محمد بوبكري يكتب : مخاطر الفكر الفقهي القديم والجديد على المنظومة التربوية

محمد بوبكري

يقتضي فهم المنظومة التربوية بالمغرب حاليا البحث في جذورها التاريخية وما عرفته من تأثيرات وتطورات. وعندما ما نعود إلى كتب التاريخ نجد أن الحضارة العربية الإسلامية لم تعرف نظاما تعليميا كنظام العصر الحديث، إذ لم يكن هناك أي تنظيم رسمي يشبه النظام الحديث أو أي نوع من أن أنواع الشهادات أو التخصصات العلمية المعروفة اليوم… ورغم حثِّ القرآن الكريم والحديث النبوي على طلب العلم والمعرفة، فإن الأنشطة التعليمية المعتمدة من قبل النظام التعليمي في تاريخ هذه الحضارة لم تتجاوز تحفيظ القرآن والحديث وبعض المتون الفقهية والنحوية على يد بعض الفقهاء في حلقات المساجد التي كانت متناثرة هنا وهناك، حيث تنتهي فترة تلقي تلك المتون وحفظها بحصول الخريج على إجازة من فقيهه أو شيخه تخول له مزاولة التدريس أو الإفتاء… إضافة إلى ذلك، لم يكن لكل مراحل التعليم من الابتدائي حتى الدراسات العليا، ولا للدرجات العلمية المختلفة أصل في النص الديني… لكن، لماذا لم يتضمن هذا الأخير نظاما للتعليم؟ يعود ذلك إلى أن الديانات لا تتضمن علوما نظرية أو تطبيقية تستغرق دراستها سنوات طويلة، كما أن الحياة في الجزيرة العربية كانت بسيطة جدا، حيث لا وجود للعلوم فيها، مما جعل النص يتناسب مع واقع المجتمع حينذاك في مجال التعليم. وبما أن هذا المجتمع اعتمد أصلا على الذاكرة لتجميع تراثه الشعري، فقد استمر التعليم الديني في اعتماد أسلوب الحفظ وترديد ما يقول الفقيه أو الشيخ، دون أي اعتراف بحق المتعلم في المناقشة واستخدام عقله عبر تطوير أسئلته الخاصة، حيث لا تعلم بدون تفكير ومشاركة من قبل المتعلم. وقد انعكس هذا التراث التلقيني سلبا على النظام التعليمي بعد استقلال البلاد العربية الإسلامية. هكذا، ففي مقابل التطور الهائل في حقل التعليم في بلاد الغرب التي عرفت تطور نظريات فلسفية وسيكولوجية في مختلف مجالات التعليم والتعلم…، بقيت أغلب مؤسسات التعليم الديني عندنا متمسكة بالاستمرار في تلقين المتون الفقهية وتحفيظها للمتلقين، وهو ما تناقض كليا مع طبيعة العلم والمعرفة وتطور اللغة والمدنية والحداثة، وإرساء الديموقراطية وحقوق الإنسان…
أما التعليم المدني الذي نعرفه اليوم، فقد وضعه المستعمر عندما فصل التعليم المدني عن التعليم الديني، والقضاء المدني عن القضاء الشرعي. لقد قام التعليم المدني على تدريس العلوم الحقة والإنسانية والاجتماعية… وبالرغم من كثرة سلبيات نظام التعليم خلال فترة الحماية، فجميع الشواهد تدل على أن فصل التعليم المدني عن التعليم الديني قد ساهم في تطور الحياة المدنية في المغرب…، ولولا ذلك لما أمكن للمجتمعات العربية الإسلامية أن تدخل القرن العشرين (أحمد البغدادي).
ورغم التقدم الحاصل في التعليم المدني، فقد عرَّضته ظروف تاريخية معينة للغزو من قبل السلفية المتطرفة، حيث يرى الباحث اللبناني « أنطون بسبوس » أن العربية السعودية قد استغلت في مرحلة تاريخية معينة العلاقات الطيبة التي كانت تجمعها مع المغرب، فصدَّرت الوهابية إلى بلادنا، مما ساعد على غزو الحنبلية للمنظومة التربوية المغربية. ولم تقتصر عملية الغزو هذه على مادة التربية الإسلامية وشعب الدراسات الإسلامية، بل تجاوزتها إلى مواد دراسية أخرى من بينها بعض المواد العلمية. فباطلاعنا على مناهج بعض هذه المواد الدراسية، نجد أنها لا تربي على الشك المبدع، ولا تعتمد النسبية منهجا في التفكير، وهذا ما يفضي إلى تدريس القوانين العلمية من باعتبارها حقيقة مطلقة، بل معتقدا، وهذا لا يتعارض فقط مع طبيعة العلم، بل ينسفه كلية حتى صارت المعرفة العلمية لا تصلح لأي شيء، سواء داخل المدرسة أو بعد تخرج المتعلم منها. هكذا، فإذا كانت المعرفة العلمية حية بطبيعتها، فإن منظومتنا التربوية تحولها إلى معرفة ميتة محنطة غير نافعة للإنسان ولا للمجتمع. وهذا ما قاد بدوره إلى ترسيخ الفكر السلفي التكفيري المتطرف الذي لا ينتج إلا العنف… وتجدر الإشارة إلى أن العقل الديني المنغلق يقبل بدون صعوبة التجريدات الرياضية أو تطبيقاتها التقنية والآلية، حيث يقبل الدواء الذي يعالج المرض، والقطار الذي ينقل الناس من مدينة إلى أخرى، والحاسوب الذي يساعد على الإنجاز السريع للعمليات الحسابية شديدة التعقيد، لكنه يرفض المقاربة العلمية التي مكنت من الوصول إلى هذه الاختراعات. إنه يفضل التعامل مع نتائج العلوم الحقة باعتبارها يقينيات، ويرفض الشك المبدع الذي يشكل قاعدة لتطور العلوم. كما يرفض الفكر الذي يدرك التمايز بين الأشياء، والذي يشكل أساس قاعدة العلوم الاجتماعية والإنسانية…
لقد بدأ التربويون بوثوقية تدعي الموضوعية واليقين، لكنهم لم يكونوا على وعي بأنها تنتمي نظريا إلى مرحلة متجاوزَة من مراحل تطور العلوم بعقود طويلة. وهذا ما يفسر تبنِّيها لمنظور خطِّي يتجلى في خطابات المسؤولين التربويين وترديدهم لمصطلحات ذات نزعة تقنوية يؤدي اقترانها بمفهوم التربية إلى نسفه، لأنها تتعارض مع طبيعته. وهكذا، أصبح الاتجاه البيداغوجي للمنظومة التربوية المغربية مطبوعا بتفكير خطي تقنوي نتج عنه الحديث عن “هندسة التكوين »، وما يرتبط بها من مفاهيم أخرى كـ « الجودة » و »الفحص »…
لا يعي أصحاب البيداغوجية الخطِّية أن التفكير الخطِّي لا يقبل الاختلاف، ما يعني أنَّ هذه البيداغوجية ترفض التواصل الذي لا يمكن بدونه الحديث عن أي تحوُّل معرفي، ولا عن أي تعلُّم أو نمو أو مدنية… ويعود ذلك إلى أنهم لا يدركون أن الواقع التربوي مختلف ومتعدِّدٌ فكريا ومنهجيا، وأن ما يسمى بـ “البيداغوجة الموضوعية” تعمل على اختزال تعدُّده وتنوُّعه، إذ تسعى إلى أجرأة الأهداف التعليمية. لكن ذلك يفترض وحدة العلاقات بين هذه الأهداف وانسجامها، وهو ما لا يسمح به تعقُّد الواقع التربوي، لأن الانسجام يُبنى من خلال القيام باختيارات تؤدي إلى إعطاء امتياز لبعض المفاهيم والقيم في المغرب منذ عقد ثمانينيات القرن الماضي والتخصصات والمنهجيات… على حساب أخرى، مما تنجم عنه أشكال عديدة من الإقصاء. لذلك، ليست “البيداغوجية الموضوعية” وبنْتُها “هندسة التكوين” سوى اختزال وتبسيط لما هو مُعقَّد.
وإذا كانت “البيداغوجية الموضوعية” تدَّعي “عقلنة” البرامج الدراسية لكي تضمن “تكوينا نوعيا أفضل”، فإن إستراتيجيتها تقود إلى اختزال مزدوج للأمور: فهي تسعى، من جهة، إلى تحويل الأحلام إلى نسب قابلة للتحقُّق، ما يعني أنها تعمل على توقيف الإنسان عن الحلم وتحويله إلى “واقعي”، وتختزل مهمة المسؤولين، من جهة أخرى، في اعتماد مقاربات بيداغوجية وتدريسية خطية تقصي مختلف وجهات النظر التي يتم التعبير عنها في فضاء المدرسة عبر رفض التعدد، ما يعني تدعيمها لاختيارات معينة على حساب أخرى.
كما تقوم ”البيداغوجية الخطية” على إرادة النجاح التي تنطوي بدورها على رغبة، ما يقودها إلى الفشل لأنه لا يمكن تحقيق كل ما يدخل في إطار نظام الرغبة. فلو كان ذلك ممكنا لحُلَّتْ كل مشاكل البشرية منذ القدم. وهذا ما يكاد ُيجمع عليه مختلف المهتمين بالتحليل النفسي الذين َيرَونَ عدم قدرة الإنسان على الإنجاز الكلي لكل ما يدخل في إطار نظام الرغبة، ما يسمح بالاختلاف الذي يفضي إلى تحسين الإنسان لظروفه وأحواله باستمرار دون بلوغ الاكتمال.
إضافة إلى ذلك، تفرض »البيداغوجية الخطية » على واضعي المناهج والبرامج تقديم وصفات جاهزة لتجنب شبح الفشل، لكننا غالبا ما نجد في الواقع اختلافات كثيرة بين أهداف الأساتذة الذين يقومون بتدريس المادة الدراسية الواحدة… كما أن هناك اختلافات بين هؤلاء وأهداف الإدارة… ومن ثمة، لا يمكن الجزم بامتلاك التلميذ القدرة على تحقيق أهداف البرنامج الدراسي في المدرسة، ولا عقب تخرُّجه منها، إذ من المستحيل قبول التخطيط الصارم للتدريس، حيث تأكد أن النظريات التي تتقدم بوصفات جاهزة هي نظريات غير ملائمة. وتعود الصعوبات التي يطرحها التخطيط الصارم إلى وجود هوة فاصلة بين النظرية والممارسة، وبين الحلم والواقع، بين الكلمات والأشياء، أي بين الخطاب الرسمي للمدرسة وإنجازات المدرس في قاعة الدرس، حيث تحول طبيعة الأشياء دون التطابق الكلي بين النظرية والممارسة. فالصرامة الدوغمائية لا تتلاءم مع الواقع، إذ ليس هناك نوع واحد من التلاميذ، كما أن التاريخ متغير وغير ثابت، مما يفرض ضرورة التكيف المستمر مع تعدديته وتنوعه وتعقده… وتكمن خطورة التخطيط الصارم للطرائق البيداغوجية في إمكانية حيلولته دون تفاعل التلميذ وإنصافه وعفويته، وفي إقصاء جانبه الوجداني، والسقوط في التصنع والخداع والغش… وبذلك، تتعارض خطِّية الطرائق البيداغوجية مع العلاقة التربوية السليمة، إذ لا تتضمن الغايات البيداغوجية في ذاتها الطرائق القادرة على تجسيدها. لذلك، فمن الخطأ السقوط في منظور ميكانيكي، والاعتقاد بوجود طريقة واحدة ووحيدة تصلح لتحقيق هذا الهدف وتلائم كافة التلاميذ في كل الأوضاع….
لقد أدى تطور البحث العلمي إلى الكشف عن عيوب “البيداغوجية الموضوعية الخطية” وتجاوزها، فأصبح التدريس في المجتمعات المنفتحة عملية تأخذ بعين الاعتبار اللانظام واللااستقرار واللاوثوق والتعقد والفرادة وصراع القيم والأوضاع المبهمة للممارسة… وهذا ما أدى بحصر التربية في المجال البيداغوجي في “التربية الموضوعية الخطية”، باسم العقلنة والشفافية والوضوح، إلى جعل البيداغوجيا غير ذات دلالة وبدون معنى… فضلا عن ذلك، فالكتاب المدرسي مشروع للإنجاز. لكن، مهما بلغ وضوحه، فإنه لا يمكن ترجمته بشكل سحري إلى أفعال وواقع، ومن ثمة وجوب استعمال المدرس لخياله. وهذه عملية معقدة ومتعددة، حيث يمكن أن ننطلق من نفس التصور التدريسي، لكن تكوين المدرس وتعدد الواقع المجتمعي واختلاف الواقع المدرسي قد يفرض على المدرس القيام بإخراج درس معين بأسلوب مختلف عن إخراج هذا الدرس نفسه من لدن مدرس آخر… وهذا ما يجعل المدرس مبدعا لممارسته وطرائقه..
يتضمن الخطاب البيداغوجي تأملا في الممارسة التربوية، كما يهدف إلى توجيه عملها. وما دامت التربية متسمة بتعقد كبير، فلا يستطيع هذا الخطاب أن يدُّلَّ بدقة على ما يجب فعله في الفصل الدراسي، بل كل ما في إمكانه هو التعبير بأسلوب متعدِّدٍ عن تجارب شخصية لا غير. وهذا ما جعل البيداغوجيا فنا، حيث تبدو تعبيرا أدبيا عن الواقع التربوي، كما تفعل فنون الشعر والرواية والتشكيل والموسيقى التي تشكل كلها تعبيرات عن الحياة. وإذا كانت هذه الفنون تعبيرات عن الواقع تؤكد أن هناك طرقا حقيقية ومتعددة لإخراج mise en scène الحياة اليومية، ما يجعل الحياة مسرحية أو مسرحيات، فالبيداغوجيا تقول الشيء نفسه. إنها تثقفنا حول إخراج مهنة التدريس، ما يكشف لنا عن مفهوم البيداغوجيا بطريقة ملموسة، وعن أن التربية هي حقا ممارسة لفنون المشهد!
يرى ميشيل سير « Michel Serres » أنه ليس هناك تعلم بدون سفر، والسفر يقتضي الانطلاق، والانطلاق تمزق، حيث ينسلخ الفرد مما هو عليه نحو وضعية ومعرفة مغايرتين… ويقتضي التدريس تكوينا عميقا يمُكِّن المدرِّسَ من استعمال خياله لخلق شروط تدريسية ملائمة تجعل المتعلِّم يتحمل مسؤولية تعلّمه بشكل تلقائي ليتمكن من السفر في الذات والعالم والآخر ومعرفتهم… كما أن التدريس والتعلُّم هما، على نحو ما، كالحب والشعر، حيث ينزلان في قلب الموج ويتدبران أمرهما فيه. وبما أنهما كذلك، فمن أعمق ما فيهما أنهما لا يحدِّدان بدقة موضوع حديثهما كما تفعل “هندسة التكوين” التي تشكل مجازفة تجعل التدريس والتعلُّم يفقدان هويتهما وطبيعتهما، إذ هناك أشياء غير قابلة للتحديد الدقيق من حيث طبيعتها لأنها قائمة على التجربة ومرتبطة بالفرد وبوجدانه وبحياته. لذلك، فالمدرس والمتعلم هما كالعاشق الذي يعيد باستمرار تحديد مفهوم الحب بتجربته الشخصية. ويعني ذلك أنه يوجد مفهوم للتدريس بعدد المدرسين، ويوجد مفهوم للتعلُّم بعدد المتعلمين، كما يوجد مفهوم لكل من الشعر والحب وإخراجات لهما بعدد الشعراء والعاشقين. هكذا، فإن المقاربات « البيداغوجية الموضوعية الخطية  » تلتقي عمليا مع المقاربة السلفية المتشددة، لأنهما لا تعطيان للعقل كامل فعاليته، وتفرضان عليه أسيجة كثيرة تعوق حركتَه وتحرُّرَه من كل الأغلال التي تقيده. وبذلك تحولت البيداغوجية الخطية إلى فقه جديد، لأنها تجعلنا لا نعي أن العقل عملية معرفية إبداعية. وما لم نقم بتحرير العقل، لا يمكننا أن نتخلص من رواسب التخلف. كما أن تنشئتنا الاجتماعية المتأثرة بثقافة الماضي وعقليته المنغلقة تجعل الإنسان المغربي يفرض قيودا على إعمال لعقله، حيث صارت هذه التنشئة ضد الطبيعة البشرية. وهذا ما جعل هذه الثقافة تشكل عائقا في وجه تحرير عقولنا وإطلاق سراحها. هكذا، صار المتعلم المغربي لا يستطيع التوصل إلى معاني ما يدرسه، ما جعله لا يفهم ما يتلقى من معارف، ولا يستطيع الاشتغال بها داخل قاعة الدرس أو بعد تخرجه من المدرسة، الأمر الذي يفقده الرغبة في التعلم. وهذا ما يخلق عداء بينه وبين المعرفة، حيث إن الطرائق التقنوية تتعارض مع طبيعة المعرفة، بل إنها تنسفها. وهذا ما جعلها ضد عملية التعلم ذاتها.
هكذا، يتضح أن الفقه القديم والمقاربات البيداغوجية الخطية التي تدعي « الموضوعية » لا يعطيان للمقاربة النقدية أهمية تذكر، كما أن برامجنا الدراسية تعمل على حشو الأذهان بمعلومات لا معنى لها، حيث لا يشارك المتعلمون في مساءلتها خلال بنائها ومعرفة حدودها، وبذلك فإنهما تمارسان الإكراه على حفظ المعارف وترديدها، وتزرعان نزعة تسليمية ببغائية في نفوس المتعلمين، إذ إن عدم إكساب المتعلمين القدرة على النقد هو ما يجعل بعض الشباب المغربي يقع فريسة في يد التيارات المتشددة التي تدعو إلى الانغلاق والعنف. إننا لا نعي أن العقل النقدي هو الذي يبدع ويطور البدائل، كما أنه يبني الحضارات. وبدون مراهنتنا على تكوين العقل النقدي، لا يمكننا أن نطور مشروعا تنمويا أو ننخرط فيه، كما أن تحرير العقل كفيل بإحداث تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية حضارية… ويبدو لي أنه يجب الاستفادة من كتابات الأساتذة عبد الله العروي ومحمد أركون وأدونيس… لمعرفة العوائق الكامنة في عقل المجتمعات العربية الإسلامية بهدف تطوير تدريسيات تساعدنا على التخلص من هذه العوائق من أجل تحديث الإنسان والمجتمع…

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *