل. وبكلمة واحدة، يتلخص الوضع الحالي في الجزائر اليوم في أزمة ناجمة عن تدخل جنرالات الجزائر في الحياة السياسية والاقتصادية لهذا البلد الشقيق. وبالرغم من نجاح الحراك السابق في الجزائر في الإطاحة بـ” الرئيس عبد العزيز بوتفليقة”، فإن المرور إلى مرحلة انتقالية ما يزال يواجه صعوبات تكمن في تمسك العصابة الحاكمة بحكمها الاستبدادي، ما جعلها ترفض أي تنازل يمكن أن يجنب البلد الخراب الذي يمكن أن ينتج عن غياب تماسك المجتمع الجزائري وما ينجم عن ذلك من تفتت نتيجة رفض المؤسسة العسكرية الجزائرية لـ “مفهوم المواطنة” ومحاربتها له وضربها للحريات بشتى أنواعها ..

فالمؤسسة العسكرية لا تعي أن موقفها قد يقود إلى تعميق الفراغ السياسي بالجزائر، الذي يمكن أن يفضي بدوره إلى انهيار هياكل الدولة التي هي هشة أصلا، ما يسقط البلد في قبضة تيارات أصولية تكفيرية أو نزعات قبلية متشددة ليست لها القدرة على ضمان وحدة بلد مترامي الأطراف ومتنوع ثقافيا وعرقيا. كما أن جنرالات الجيش الجزائري لا يعون أن الجزائر ليست أرضا معزولة عن العالم، بل إن لكل القوى الدولية المؤثرة خيوطا داخلها، الأمر الذي قد لا يجعل الحراك مستقبلا بعيدا عن أعين العالم ومساندتها له، خصوصا مع قدرة هذا الحراك على الاستفادة من الثورة الرقمية للتعريف بنفسه وعرض مطالبه…

أتمنى أن يعيد جنرالات الجزائر النظر في ذواتهم، ويغيروا علاقتهم مع بعضهم البعض، ومع الشعب الجزائري، ومع محيطهم الإقليمي والدولي، لأنهم إذا تمسكوا بما هم عليه اليوم، فإنهم سينقرضون وسيدفعون بالجزائر الشقيقة إلى الانهيار الشامل. وهذا ما نرفضه نحن المغاربة، لأننا أشقاء للشعب الجزائري، وتمنى له حياة مدنية ديمقراطية توفر له أسباب الاستقرار والنماء…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *