محمد بوبكري يكتب.. خريف نظام جنرالات الجزائر

محمد بوبكري
يرى معارضون جزائريون أن الوظيفة السياسية لدولة العسكر في الجزائر قد انتهت، كما انتهت كل الوظائف السياسية للكيانات المرتبطة بها؛ فليس للجنرالات ثقافة الدولة الحديثة، ولا مؤسساتها، حيث لا يفكرون ولا يتصرفون بكونهم دولة، كما أنهم يعتقدون أن كل الإجراءات الشكلية التي يتخذونها كفيلة بحل المشاكل التي تتخبط فيها الجزائر؛ في حين أن النظام العسكري فاسد ومفسد، لا يمكنه، من حيث طبيعته، أن ينتج الحلول للمشكلات التي تواجهها البلاد.

فالأمور لا تسير في الجزائر وفق المعايير السياسية المتعارف عليها كونيا، حيث لم يحدث أي تغيير مفيد منذ الاستقلال الشكلي للجزائر، الذي تحول مع « هواري بومدين » ومؤسسته العسكرية إلى ثورة مضادة لروح الثورة الجزائرية التي جاءت باستقلال البلاد، إذ يتغير الرؤساء والحكومات، لكن المؤسسة العسكرية تحول دائما دون أي تغيير، وبذلك لا فرق بين جزائر الستينيات والسبعينيات وجزائر اليوم، وكأن الأمر يتعلق بعهدة رئاسية واحدة استمرت لعقود طويلة، إذ تغيرت الوجوه، ولم يتغير النظام، ولا الجزائر، لأن الجنرالات كرسوا جهودهم للقضاء على آمال الشعب الجزائري في التحديث والتنمية والبناء الديمقراطي للدولة والمجتمع. وهذا ما يستوجب أن يختار الشعب الجزائري من يدبرون شؤونه تحت مراقبته، ما يقتضي إحداث قطيعة مع النظام الذي كان ولا يزال يتدخل في الحياة السياسية الجزائرية، حيث يقرر وحده، في دوائر مغلقة، في تعيين الرؤساء وأعضاء الحكومات وكل أعضاء ومسؤولي المؤسسات الأخرى وطنيا وجهويا. وهذا ما يؤكد أن الجيش يجمع في يده كلا من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ما جعله يتحكم في كل الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وبدافع خوف العسكر من مقاطعة الانتخابات، فقد حدث أن قررت المؤسسة العسكرية الدفع بأفراد الجيش للتصويت في انتخابات سابقة، ما يعني تحويله إلى طرف في الصراع السياسي في البلاد، إذ تم تحويله إلى ورقة لترجيح كفة الموالين للعسكر. وهذا ما يتناقض مع معايير الديمقراطية. فكلما تدخل الجيش في السياسة، انعدمت الديمقراطية وساد الاستبداد، لأن الجيش لا يكون طرفا في الصراع، بل إنه جيش الوطن، ما يعني أنه جيش الشعب بأكمله، فلا ينحاز إلى هذا ضد ذاك، ولا يعلب دورا سياسيا، كما في البلدان الديمقراطية. لذلك نجد أن الجيش الجزائري لا يتدخل فقط في المؤسسات السياسية والاقتصادية، لكنه يسعى دائما إلى اختراق تنظيمات مجتمعية سياسية ومدنية من أجل تلغيمها بهدف توجيهها، واتخاذ القرارات التي تخدم الجنرالات. هكذا، أصبحت الزعامات الحزبية التابعة للجنرالات لا تبحث عن التواجد داخل المجتمع، ولا تؤطره، وإنما عن التموقع في المؤسسات الرسمية من أجل الاستفادة من الريع، ما نجم عنه عزلة هذه التنظيمات وضعف تواجدها في المجتمع. هكذا أصبحت دولة العسكر في الجزائر بدون شعب، مع أنه لا يمكن تصور وجود دولة بدون شعب، لأن العسكر قد قاموا بإقصائه وتفقيره وتجهيله، ما جعله يرفضها ويسعى إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة بديلا لها.

إضافة إلى ذلك، تمارس المؤسسة العسكرية التضليل والغموض لأنها تقرر في كل شيء دون الكشف عن وجهها، حيث تلجأ دائما إلى ستار مدني تتخذ من خلفه ما تشاء من قرارات، كما أن الجنرالات لا يتوفرون على كفاءة علمية وأكاديمية، ولا مروءة أخلاقية تؤهلهم لتدبير شؤون البلاد. لذلك نجدهم يشتغلون من وراء حجاب، ويخفون وجوههم، لكيلا تعرفهم عامة الناس، فتحولوا بذلك إلى قوة خفية تسير البلاد. ولقد كشف فساد العسكر وعنفهم عن أنهم لا تهمهم إلا ذواتهم، لأنهم لا يهتمون بالقيام بإنجازات لصالح الوطن والشعب الجزائريين.

تبعا لذلك وغيره، فقد انفجر الحراك الشعبي في وجه المؤسسة العسكرية الجزائرية، واستطاع أن يفجر صراعا داخلها، حيث انقلب بعضها على بعض، مما أدى تنحية « عبد العزيز بوتفليقة » ونظامه، وإجراء اعتقالات ومحاكمات في صفوف جنرالات ومسؤولين مدنين ورجال أعمال.. ونظرا لظروف جائحة كورونا، فقد تم تعليق هذا الحراك بقرار من قيادييه بهدف الحفاظ على سلامة صحة الجزائريين.

لكن الحراك ظل كامنا، حيث عبر عن نفسه بقوة من خلال المقاطعة الواسعة للانتخابات الرئاسية وللاستفتاء على الدستور. ومن المتوقع أن الحراك الشعبي الجزائري سيعبر عن نفسه بكل قوة في يوم 22 فبراير القادم، ما جعل المؤسسة تجند كل إمكاناتها الإعلامية لمناهضته والتحايل عليه وعلى قيادييه. فقد استقدم العسكر « عبد المجيد تبون » من فرنسا، الذي كان يخضع للعلاج في إحدى مصحاتها، ليتخذوا جملة من القرارات التي يرمون من ورائها إلى امتصاص غضب الشعب الجزائري والتخفيف من ضغط الحراك عليهم، فأعلن « تبون » عن إطلاق سراح بعض معتقلي الحراك الشعبي، وحل ما يسمى بـ « المجلس الوطني الشعبي الجزائري؛ أي الغرفة السفلى من البرلمان الجزائري. وهدف المؤسسة العسكرية من وراء ذلك هو الالتفاف على الحراك، وخلق نقاشات داخله يمكن أن تمس بوحدة صفوفه المتراصة. لكن، استنادا إلى تصريحات بعض المعارضين الجزائريين، فإن الحراك لن يقبل هذه المقترحات الشكلية التي لن تغير من الواقع شيئا، حيث سيبقى الجنرالات يمسكون بالسلطة، لأنهم هم أصل الداء، ولن ينفعهم التستر وراء « تبون » لإخفاء أنيابهم وأياديهم الملطخة بدماء الجزائريين، لأن الشعب الجزائري خبر مؤامراتهم وتلاعباتهم، وأصبح لا يثق في وعودهم الكاذبة التي يعي أنهم يقدمونها من أجل استمرارهم في السلطة. فـ « عبد المجيد تبون » هو رئيس مزور فرضه الجنرال « القايد صالح »، وليس مقبولا الآن من الجنرالات الحاليين أن يستعملوا ورقة مزورة لإقناع الشعب الجزائري بجدية مقترحاتهم، إذ كل ما ُبني على باطل فهو باطل. لذلك يرفض مناضلو الحراك الشعبي الجزائري الكلام الصادر عن « تبون »، لأنه لا مصداقية لهذا الرجل الذي هو مجرد شخص يتكلم باسم أسياده الجنرالات، ولأنه قبوله يعني قبول استمرار تحكم المؤسسة العسكرية في البلاد، وبالتالي، فـهو لا يشكل ضمانة لتغيير حقيقي في أعين الشعب الجزائري، حيث إن لكلامه معنى واحدا: « تعالوا نديم تسلط الجيش وقمعه لنا وفساده في خيراتنا ».

لذلك، فقد انخرط العسكر في تهديد مناضلي الحراك الشعبي، حيث جندوا ما يفوق 400 موقع للتواصل الاجتماعي للقيام بهذه المهمة. وقد سبق للمؤسسة العسكرية أن مارست العنف لمواجهة الحراك الاجتماعي في بدايته، لكنه استطاع تحديها وكسب عطف الرأيين العام المحلي والعالمي، ما عمق عزلة العسكر داخليا وخارجيا، حيث تمكن الحراك من الإطاحة بـ « عبد العزيز بوتفليقة » ونظامه وجنرالاته. لكن الوعود التي قدمها الجنرال « القايد صالح » ما تزال ملزمة للمؤسسة العسكرية. ويبدو اليوم أن النظام فقد توازنه، وأُصيب بخوف شديد من الحراك الذي سيعاود الكرة، إذ لن تنفع معه في هذه المرة مناورات وأكاذيب الجنرالات خالد نزار ومحمد مدين توفيق و »سعيد شنقريحة » لأن الشعب يرفضهم، ولم يعد يثق في وعودهم. فهم يناورون لربح الوقت، لكن الحراك مصر على الاستمرار حتى زوال نظام العسكر. فقد رفعت في التظاهرات التمهيدية للحراك لافتة مكتوب عليها « نهايتكم هي بدايتنا »، وأخرى تقول: « لا انتخابات مع العصابات »… لذلك فالنظام العسكري في الجزائر هو في وضعية خوف شبيهة بالهزات الأولية التي تحدث قبل الزلزال الذي سيأتي عليهم، وتعقبه ارتدادات طويلة.

فالنظام خليط من علاقات قبلية وجهوية، كما أنه تعرض لتمزق بسبب صراعات الأجنحة داخل الجيش. هكذا، فهو يعيش حالة رعب شديد قد يؤدي إلى انقسام صفوفه، لأنه إذا ما اشتد الضغط عليه، فقد ينقلب بعضه على البعض الآخر، وقد يبحث بعضهم عن طوق نجاة، فيلتحق بالحراك، لأن كل جنرال يبحث اليوم عن أن ينجو بجلده بغية الاستمرار في السلطة، لكن الشعب الجزائري قد سئم من الحوار مع العسكر، لأنهم ليست لهم أي شرعية سياسية، أو تاريخية، أو تنهض على إنجاز مشاريع كبرى، فلا يمكن للشعب الجزائري أن يمنح شرعية سياسية للقمع والنهب والفساد… لذا، ينبغي ألا نستغرب إذا رأينا الجنرالات يغتالون بعضهم بعضا، حيث من المحتمل جدا أن تتم تنحية « تبون »، كما قد يتم اعتقال نزار وتوفيق وأفراد عصابتهما مجددا. فقد بدأت تبدو اليوم مؤشرات تدل على بداية خريف نظام جنرالات الجزائر.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *