المقارعة الفكرية
كل المخلوقات في هذا الكون تحيا بالفطرة إلا أن الإنسان تميز عنها بالعقل الذي حباه الله ليؤدي الرسالة الإنسانية الموجود لأجلها، والتمييز بين الصالح والطالح في اختيارات تفاعله الكوني حيثما وجد، إلا أن التطور البشري حاول التكيف مع ما تمليه عليه العقائد الدينية والإيديولوجيات الدنيوية؛ محاولة اتفق الجميع على تسميتها بالقيم كإطار عام لهذه التفاعلات، لتأطير الفطرة وكبح السلوكات المتوحشة (المصلحة) لبني الإنسان، تأطير خلقت له أساليب وأدوات فكرية ومنهجية لضمان تعايش بناء وهادف وبشكل حضاري أهمها المقارعة الفكرية (التشاور، الحوار، الجدل، المناقشة، …) لكن بالرغم من هذه المحاولة الإنسانية النبيلة التي تنبني على المبادئ القيمة نجد تطورا عكسيا ومضادا في السلوكات البشرية، الممكن القول عنها الغير منضبطة والساعية لإيقاف كل ما هو جيد وعقلاني، والضاربة للمنطق بطريقة خبيثة أقل ما يمكن القول عنها “التصيد”.
والتصيد سلوك منحط شاع في زمننا ليفرغ المقارعة الفكرية من دورها الحضاري وأهدافها البناءة ويحولها لمصيدة للصالح لصالح الطالح، محاولة التصيد هاته هي (تكتيك) لمحاربة العقدة/الفرد الصالح بمبادئه النبيلة، حرب تسمح فيها كل الوسائل الدنيئة مهما كانت منحطة سواء بشكل مباشر أو مبطن (التشكيك، التبخيس، التهكم، التجييش، التجسس، استغلال الثقة، استغلال المآسي، الخداع، ….) في الوقت الذي يحاول الفرد/العقدة الخير العيش بإنسانيته، يلجأ الفرد المصلحاتي تصيده بمبادئه ويكثر عليه الضغط بكل الوسائل والأدوات المسموحة في مذهبه الميكيافيلي لمحاصرته وتكبيله بمبادئه وفرض جو من الإحباط حوله لضرب عزيمته الإنسانية النبيلة ليس لأنه فاشل أو بليد بل لأنه طيب ذو مبدإ، وتفاعله يعاكس رغبات الطالح المتوحشة، وجعله (الصالح) يعيش في دوامة اهتزاز الثقة بالنفس و بالغير لدرجة اليأس حسب مدى قدرته على التحمل ومدى اقتناعه بمبادئه.
وبذلك يبدو الفرد الفاشل المصلحاتي ذو النزعة المتوحشة، هو المؤثر الناجح في الشبكة المجتمعية، وتعدد هذا النموذج يجعل من الشبكة كزجاج براق مؤهل للانكسار مع أي هزة لأنه في الأصل تغيب عنه الروح الإنسانية التي من أجلها خلق العقل الموكول له تأطير الفطرة وترويض النفس للتفاعل والتعايش بشكل متوازن مع باقي العقد.
قال الفيلسوف شيشرون:
“الإنسان المنحط سمته الاستهانة بالنفس البشرية “
السعي
من الأمور الطبيعية التي تقيم التفاعل البشري الإخفاق والنجاح وهما نتيجتان حتميتان للمحرك الأساسي الذي يخطط و يوجه الإرادة التفاعلية للإنسان مهما اختلفت، محرك يتمثل أساسا في السعي وهو كلمة ذات دلالات عميقة لأنه مرتبط بتغذيته بالامور الغير ملموسة للتفاعل البشري بل بأشياء تعبر عن المكنونات التي يصعب على الإنسان لمسها وحتى في الكثير من الأحيان الإحساس بها، مكونات يسميها الدين “النية” والعلم “العقل الباطني”.
الإخفاق والنجاح كلمتان متضادتان يلتقيان في كلمة وحيدة -السعي- هي من تحدد قيمتهما، فالإخفاق في التفاعل ليس بالعيب والمثل يقول “ليس العيب أن تقع إنما العيب أن تظل حيث وقعت” كما أن النجاح ليس هو الأهم إذا لم تدرك الغاية منه، الأهم هو الإرادة البشرية التي تؤطر وتوجه بالسعي للتفاعل الذي يكون محمودا إذا كان من يغذيه -النية ، العقل الباطني- تغذية سليمة لأن المخفق يسعى بالإرادة للمحاولة بالنهوض وإعادة التجربة مع أخذ الدروس والعبر، والناجح يسعى لتطوير نجاحه أو على الأقل الحفاظ عليه، لكن إذا كان المكنون البشري عليلا بالحسد والغل والحقد والضغينة فتغذيته للسعي في تفاعله لا تكون إلا بأمور سلبية ومدمرة حتى في النجاح، مكونات غذائية للسعي في التفاعل غالبا ما تتحكم فيها الأنانية، التكبر، الغرور، الفردانية، الانتهازية، الاتكالية، تحطيم الآخر…؛ وقاموسه اللغوي صرفا مرتبط بالأنا إيجابا وسلبا بالمخاطب والغائب.
والسعي بهكذا تغذية يشكل خطرا ليس فقط على العقدة/الفرد نفسه، بل حتى على الشبكة المجتمعية، فهو بمثابة النار في الهشيم تكون حصيلته الفشل حتى وإن نجح؛ وبذلك يكون اعتبار تغذية السعي بالحسد والغل والحقد والضغينة كحطب للفشل، ومآل الحطب جمر و نهاية الجمر الرماد المحتوم بتناثره في الهواء، وبذلك فمسيرة وجود العقدة/الفرد الحاقد، الحاسد…في الشبكة المجتمعية ليس لها وزن تفاعلي بل هي كريشة في مهب الريح طائشة.
قال الفيلسوف ماركوس أوريليوس:
“السعي في حد ذاته إلى الفضيلة فضيلة”.
الموقف
كل الكائنات الحية (ثدييات، طيور) تمتلك مكونا عضويا بمثابة محرك ميكانيكي للذات “الدماغ” إلا أن الدماغ البشري يعتبر أكثر قدرة وتميز كونه المساهم الأساسي في إعطاء القدرة للعقدة/الفرد على الكلام، التخيل، حل المشاكل، التحكم في حركات الأعضاء الداخلية للجسد، الحواس وما ينتج عنها من تجميع معلومات الجسم من العالم الخارجي، القيام بالحركة البدنية (المشي، القفز، الرقص، الركض،…) ، التفكير، الحلم و الإدراك ….
هذا التميز للدماغ “العضو الجسدي” هو ما يسمى بالعقل، في الفكر الديني سمي بالأمانة مصداقا لقوله تعالى في سورة الأحزاب آية 72 ” إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ” وفي الفكر الوضعي سمي بالعقل حيث كثرت نظريات فلسفية ولغوية …. تكلمت عن هذا التميز عن باقي الكائنات، أجملها في النحو العربي “من للعاقل وما لغير العاقل”، وفلسفيا نظرية العقل (تشير إلى القدرة المعرفية على إسناد الحالة الذهنية للعقل إلى الذات وإلى الآخرين) بمعنى آخر التفاعل البشري سواء تجاه النفس أو تجاه الآخر لكونه يحيا في منظومة اجتماعية، ملزمة و ملتزمة لأواصر تمكن من التعايش في بيئة سليمة؛ والالتزام هو الضابط الذهني البشري “الضمير الشخصي أو الجماعي” الذي يتجسد في القيام بالعمل الصالح حسب الفهم والاعتقاد والحمولة الفكرية للعقدة/الفرد تجاه نفسه و تجاه الآخر، الأمر الذي ينبثق عنه ما يسمى بالموقف، وهو مصطلح ينم عن التزام الفرد نتيجة الإيمان بوجوده وبأنه فاعل ومفعول به في منظومة اجتماعية، وهو كذلك -الموقف- تقدير شخصي لتبرير موقف التفاعل حسب منظور الفرد/ العقدة ومحاولة إقناع النفس بصحة الحكم التفاعلي سواء تجاه الذات أو تجاه الآخر ولتأثيره المباشر أو الغير مباشر على الشبكة المجتمعية.
والموقف التفاعلي هو تحصيل ذو أبعاد ثلاثية في آن واحد : تقدير، فكرة وفعل؛ تترتب عنه نتائج إن حسب الإيمان بالوجود والانتماء والغاية والحالة هاته تكون الأبعاد الثلاثية للموقف محمودة، أما وإن كانت حسب المصلحة، الذاتية، الوصولية، … وهذا الحكم هو الغالب الآن تكون نتائجه على المنظومة وخيمة، وهكذا مواقف تكون ثنائية الأبعاد فكرة ولغو؛ فهي الداعية للتعصب والتخلف والفشل…. والنتيجة التطاحن، الإحباط، التكاسل، النقاش الغوغائي أي تغييب الفعل وإكثار اللغط.
قال أبو تمام :
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب.