مستقبل تنزيل الإستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة في النموذج التنموي الجديد

حمزة يسين :

التزمت المملكة المغربية برفع تحديات القرن الواحد والعشرين من خلال اعتماد التنمية المستدامة كمشروع مجتمعي وكنموذج تنموي جديد ومتجدد، بفضل التوجهات المتبصرة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس. وقد تكرس هذا الالتزام كخيار استراتيجي منذ سنة 1992، من خلال خطاب ولي العهد اَناذاك والذي رسم من خلاله رؤيته للركائز الأساسية لبناء نموذج تنموي جديد.

ومنذ ذلك الحين، تم تفعيل هذا الالتزام بالمبادئ الأساسية للتنمية المستدامة من خلال سلسلة من الإصلاحات المتتالية بهدف بناء التنمية الاقتصادية على أسس صلبة وتحسين الظروف الاجتماعية، وتسريع وتيرة الإنجازات البيئية عبر اعتماد مجموعة من الوسائل المؤسساتية ( المبحث الأول )، والوسائل التحسيسية ( المبحث الثاني )، من أجل التنزيل الصحيح للإستراتجية الوطنية للتنمية المستدامة في النموذج التنموي الجديد.

المبحث الأول : الوسائل المؤسساتية لتنزيل الإستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة

تعتبر الوسائل المؤسساتية لها دور كبير جداً وفعال، بحيث أن البعض اعتبرها هي الترجمة الفعلية على أرض الواقع عن طريق إخراج مجموعة من القوانين إلى الوجود بهف التسريع من وتيرة التنمية داخل البلاد، إضافة إلى إطلاق مجموعة من المشاريع التي تنسجم مع الالتزامات الدولية، وأخيراً تحقيق الأهداف المسطرة في الوقت المحدد.
وللإلمام بهذه الوسائل سنحاول التطرق إلى الدولة كأول وسيلة مؤسساتية ( المطلب الأول )، بعد ذلك سنتحدث عن البرنامج الحكومي كثاني وسيلة مؤسساتية ( المطلب الثاني ).

المطلب الأول : الدولة
إن اعتماد الأداء المثالي للدولة يعتبر رافعة ضرورية لتنفيذ التنمية المستدامة، بحيث يجب على الدولة أن تكون قدوة من خلال اعتمادها وتنفيذها، داخل مؤسساتها، للتدابير المستدامة والإجراءات التي تحث أو توصي بها الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين. ويقوم الأداء المثالي للدولة على تحقيق مجموعة من الأهداف التي تتعلق بالمشتريات العمومية المستدامة، والمسؤولية البيئية للدولة ومسؤوليتها الاجتماعية و المجتمعية…، وعليه يرتكز المحور الأول من الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة على اتخاذ إجراءات وتدابير نموذجية داخل الوظيفة العمومية في كل مايتعلق بتشجيع التنمية المستدامة. 1
بحيث الدولة قامت بإعداد الاستراتيجية عن طريق الوزارة الوصية من أجل تحقيقها في أفق 2030، ومن أجل تحقيق رؤيتها الاستراتيجية وبلوغ أهدافها المسطرة، تعتزم الدولة عن طريق الوزارة الوصية تركيز عملها على ثمانية أهداف (8) وهي :
1: تعزيز حماية البيئة وتحسين إطار عيش المواطنين والمواطنات.
2: تشجيع الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر من خلال تطوير أنشطة مُذرة للدخل مع الأخد بعين الإعتبار مقاربة النوع.
3: ترسيخ الحكامة البيئية والتنمية المستدامة.
4: تقوية أجهزة الرصد واليقظة والوقاية والتوقعات المستقبلية والتخطيط في مجال البيئة والتنمية المستدامة.
5: تعبئة الفاعلين الأساسيين وتعزيز مبادئ التنمية المستدامة في إطار مقاربة تشاركية متكافئة بين المرأة والرجل.
6: السهر على تنفيذ السياسة الوطنية في مجال محاربة تغير المناخ.
7: السهر على تنفيذ السياسة الوطنية في مجال المحافظة على التنوع البيولوجي وتثمينه.
8: تعزيز تنظيم ونجاعة تدبير كتابة الدولة على المستويين الوطني والترابي في إطار مقاربة تأخذ بعين الاعتبار التكافؤ بين المرأة و الرجل.
كذلك في إطار توجهاتها الاستراتيجية، حددت الدولة الأولويات الأساسية على المدى القصير والمتوسط فيما يلي :
 على مستوى التأهيل البيئي وتحسين إطار المواطنين :
– تحسين جودة الهواء
– تحسين تدبير التطهير السائل
– تحسين تدبير النفيات الصلبة
– ومكافحة التلوث الصناعي وتحسين تدبير المواد الكيميائية الخطرة

 فيما يخص الحفاظ على الموارد الطبيعية والأوساط البيئية :
– المساهمة في الحفاظ على الساحل واستصلاحه
– المساهمة في تثمين التنوع البيولوجي والموارد الجينية
– والمساهمة في مكافحة الاَثار السلبية لتغير المناخ

 فيما يتعلق بتشجيع الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر :
– تطوير منظومات تثمين النفايات الصلبة والسائلة
– المساهمة في إنجاز مشاريع نموذجية مبتكرة في مجال البيئة و التنمية المستدامة
– وتشجيع خلق فرص الشغل في المهن والوظائف الخضراء والمستدامة

 بالنسبة لتعبئة الفاعلين في مجال البيئة والتنمية المستدامة :
– تعزيز الشراكة مع الفاعلين الأساسيين في هذا المجال
– تعزيز التعاون الدولي
– تعزيز التوعية والتربية البيئية
المطلب الثاني : البرنامج الحكومي
التزمت الحكومة المغربية، من خلال برامجها الذي قدم للبرلمان في أبريل 2017 برسم الولاية التشريعية 2017-2021، بتطبيق الميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة، وبإعداد وتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة وتعزيز الإطار المؤسساتي المتعلق بها، إضافة إلى دعم وتفعيل الصندوق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة. ووفقا للبرنامج الحكومي، يأتي هذا الالتزام تفعيلا للتوجيهات الملكية السامية القاضية بتكريس الانخراط الإداري للمغرب في الجهود العالمية الرامية لبلوغ أهداف التنمية المستدامة. 2
انخرط المغرب، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله في سياسة استباقية وطوعية في مجال التنمية المستدامة، تروم تحقيق التناغم بين السياسات العمومية والتزامات المغرب الخارجية.
هذا ما أكده رئيس الحكومة، الدكتور سعد الدين العثماني، في كلمته خلال قمة رؤساء الدول والحكومات حول أهداف التنمية المستدامة مساء الأربعاء 25 شتنبر 2019، المنعقدة بمناسبة الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك. إذ أبرز رئيس الحكومة أنه بفضل الإرادة القوية على أعلى المستويات، وإطار دستوري وقانوني ملائم، انخرطت المملكة، منذ سنوات، في تطبيق التزاماتها في هذا المجال، وأرست مؤخرا نظام حكامة متمثل في لجنة وطنية تضم مختلف المتدخلين، برئاسة رئيس الحكومة، لضمان تتبع أدق وتنسيق أنجع.
وقد تمكن المغرب، يضيف رئيس الحكومة، من تحقيق تقدم ملحوظ على مستوى عدد من الأهداف السبعة عشر، خاصة في مجال تقليص عدد الوفيات عند الولادة ومحاربة الفقر وتيسير الولوج إلى الخدمات العامة الأساسية وتحسين الظروف المعيشية للساكنة، وتطوير البنيات التحتية وتعزيز الحقوق والحريات لترسيخ أسس الممارسة الديمقراطية السليمة.
وأوضح رئيس الحكومة أن هذه المكاسب تحققت بفضل إصلاحات واسعة واستراتيجيات وطنية كبرى، منها الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وبرنامج الطاقات المتجددة، والرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2015-2030 وغيرها.
ولإعطاء هذا المسار التنموي دفعة قوية وانطلاقة جديدة، يضيف رئيس الحكومة، « أطلق جلالة الملك محمد السادس ورش تجديد النموذج التنموي الوطني، لتعزيز مسيرة التقدم والنماء، والاستثمار في الرأسمال البشري، وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، كما جاء في خطاب جلالته بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش المجيد بأن « تجديد النموذج التنموي الوطني ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو مدخل للمرحلة الجديدة … مرحلة جديدة قوامها: المسؤولية والإقلاع الشامل ». إذ اعتبر رئيس الحكومة أن « المسؤولية » و »الإقلاع الشامل » ركيزتان أساسيتان ينبغي أن « تقودا مساعينا الدولية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في هذه المرحلة.
كما أشار رئيس الحكومة إلى أن اعتماد خطة 2030 للتنمية المستدامة، سنة 2015، شكلت خطوة تاريخية في مسيرة الجهود المشتركة لمواجهة تحديات التنمية المستدامة، لكن رغم التقدم المحرز، فإن « النتائج المحققة على صعيد بعض دول العالم لا ترقى بعدُ إلى مستوى طموحاتنا وتطلعاتنا، مما يفرض بلورة رؤية جديدة للعشرية المقبلة لتسريع وتيرة تنفيذ هذه الخطة وليشمل نجاحها كل البلدان ».
وشدد رئيس الحكومة على أن كسب رهان أهداف التنمية المستدامة رهين بانخراط والتزام كافة الجهات الفاعلة، على أساس تضامن وثيق وبناء، لا سيما تجاه إفريقيا، مما سيفتح باب الأمل للساكنة التي تعاني من الهشاشة وضيق الآفاق، ويسهم في الحفاظ على سلامة كوكبنا لأجيال الحاضر والمستقبل، داعيا الأمم المتحدة إلى إحداث صندوق مالي لدعم تنفيذ أهداف التنمية المستدامة في القارة الإفريقية.
كذلك صادق المجلس الحكومي في إطار استكمال برنامجه حول التنمية المستدامة على مشروع مرسوم رقم 2.19.452 بشأن تنظيم اللجنة الوطنية للتنمية المستدامة، تقدمت به السيدة نزهة الوفي، كاتبة الدولة المكلفة بالتنمية المستدامة ( سابقا ) يوم الخميس 13 يونيو 2019.
ويستجيب هذا المشروع لتطلعات الحكومة لتكون في مستوى الالتزامات التي أخذتها على عاتقها في إطار البرنامج الحكومي الذي أكد على تكريس الانخراط الإرادي للمغرب في الجهود العالمية الرامية لبلوغ أهداف التنمية المستدامة، وكذا انسجاما مع الالتزامات الدولية للمغرب منذ اعتماد خطة التنمية المستدامة في الدورة 70 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ويحدد مشروع هذا المرسوم على الخصوص مهام وتشكيلة اللجنة الوطنية للتنمية المستدامة، إضافة أعضاء جدد الى اللجنة، مقارنة مع تشكيلة اللجنة الاستراتيجية للتنمية المستدامة. ويتعلق الأمر بكل من الوزارة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالشؤون العامة والحكامة والمندوبية السامية للتخطيط والوكالة المغربية للطاقة المستدامة والوكالة المغربية للنجاعة الطاقية وجمعية رؤساء جهات المغرب والاتحاد العام لمقاولات المغرب والمجموعة المهنية لبنوك المغرب.
كما سيتم إحداث لجنتين لدى اللجنة الوطنية: « لجنة تتبع ومواكبة الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة » التي ترأسها السلطة الحكومية المكلفة بالتنمية المستدامة، و »لجنة تتبع ومواكبة أهداف التنمية المستدامة » التي ترأسها مصالح رئيس الحكومة.
ويهدف إحداث « لجنة تتبع ومواكبة أهداف التنمية المستدامة” إلى إرساء نظام حكامة خاص بتتبع ومواكبة أهداف التنمية المستدامة، وتناط بها مهام التنسيق والتتبع والمواكبة بخصوص ما يتعلق بأهداف التنمية المستدامة، كما حدد مشروع المرسوم الأعضاء المكونين لها.
يذكر أنه مباشرة بعد اعتماد الاستراتيجة الوطنية للتنمية المستدامة بالمجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 25 يونيو 2017 تحت الرئاسة الفعلية لصاحب الجلالة، محمد السادس نصر الله، سارعت الحكومة إلى وضع إطار للحكامة مكون من لجنتين وهما اللجنة الاستراتيجية للتنمية المستدامة تحت رئاسة السيد رئيس الحكومة ولجنة القيادة تحت رئاسة السيدة كاتبة الدولة المكلفة بالتنمية المستدامة.
هذا وقد تم عقد تلاث اجتماعات للجنة القيادة بتاريخ 22 نونبر 2017 و15 ماي و9 نونبر 2018 على التوالي كما تم عقد الاجتماع الأول للجنة الاستراتيجية بتاريخ 22 فبراير 2019 برئاسة السيد رئيس الحكومة بعد 4 لقاءات للجنة القيادة التي تتراسها كتابة الدولة المكلفة بالتنمية المستدامة ( سابقا ) والتي مكنت من إعداد واعتماد خارطة الطريق متكاملة لتحقيق الأهداف ذات الأولوية المتضمنة في هذه الاستراتيجية.3
المبحث الثاني : الوسائل التحسيسية لتنزيل الإستراتيجة الوطنية للتنمية المستدامة
إلى جانب الوسائل المؤسساتية التي تعتبر اللبنة الأساسية في تنزيل الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة، توجد أيضاً الوسائل التحسيسية التي تعتبر خير مساعد للوسائل المؤسساتية عن طريق تقديم التوعية وعمل المبادرات داخل المجتمع بهدف واحد هو انجاح تنزيل الاستراتجية على أكمل وجه. ومن بين أهم الوسائل التحسيسية : الأسرة والتعليم ( الفرع الأول )، والمجتمع المدني ( الفرع الثاني ).

المطلب الأول : الأسرة والتعليم

تعتبر الأسرة والتعليم من بين أهم الوسائل التحسيسية داخل المجتمع نظراً لدورهما الكبير في التأثير على الأجيال الصاعدة، لذلك سنخصص في هذا الفرع فقرتين في الفرع الأول سنتحدث عن الأسرة، وفي الفرع الثاني سنتناول التعليم ودوره في التنمية.

الفرع الأول : الأسرة 4

للأسرة دور هام في التنمية وفقاً لما تقوم به من توفير المناخ الطبيعي لتنشئة الإنسان التنشئة الإيجابية وهي أحد أهم الروافد التي ترفد المجتمع بأهم عنصر من عناصر التنمية ألا وهو العنصر البشري فالأسرة القوية المتماسكة تمد المجتمع بالعضو الفاعل والمجتهد في إنتاجه. ومما لاشك فيه أن مسؤولية أمن الوطن تقع على عاتق كل من يعيش على أرض الدولة، حيث أنهم هم الذين سوف ينعمون بالراحة والطمأنينة فيه، وبالطبع فان المسؤولية الأولى تقع على الأسرة؛ باعتبارها البوتقة التي يخرج منها المواطن الصالح ؛ لذا يجب على الأسرة أن تعي دورها تماما تجاه أمن المجتمع، وأن تقوم بدورها من خلال تنشئة أولادها على حب الوطن وحفظ أمنه من خلال أدوارها المختلفة من ( تربية ووقاية ورقابة وتعاون وتوعية ).

وهي اللبنة الأولى في كيان المجتمع، وهي الأساس المتين الذي يقوم عليه هذا الكيان فبصلاح الأساس يصلح البناء، وكلما كان الكيان الأسري سليماً ومتماسكاً كان لذلك انعكاساته الإيجابية على المجتمع فالأسرة التي تقوم على أسس من الفضيلة والأخـلاق والتـعاون تعتبر ركيزة من ركائز أي مجتمع يصبو إلى أن يكون مجتمعاً قوياً متماسكاً متعاوناً، يساير ركب الرقي والتطور.

وقد اختارت الأمم المتحدة شعار “الأسرة وتغير المناخ” لسنة 2019 من أجل التركيز على أهداف التنمية المستدامة، حيث يحتفي المنتظم الدولي بيوم الأسرة الدولي في 15 ماي من كل سنة، وتم التركيز هذه المرة على الأسرة والسياسات الأسرية، بهدف :
إدماج التدابير المتعلقة بتغير المناخ في السياسات والاستراتيجيات والتخطيط على الصعيد الوطني.
تحسين التعليم وإذكاء الوعي والقدرات البشرية والمؤسسية للتخفيف من تغير المناخ، والتكيف معه، والحد من أثره والإنذار المبكر به.
فعلى الرغم من أن تغير بنى الأسر في كل أرجاء العالم تغيرا كبيرا في أثناء العقود الماضية بسبب الاتجاهات العالمية والتغيرات الديمغرافية، إلا أن الأمم المتحدة لا تزال تعترف بالأسرة بوصفها اللبنة الأساسية للمجتمع.
ويتيح اليوم الدولي للأسر الفرصة لإذكاء الوعي بالقضايا ذات العلاقة بالأسر بما يزيد من المعرفة بالعمليات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر فيها، كما يتيح الفرصة في كثير من البلدان لتسليط الضوء على المجالات المختلفة التي تهم الأسر.

الفرع الثاني : التعليم 5

تقوم التنمية بشكل عام على استثمار الطاقات والقدرات المادية والبشرية المتاحة لتحقيق رفاهية المجتمع، لكونها عملية شاملة و متكاملة يتوقف نجاحها على ما ينجزه الإنسان من جهد متعدد الجوانب والأشكال. و يعتبر التعليم دعامةأساسية للتنمية البشرية(مكون أساسي في التنمية العامة) التي تهدف الى توسيع الخيارات المتاحة للناس، ومن حيث المبدأ يمكن أن تكون تلك الخيارات بلا حدود تتغير عبر الزمان، ولكن ثمة ثلاثة خيارات تبقى جوهرية في كل مستويات التنمية وهي؛ أن يعيش المرء حياة صحيحة وطويلة، وأن يكتسب المعارف والمهارات، ثم أن يحصل على الموارد الضرورية لتوفير مستوى عيش لائق.

وفي حالة ما تعذر على الفرد تحقيق تلك الخيارات الثلاثة فإن مهمة الحصول على كثير من الخيارات الأخرى تظل مهمة صعبة المنال. ولكن التنمية البشرية لاتقف عند هذا الحد، فهناك خيارات أخرى يسعى كثير من الناس استغلالها، وهي تمتد من الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى توافر فرص الخلق والإبداع والتمتع باحترام الذات وضمان حقوق الإنسان، وتأسيسا على ذلك فالتنمية البشرية باختصار هي عملية تمكين الإنسان من تحقيق إنسانيته وحاجاته وتنمية مستويات متعددة من قدراته وطاقاته وحوافزه.
ولأجل الإحاطة ببعض جوانب هذا الموضوع الشائك ارتأيت طرح بعض التساؤلات كمحاولة لمقاربة الموضوع وارتباطه بالتنمية البشرية من قبيل ما هي أهم أدوار التعليم في عملية التنمية؟
يؤكد العديد من المفكرين والباحثين في علم التربية اليوم أن التخطيط التربوي القائم على تنمية الثروة البشرية وحده يستطيع تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية الشاملة، هذه الأخيرة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي ولكنها تتجاوزه إلى إطار واسع للنمو، تأتي في مقدمته المحدد البشري قبل الاقتصادي، مما يفسر اهتمام الدول المتقدمة حضاريا واقتصاديا واجتماعيا بالموارد البشرية وتسخيرها للتقدم ولرقي المجتمع انطلاقا من النهوض بالجانب التربوي.
ومن هنا تتجلى العلاقة التبادلية بين التربية والتنمية، فكل واحدة منهما تؤثر وتتأثر بالأخرى، لدرجة يصعب الفصل بينهما فالتربية تؤثر على التنمية من خلال تحديد النموذج التنموي المنشود و وضع المشاريع اللازمة لهذه الغاية بكل دقة وموضوعية ورصد الإمكانيات والموارد الكفيلة مع القيام بالتقويم لجميع مراحل الإنجاز، مما يسمح في نهاية المطاف من تحقيق أهدافه المرسومة، وبالمقابل تستفيد التربية من التنمية من خلال الاستغلال الأمثل للفائض الاقتصادي قصد توفير الحاجيات الأساسية والضرورية لتطوير العمل التربوي وجعله يحقق أفضل مردودية تنموية .

إن التخطيط للتنمية البشرية يبدأ من المسألة التعليمية ومن تأهيل المدرسة لدورها المركزي في مواجهة واقع التخلف، والقيام بمهام التحديث على مختلف المستويات، وفي تنشئة أجيال منتجة ومبدعة على اعتبار أن دور التعليم في ظل التحولات العالمية الراهنة هو تكوين النشء الصالح وإعداده ليصبح قادرا على مواجهة تحديات العولمة والتفاعل مع متطلبات التنمية .
ويظل هدف التنمية الأساسي هو ازدهار الإنسان و الارتقاء به، والتنمية في جوهرها لا تتحقق إلا: بتعليم ناجع تتوفر فيه الجودة و بتعليم يؤسس لمجتمع مواطن و بمجتمع تسود فيه العدالة الاجتماعية و المعرفة التي تقوم على تلبية حاجيات المواطن المغربي في التطور الشخصي والاجتماعي والوعي والمشاركة والفكر النقدي والكفاية الاقتصادية والإنتاجية.

المطلب الثاني : المجتمع المدني

يعتبر المجتمع المدني الرأسمال الاجتماعي للمجتمع، كما يعد شريكا أساسيا في المساهمة في مجال السياسات التنموية، حيث لم يعد الدور يقتصر على الدولة والجماعات الترابية بل ثم التركيز في السنوات الأخيرة وفي حالة دول العالم التي نجحت في قيادة التنمية بكل أبعادها على نقل العديد من الأدوار للقطاع التطوعي ( المجتمع المدني ) والذي أصبح شريكا فعالا في تقديم العديد من الخدمات، من هنا ستصبح للمجتمع المدني أهمية في تدبير الشأن المحلي والمساهمة في التنمية .

قبل الخوض في هذه النقطة المتعلقة بمكانة وأهمية المجتمع المدني على المستوى المحلي ارتاينا التطرق ولو بتركيز شديد لمفهوم المجتمع المدني باعتباره من المفاهيم الصعبة التحديد لكونه مفهوم متحرك مستقل وبالتالي فلا يتصور خضوعه لتعريف دقيق وثابت قابل للاستخدام في كل زمان ومكان بالإضافة إلى كونه غربي النشأة 13 الأمر الذي يطرح صعوبات في تنزيله على واقع المناطق الأخرى في العالم حيث تطرح هنا إشكالية الخصوصية الكونية ففي المنظومة الغربية كأرضية النشأة فقد أعطيت له من قبل الباحثين مجموعة من التعاريف بغية التمكن من استيفاء العناصر المطلوبة في تعريفه .
فحسب الفيلسوف الألماني  » هيكل  » فإن المجتمع المدني في نظره يتموقع في الطرف الموجود بين الأسرة والدولة وأن تكونه يأتي في مرحلة لاحقة عن الدولة التي تسبقه كواقع مستقل حتى يتمكن من البقاء .

في حين يعرفه الآخرون بانه واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي تتضافر في تكوينه عدة عوامل أو بتعبير آخر المجتمع الحديث الذي يتخذ شكله من التحول الديمقراطي. كما نجد بعض المفكرين العرب كالدكتور » إبراهيم أبراش  » يعرفه باعتباره كل المؤسسات والأنشطة المنظمة التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة دون تدخل مباشر من الحكومة. أما من الناحية الإجرائية فيعرف المجتمع المدني بأنه جملة من المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال رئيسي عن الدولة بهدف تحقيق أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستويين المحلي والوطني.

وعلى ذكر المشاركة فإن هذه الأخيرة كمقاربة تعرض نفسها على العمل الجماعي بفعل التحولات الاقتصادية والتقنية وتكاثر الحاجيات المحلية وتعقيدها بالإضافة إلى تنامي مطلب المشاركة في تدبير الشأن العام.

فإذا كانت المشاركة تعني أن يكون المرء طرف في عمل ما فإنها تعتبر وسيلة للاشتراك الفعلي لجميع الفاعلين في تدبير الشأن العام المحلي وخصوصا لما أصبحت التنمية المحلية في مفهومها الحديث تهدف إلى إحداث تحولات هيكلية واقتصادية ، وهذا ما دفع بضرورة دعم آليات المشاركة وترسيخ ثقافتها في المجتمع، بحيث تكون الأولوية الكبرى لمدى فعالية مشاركة المواطن المحلي ، عن طريق تمكينه من الفرص الكافية والعادية لإدراج قضاياه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعراب عن خياراته التي يجب إدراجها في إطار السياسية العامة للدولة.

وعلى هذا الأساس يأتي الدور على وظيفة المجتمع المدني في لعب دور الوسيطة اغير الحكومية التي يمارس فيها المواطن نوعا من الإرادة الذاتية والتي تسمح بالانتقال من الديمقراطية التمثيلية إلى درجة الديمقراطية الإسهامية.

وفي المغرب لم يتم الحديث عن المجتمع المدني إلا بداية عقد السبعينات ، حيث تداخلت جملة من الأسباب والعوامل التي تؤثر على بداية إيمان الدولة في قدرة مؤسساته على المساهمة في تدبير الشأن المحلي ، بالإضافة إلى دينامكية قوى المجتمع المدني في المغرب وتغطيتها في وقت قصير لمجموع القطاعات السياسية والاجتماعية ما جعلها تعلب دورا فعالا في الدفع بمسلسل عصرنة الدولة من جهة ، والمساهمة في بلورة السياسات العمومية وتنفيذها من جهة ثانية. 6
إن هذا التطور الحاصل في أدوار المجتمع المدني لم تأتي من فراغ أو كان وليد الصدفة وإنما هو محطة تجارب عديدة تمت مراكمتها عبر عقود تدخلت وامتزجت فيها مظاهر التعاون والتنافر مع أجهزة الدولة منذ ذلك الحين إلى اليوم عرفت علاقة المجتمع المدني بالسلطات العمومية عملية المد والجزر في مواقفها وعدم ثباتها ويعزو ذلك إلى أسباب تتمثل في ما يلي : – أن السمات التي تطيع السلطات العمومية : أنها تضع نفسها فوق المجتمع المدني الذي هو منبعها :
• اعتماد منطق المواجهة : وقد امتدت هذه المرحلة من بداية السبعينات إلى أواسط الثمانيات من القرن العشرين ، وتميزت بالاصطدام المباشر مع ما كان يشكل نواة مجتمع مدني فتي وناشئ والذي كان غالبه على صلة مع الأحزاب السياسية المعارضة وخاصة اليسارية ولهذا وصلت حدة المواجهة في كثير من الأحيان إلى درجة الاعتقال والمنع والمصادرة وخاصة في حق العمل النقابي ؛
• نهج أسلوب المنافسة والانفتاح : وذلك بالاهتمام المتزايد لمؤسسات المجتمع المدني الشيء الذي نتج عنه خلق العديد من الجمعيات ترفع نفس أهداف وشعارات باقي مؤسسات المجتمع المدني الحرة وأمدتها بجميع الإمكانيات المادية وجعلت على راسها أعيان السلطة والمال حتى تقوي نفوذها في المجتمع ( مثل جمعية أبي رقراق ، جمعية إيليغ ) ، هذه الجمعيات أصبحت أنشطتها تغطي الكثير من الأنشطة السياسية الرسمية .

من هنا يتضح أن الدولة في أمس الحاجة إلى المجتمع المدني ، بحيث لم تعد السيد الوحيد المهيمن على تدبير الشأن العام وبالأخص التضييق الفجوة بين احتياجات الافراد وتوقعاتهم من ناحية وقدرات الجماعات الترابية ورغبتها في الاستجابة من ناحية أخرى وما يؤكد صدقية هذا الطرح ، تقدير الدولة لدور الجمعيات ورغبتها في تطويرها ودعمها من خلال إشراكها في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية التي تهم كل جماعة من الجماعات وهذا ما يعبر عن التزايد الملحوظ في عدد الجمعيات التي تهتم بالتأثير والمشاركة في برامج التنمية المحلية.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *