انخرطت في الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير في سنة 1989 تقريبا، كنت سعيدا بذلك الانتماء إلى ذلك التوجه الوسطي وأنا لازلت تلميذا، كانت الجمعية الاسلامية تقودها نخبة من الدعاة المربين الأجلاء، أذكر من بينهم الأستاذ الفاضل عبد الناصر التيجاني، الذي كان أستاذي بثانوية وادي المخازن، والذي كان له فضل كبير علي وعلى كثير من الإخوة في التأهيل الفكري والسياسي والتربوي، والمرحوم عبد العزيز حميد، والذي كان مربيا وداعيا إلى الله بصبر منقطع النظير، والأستاذ محمد بوانوا الذي له الفضل الأكبر في احتضاننا آنذاك في الجلسات التربوية في بيته وفي مقر الجمعية، والبشوش الخلوق أستاذنا وشيخنا عبد الله الطاهري، الذي كان مسك الجمعية وجمالها، وشباب كثر كلهم حماسة، كان سبيلهم التنافس في الخير.
وحدث أن قدم زائر المشاركة السياسية، في أول تجربة ما بين 1992 و 1993، حيث اجتهدت قيادات الجمعية الاسلامية في طلبها، فقدمت مرشحين من الصف الثالت -كما قيل لنا آنذاك- للانتخابات الجماعية، دخل بعضهم بتزكيات من أحزاب مختلفة، وأكثرهم ترشحوا مستقلين، فاز ستة من المرشحين فدخلوا في إئتلاف مع الدستوري المحامي الأستاذ بوحيى، في أول تجربة في التسيير ومن غير تجربة انتخابية سابقة، ولا ضمانة في انضباط الفائزين مع خط الإصلاح الموعود، فوقع الخلاف مع الرئيس ولم يثبت من مرشحي الجمعية الاسلامية إلا نصف العدد، وكان عدد من الذين يقودون التجربة الحالية من الفاشلين في الفوز آنذاك، وسيفشلون بعد ذلك في الاستحقاقات التي أجريت تحت نمط الانتخابات الفردية.
أما في الانتخابات التشريعية لسنة 1992 فقد ترشح فيها ممثلا للجمعية الإسلامية سعيد خيرون تحت يافطة حزب الشورى والاستقلال، كانت المبادرة تتوخى تقديم مرشح غير معروف ربما رغبة في عدم استفزاز السلطات، وأيضا رغبة في كسب مزيد من التجربة في المشاركة السياسية.
ربما لم يخطر في بال أحد من القيادات ولا في بال أي أحد، أن التجربة تسوق لمنتوج واحد ستظل تكرره على مسامع الناس كل حين، لم يخطر في بالنا ونحن تلاميذ وطلبة أننا نسوق مجسمات لأصنام نضعها فوق كراسي وثيرة لا تريد أن تنقلع منها أبدا، الناس عندما تتذكر هذا الأمر تستغرب من أمر صناع هذه التجربة -التي أصبحت في ما بعد جزء من حزب العدالة والتنمية- كيف لم ينتبهوا لأمر هذا الجمود الصنمي القاتل؛ فمرشحو الصف الثالت أصبحوا يقودون قيادات الصف الأول إلى الهاوية.. ربما هم الآن في الهاوية..!!
كانت نتائج تجربة الانخراط في الانتخابات الجماعية بالقصر الكبير مفاجئة لقيادة الجمعية الإسلامية على ما أعتقد، فهي لم تكن إلا تجربة استكشافية تهدف اكتساب التجربة، مع طموح غير محسوب العواقب، وإذ بالنتيجة تفصح عن فوز بستة مقاعد جعلت الجمعية الإسلامية في موقع المرجح لكفة الغلبة، وإذ بالوفود السياسية والوسطاء يولون وجوههم اتجاه الجمعية الإسلامية وبيوت قادتها.
أستاذي عبد الناصر التيجاني زعيم سياسي بدون تجربة، مع قاعدة من الفائزين غير متحكم فيها، ورجح لدى هذه الزعامة خوض التجربة من موقع التدبير، وطبخ تحالف قيل أن ميثاقه قسم غليض بالوفاء، وإذ بالجمعية في موقع التسيير وتملك نائبا للرئيس؛ وكان الداهية المحامي الدستوري بوحيا يمكر مكره باحترافية تتجاوز منطق القسم الشهير، وكانت التجربة الفتية في موقف المتفرج على ذلك المكر، ولم تمضي سنة كاملة إلا والانقسام يسفر عن نفسه، فأصبح عدد المطيعين من المستشارين أقل، وذهب جزء منهم مع الداهية..؟!!
قيل يومها أن تمة خيانة طمعا في دنيا فانية، لكني لازلت أذكر أن ذلك الخلاف كان سياسيا بالدرجة الأولى، وأحد تجلياته وقع في محطة الاستحقاقات التشريعية مع المنافس بوحيا نفسه؛ هذه التداعيات السياسية انعكست آثارها داخل بيت الجمعية، عندما أصرت القيادة على الدفع بمرشح شاب مغمور للانتخابات التشريعية باسم حزب الشورى والاستقلال، وعندما أبقي على المبدأ المعلن المتعلق بعدم الزج بقيادات الصف الأول في معركة غير محسوبة العواقب، لكنها لم تعلم -ربما- أنها تدفع بمرشح وحيد أمه (الجمعية) الذي لم تلد خلفا له أبدا؛ في البداية كان الخلاف حوله وكان من بين المخالفين بعض المستشارين الجماعيين، الذين كان لهم رأي مخالف في موضوع الترشيح، جوبه المخالفون بأنواع من الإشاعات لا نعلم مصدرها، إذ كانت إرادة المضي في الخطأ أعلى من إرادة تقييم الأداء، بعد أن غلفت تلك الممارسة بأسلاك شائكة من التفرد (المقدس ضمنيا)، لم تنتبه القيادة إلى أن هؤلاء الذين دفعوا إلى المعترك السياسي، سيأسسون فيما بعد ممالكهم السياسية بعيدا عن المنطلقات..!
إنهم أول المخالفين لرؤية الزعامات وتصوراتها، لأن الأمور السياسية وتدبيرها لا تعقد ألويتها باسم المرجعية الدعوية، وتثبت التجربة اليوم استمرارا منقطع النظير في العبث بالمنهج الدعوي في معترك السياسة.