محمد بوبكري يكتب: الإسلام السياسي التكفيري والمدرسة

محمد بوبكري يكتب: الإسلام السياسي التكفيري والمدرسة

يشكل تحديث التعليم رهانا أساسيا يجب ربحه من أجل تحديث عقول الناشئة بهدف تمكينها من الانخراط الفعلي في عصر المعرفة عبر تكوين أطر تقنية وهندسية وطبية وعلماء وباحثين في مختلف العلوم والمعارف. لكن التعليم في المجتمعات العربية الإسلامية هو تعليم تقليدي إسلاموي تكفيري يشحن أذهان المتعلمين بالعوائق المعرفية التي تشل فكرهم وإبداعيتهم، مما يحول دون تشربهم للقيم الكونية وانخراطهم في مجتمع المعرفة العالمي القادم، الذي ستعرف الإنسانية فيه في غضون السنين القادمة أضعافا مضاعفة مما عرفته منذ عشرات ألوف السنين من تاريخها. وهذا ما سيفضي إلى القضاء على الأسس الثقافية للنزعات الطائفية والقَبَلِية التي تنهض على الجهل المركب الأعمى. فإذا كانت معارف الإنسانية تتضاعف اليوم كل عشر سنوات، فإنها ستتضاعف على المدى المتوسط كل سنتين. تبعا لذلك، فقد صار من الضروري أن ينخرط التعليم في المجتمعات العربية الإسلامية في روح العصر عبر التلاؤم مع آخر المستجدات والاكتشافات العلمية في مختلف المجالات المعرفية، حتى نتمكن من تكوين عقول مسايرة لمستوى عقول المدارس والجامعات الراقية في عالم اليوم. وما لم يتم ذلك الانخراط الفوري، فلن نتمكن من ركوب قطار المستقبل الذي سيتركنا أشلاء خلفه. ويقتضي منا بُعد النظر أن نقوم بنقد الذات، ونعترف بأن مدارس وجامعات المجتمعات العربية الإسلامية، التي مازالت تحت تأثير الإيديولوجيااتقليدية الأصولية، تتخصص أكثر فأكثر في تفريخ العنف والتخلف عن مسيرة ركب الحضارة الإنسانية اليوم؛ أي عن ركب التقدم العلمي، بل إنها تكفِّرُ العلوم واللغات التي يمكن أن تساعدنا على تحديث وعينا ومجتمعاتنا…

لا تزال المؤسسة التعليمية في هذه المجتمعات هي الفضاء الأول لإنجاب الأصوليين التكفيريين. وهذا ما يفسر عدم مطالبة دعاة الإسلام السياسي التكفيري وشيوخهم في مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتغيير أي شيء من البرامج الدراسية للمدرسة بهذه المنطقة، بل إنهم يكرهون تعلم اللغات الأجنبية والتدريس بها لأنهم يتخوفون من أطرها المرجعية الثقافية الحداثية التي تناهض كل ما هو تقليدي. ويشكل كل هذا عاهة مكعبة ومستديمة لأجيال المستقبل، ما يحرمها من الانفتاح على الآخر والاستفادة منه، ويحول دون تمكين مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من التفكير في ذاتها والانتصار عليها والانخراط في بناء مستقبلها بما ينسجم مع روح العصر. كما أن المسؤولين في المجتمعات العربية الإسلامية لا يعتمدون إلا على الحل الأمني وحده لمواجهة ظاهرة الإرهاب التكفيري دون اعتماد الحلين الناجعين فعلا، وهما التربوي والاجتماعي اللذان يمكن أن يساعدا على التخلص من ظاهرة الإرهاب التكفيري، دون أي اصطدام.

يتطلب الدخول في الحداثة الكونية إجراء قطيعة مع الكثير من ثقافات الماضي وممارساته ومؤسساته وقيمه التي لا تستجيب لمتطلبات العصر الحديث والحاجات الحقيقية للمواطنين… كما يقتضي ولوج الحداثة من المجتمعات العربية الإسلامية اتخاذ قرار سياسي عقلاني شجاع يروم تحديث التعليم الديني عبر عقلنته لوضع حد للاعقلانيته السائدة التي تعادي العقل والآخر والنهضة والتنمية، ما جعل التعليم الديني عندنا معاد للحداثة والديمقراطية في آن…
ينهض التعليم الديني في معظم المجتمعات العربية الإسلامية على النزعة الحنبلية، إذ يقوم على القراءة الحرفية للنص الديني التي تتعارض مع القراءة العقلانية له التي لا تقبل من النص الديني إلا ما يتفق مع العقل ومصلحة البشر. لذلك ينبغي أن تُنسخ أحكام النصوص الفقهية المتعارضة مع العقل والعلم أو مصلحة المواطنين، لأنها لم تعد مسايرة لروح العصر. كما يلزم أن تؤوَّل النصوص الدينية بما ينسجم مع العقل، لأن الله تعالى، كما يقول ابن رشد لا يمكن أن يعطينا عقولاً وشرائع مخالفة لها في آن واحد.

لقد دشن المعتزلة في تاريخ الإسلام القراءة العقلانية للنص الديني. وتتميز هذه القراءة بأنها ترفض أن يكون الإنسان لعبة في يد الصدف والمفاجآت والأهواء، بل تعتبره حراً “خالق أفعاله”، ما يجعله “مسؤولا” عنها، كما أن عقله يمكنه من التمييز بين ما هو خير وما هو شر، ما يعني اخضاع القِيَم للعقل وفحصها وتمحيصها بواسطته.

هناك عاملان أساسيان يحولان ضد دخول المجتمعات العربية الإسلامية إلى الحداثة: زعامات الإسلام السياسي التكفيري وشيوخه، والتعليم الديني الذي ينهض على الفكر الحنبلي. فما دامت زعامات الإسلام التكفيري تشكل نزعة معارضة للاتجاه التاريخي المفضي إلى الحداثة، فهي ترفض القراءة العقلانية للنص الديني، مدعية ضرورة القراءة الحرفية له التي تبناها في تاريخ الإسلام الحنابلة وبعض السلفيين المعاصرين…

فالتعليم الحنبلي السائد اليوم في معظم المجتمعات العربية الإسلامية يفرخ أجيالاً تقرأ النص حرفيا وتمتنع عن التفكير الشخصي فيه. فهي تقرأه بهواجسها ومخاوفها اللاعقلانية وإسقاطاتها الذاتية وأهوائها السياسية، وغرائزها العدوانية… وهؤلاء هم الإسلاميون التكفيريون ومحيطهم الذي يعاني أقصى درجات الحرمان نفسيا وماديا وثقافياً…
يمنع التعليم الديني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أذهان التلاميذ من الانخراط في شبهة استعمال العقل، حيث يلقن هذا التعليم الديني اللاعقلاني الصغار منذ طفولتهم اللاعقلانية السياسية، كما أنه يزرع فيهم بذور عقدة الاضطهاد وثقافة الكراهية للآخر عموما، و لليهود والنصارى خصوصا، حيث إنه يدعو إلى الحذر منهم”! . هكذا فالتعليم الديني في المجتمعات العربية الإسلامية يمتح من اللاعقلانية الدينية الخارجية – الحنبلية – السلفية.

كما أن هذا النظام التعليمي لا يعلم التلميذ شيئا ذا بال، إذ يكاد أن يكون مجرد نوع من خداع النفس والغير في آن، وتبذير لمال الدولة ووقتها، وإهدار لسنوات من عمر التلميذ. كما أنه يهيئه للضياع الذي يقذف به في أحضان جماعات الإسلام السياسي التكفيري.

يقود التأمل في تدريس العلوم بمدرستنا إلى تعرية الفكر الذي تنهض عليه طرائق تدريسها. أوَّلا، هناك ميل كبير إلى تدريس المعارف والقوانين دون مساءلتها. وبذلك تتوهم هذه المؤسسة أنها تقوم بتدريس الفكر العلمي والحس النقدي، لكنها غالبا ما تنتج عكس ذلك، حيث لا يكتسب من يكتفي بتعلم مضمون المبرهنات الرياضية Théorèmes mathématiques وقوانين الطبيعة وتطبيقها سوى تقنية بلا روح، كما يميل إلى الخضوع بدل أن يتعلم الشك والتفكير والاستقلال الذاتي. ومن ثمة، تقوم مدرستنا بتدريس العلم باعتباره معتقدا، إذ نادرا ما تقدم للتلاميذ برهنة على الحقائق العلمية، ما لم يكن ذلك منعدما، فيُطلب منهم تطبيقها آليا لا غير. ونتيجة ذلك، لا يدرك المتعلم معاني العلوم التي يدرسها لأنها تتحول إلى معرفة محنطة. وتلعب الكتب المدرسية الموازية التي تباع في الأسواق لتدريب التلاميذ على حل تمارين امتحانات الباكالوريا دورا سلبيا، حيث تجعلهم يحفظون حل المسائل بشكل ميكانيكي، مما يحول دون اكتسابهم للفكر العلمي.

إذا كانت حركات الإسلام السياسي تكفيرية وتتدخل في تفاصيل حياة الإنسان الشخصية: في لباسه وطعامه وشرابه وحميميته وقلبه ومعتقداته وتفكيره وتعبيره، كما تسائله عن قيمه وأسلوب حياته وتحاسبه على ذلك، فهي بذلك لا تفعل شيئاً غير تطبيق وصايا فقه وفتاوى القرون الوسطى… فقد كان هذا الفقه المتعصب يتدخل في الشاردة والواردة، لأن تلك القرون لم تعرف فكرة حقوق الإنسان، ولا ميلاد الفرد الحديث، بل كان فيها التدخل في الحياة الخاصة للفرد جزءا من الدين.. لقد ظهر منذ عصر الحداثة الفرد الذي يطالب بتقرير مصيره في الحياة اليومية بعيداً عن أعين رجال الدين التي لا تنام، وغدا الدين شأنا فرديا، وامتلك الإنسان حرية الضمير والاعتقاد، فبات من حقه أن يتدين بأي دين يشاء أو ألا يعتنق أي دين من الأديان.

لقد استوعب التعليم الديني في العالم الديمقراطي المتقدم هذه المستجدات الحديثة الهائلة بدرجات متفاوتة. أما العالم العربي الإسلامي فلازال منغلقاً دونها. من هنا ضرورة استبداله بتعليم ديني تنويري يستوعب هذه المستجدات ليتصالح مع الحداثة، إذ لا زال التعليم اللاعقلاني السائد ينظر إلى الآخر بكونه “كافرا” يجب معارضته ومحاربته، ويعتبر ذلك واجبا، كما يعتقد أنه يلزم رفض حداثته الكافرة ومناهضتها هي الأخرى.

إضافة إلى ذلك، ينظر التيار الإسلامي التكفيري إلى المرأة بكونها “ناقصة عقل ودين’’، لذلك يتوجب على التعليم العربي الإسلامي النهوض على العقلانية، ما يفرض إعادة تعريف الآخر والمرأة إيجابياً. وهذا يتطلب تعويض الآيات المعادية للمرأة بالآيات غير المعادية لها. لماذا ندرس للصغار “واهجروهن في المضاجع واضربوهن” بدلاً من “خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”؟ ولماذا لا نعتبر الآيات والأحاديث المناهضة للمرأة والمتعارضة، بالتالي، مع حقوق الإنسان، منسوخة بهذه الحقوق الملزمة والملبية لحقوق المرأة الأساسية المتضمنة في هذه الآية الأخيرة؟ كما يلزم التعليم الديني البديل أن يعيد تعريف غير المسلم إيجابيا، خاصة اليهودي، والمسيحي. فلا يعود “كافراً” تلزم مخالفته ومعاداته، بل يغدو شريكاً في القيم المادية والرمزية عبر شراكات اقتصادية وعلمية وثقافية إقليمية وقارية وعالمية تتطلبها العولمة التي حكمت بالإعدام على الانطواء على الهوية الدينية أو القومية أو القبلية وفرضت تبعية متبادلة بين جميع الأمم وتدامجاً اقتصادياً وثقافياً وقيمياً لا مناص منه…

هكذا، فبإمكان العقلانية الدينية الإسلامية أن تنطلق من ثلاث آيات كريمة ساوت بين جميع الأديان المعروفة يومئذ: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ” ( (الحج، 17)، حيث تعني هذه الآية أنه يتم إرجاء الحكم الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، ما يدل على أن لله – لا للإنسان – حق البت فيه. و”الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل عملاً صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (سورة المائدة، 69 ).
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (سورة البقرة، 62). فهذه الآيات تساوي إيجابياً بين جميع المتدينين الذين “لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.

لقد زعم فقهاء القرون الوسطى المهووسون بالانغلاق الديني وبـ”الجهاد حتى قيام الساعة” أن هذه الآيات نسختها الآيات التي تضع الإسلام ديناً فوق الديانات، وادعوا أن الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح، أما الديانات الأخرى فهي “باطلة ومهلكة لصاحبها” ، ما يزعم محمد بن عبد الوهاب…

تقتضي متطلبات زماننا اعتبار الآيات “الناسخة” للآيات المذكورة أعلاه هي المنسوخة بها، لأن الآيات الأخرى سجالية، وبالتالي ظرفية تزول أحكامها بزوال أسباب نزولها.

فضلا عن ذلك، يرى الشيخ رشيد رضا في تفسيره أن “آيات السيف” منسوخة بالتاريخ، أي مقتصرة على مشركي ويهود ونصارى الفترة التي نزلت فيها. وفي عهود الازدهار الإسلامي، قام خلفاء المسلمين بإشراك اليهود والمسيحيين معهم في الحكم، حيث عينوهم وزراء ومستشارين. وهكذا، فعندما أنشأ المأمون دار الحكمة عين المسيحي حنين رئيساً لها. لذلك، فمن الغريب ألا يوجد اليوم يهودي أو مسيحي واحد يرأس جامعة من مئات الجامعات في العالم العربي الإسلامي! نظرا لهيمنة الإسلام التكفيري في مجتمعات هذا العالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *