نجمة خارج حسابات الزمن.. أم كلثوم الأيقونة الأبدية للموسيقى العربية

أفنان أبو يحيى

بصوت عشقه الموسيقي الأمريكي بوب ديلان والبريطاني روبرت بلانت والملايين في جميع أنحاء العالم العربي، رفضت أم كلثوم الأعراف الجنسانية وقدمت بدلًا منها الموسيقى الاجتماعية والسياسية المؤثرة. لكن هل يمكن لأغانيها التي تطول مدتها لتسعين دقيقة أن تجد مكانًا في مرحلة موسيقية جديدة؟

تسمع مقهى أم كلثوم قبل أن تراه، تدرجات الكمنجة وصوت الموسيقى ينساب من مدخل في حي التوفيقية بالقاهرة حيث يوجد كافيه شعبي يجلس في الخارج منه على كراسٍ بلاستيكية زوج وزوجته يدخنان الشيشة، ويظهر خلفهما تمثال ذهبي للنجمة المعروفة باسم “كوكب الشرق” و “أم العرب” و “هرم مصر الرابع”.

سجلت أم كلثوم حوالي 300 أغنية على مدار 60 عامًا، وكلماتها عن الحب، والفقد، والشوق، تنساب برونق من سيارات الأجرة، والراديوهات، والمقاهي في جميع أنحاء العالم العربي اليوم، حتى بعد 45 عامًا من وفاتها. على الرغم من غنائها للشعر العربي العمودي، إلا أنها أثرت على بعض أعظم مطربي الغرب. قال بوب ديلان: “إنها حقًا رائعة”. وقامت شاكيرا وبيونسيه بعمل رقصات لموسيقاها، ووصفتها ماريا كالاس بأنها “الصوت الذي لا يقارن”.

لا يوجد نظير غربي لأم كلثوم، ولا فنانة محبوبة ومبجلة بالقدر الذي تحظاه هي في العالم العربي. على الرغم من ذلك، لا تزال غير معروفة نسبيًا في المملكة المتحدة ما عدا محاولات فردية معدودة، أحدها عرض سنوي في مسرح لندن في 2 مارس حيث تعرض أم كلثوم والحقبة الذهبية التي عاصرتها باللغة الإنجليزية مع غناء موسيقاها باللغة العربية. تقول مديرة الفعالية، منى خاشقجي:
إن رسالتي بأكملها هي تعزيز ثقافتنا الغنية بالموسيقى العربية الكلاسيكية عند الغرب.

يصور هذا العرض المسرحي الموسيقي مصر خلال فترة الخصوبة الثقافية، والتغير الاجتماعي السياسي الزلزالي، مجيبًا على سؤال طرحته عالمة الموسيقى فيرجينيا دانيلسون صاحبة كتاب سيرة أم كلثوم: “هل من الممكن اختزال 50 عامًا من المجتمعات العربية حيث كانت النساء مضطهدات وصامتات ومحجبات، في حياة وعمل امرأة واحدة؟”.

على أية حال، ولدت أم كلثوم في قرية بدلتا النيل حوالي عام 1904 لإمام مسجد وزوجته. عمل والدها في غناء الأناشيد الدينية مع ابنه وابن أخيه، وقلدتهم ابنته، مما يعكس لاحقًا أنها تعلمت أولاً الغناء “مثل الببغاء”. إن الانضمام إلى هذه الفرقة العائلية أثبت قوة صوتها مبكرًا، ولكن أيضًا بصفتها امرأة تؤدي أناشيدَ دينية كان أمرًا يثير الامتعاض، فغطاها والدها في معطف صبي وغطاء رأس بدوي أسود، تاركًا فقط عينيها وفمها مرئيين، لكن موهبتها تحررت من قيود النوع الاجتماعي، وتألقت جاذبةً اهتمام الموسيقيين البارزين الذين دعوها إلى القاهرة.

استغرقت أم كلثوم بعض الوقت لتحط قدماها في المدينة الكبيرة في أوائل عشرينيات القرن العشرين. وبينما كان صوتها ذا شعبية في منازل النخبة في القاهرة، تعرضت للسخرية بسبب ملابسها وسلوكها في البلاد، وتعلمت تدريجيًا أن ترتدي بأناقة، وعملت مع أفضل الفنانين في هذا العصر، على الرغم من سمعتها كشريك متطلب. لقد تنافست شركات التسجيلات عليها وتفاوضت بذكاء لزيادة دخلها وشهرتها، وسرعان ما كانت تجني ضعف ما يكسبه أكبر نجوم المشهد الفني آنذاك في القاهرة.

قال مغني الروك روبرت بلانت إن الأمر “قاده للجنون” عندما سمع صوت أم كلثوم أثناء تواجده في مراكش عام 1970، “عندما سمعت لأول مرة الطريقة التي ترقص بها عبر طبقات الصوت لتهبط على نوتة جميلة لم أستطع حتى تخيل الغناء، لقد كان هائلًا وكأن أحدهم قد فجر فجوة في جدار فهمي للغناء”.

كان صوتها رنانًا، أنثويًّا وذا قوة عظيمة، قامت بالغناء أمام جمهور كبير بدون ميكروفون وارتجلت ببراعة. “لقد تصرفت كواعظ يأخذ استلهامه من رعيته، واعظ يدرك ما يُمَتِّع جمهوره، يعطيهم المزيد منه، يعمل عليه، يصقله، يزينه.” هكذا وصفها الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ ذات مرة، إذ لطالما دعتها الحشود إلى تكرار المقاطع وقامت بفعل ذلك، ما يعني أن الأغنية يمكن أن تستمر بين 45 و 90 دقيقة، لكنها كانت تغير النغمة ببراعة، وتستكشف المقامات (مجموعة المقاييس الموسيقية العربية) حتى يندلع التصفيق، قيل إنها لم تُغنِ جملة واحدة بنفس الطريقة مرتين.

يستمر عرض أم كلثوم بشكل عام حوالي خمس ساعات، ويتكون من ثلاث أغانٍ مستمرة. كان هدفها هو أن تحرض في مستمعيها الطرب، حالة من السحر الطائش، حيث ينغمس الوقت والذات في الموسيقى.

خلال الأربعينيات من القرن الماضي، توجهت أم كلثوم نحو الموسيقى المصرية العامية والشعبية، وهي خطوة حاسمة حيث غضبت البلاد التي كانت تخضغ للسيطرة البريطانية، كان غنائها لمجموعة من أغاني الشعر العربي النابض بالحياة يربطها بالأدب الجيد، لكنها قدمت شخصيتين: المرأة الواعية التي يمكنها تثقيف الجماهير، وابنة الفلاحين التي تعبّر عن آلام الطبقة العاملة.

قامت أم كلثوم بأشرطة مسجلة وتألقت في ستة أفلام موسيقية. منذ عام 1934 لما يقرب من 40 عامًا، قامت ببث حفل موسيقي مباشر يوم الخميس الأول من كل شهر. أصبحت هذه ظاهرة اجتماعية، يختفي الناس من الشوارع وأماكن العمل التي تصبح فجأة مهجورة من تونس إلى العراق مع هروب الملايين إلى المنزل للاستماع، لقد جسدت أم كلثوم الوحدة العربية وأصبحت اقتراحًا لا يقاوم للسياسيين المحنكين.

هناك قصة يتداولها الناس تقول إن موسيقى أم ​​كلثوم أزيلت من أثير الراديو بعد ثورة 1952 في مصر لأنها غنت لقادة النظام السابق. عندما سمع “البطل القومي” ورئيس مصر الثاني جمال عبد الناصر بذلك، قال: “هل هم مجانين؟ هل يريدون مصر أن تثور علينا؟”.

لقد فهم عبد الناصر أن أم كلثوم كانت رمزًا للثقافة العربية والمصرية الأصيلة، واستخدم هو كذلك البث الإذاعي بعد أغانيها مباشرة لإلقاء الخطب السياسية والترويج لأجندته القومية العربية. من جانبها غنت أم كلثوم لدعم عبد الناصر وتبرعت بملايين الدولارات للجيش، بينما يعتبرها البعض أداة للنظام، يعتقد دانيلسون أن العلاقة كانت مفيدة للطرفين الذين اتفقا على العديد من القضايا. وتردف قائلة: “كانوا يميلون إلى قول نفس الأشياء عن أنفسهم ومصر والعالم العربي.. هناك أوقات لا تعرف فيها من يتحدث، عبد الناصر أَم أُم كلثوم”.

في عام 1967، أدت أم كلثوم أول عرض لها في أوروبا في مسرح في باريس حيث دفعوا لها ضعف ما يُقدم للفنانة الأمريكية ماريا كالاس، وكانت تذاكر الدخول أغلى بأربع مرات من تذاكر حضور حفل الفنان سامي ديفيز جونيور. بعد العرض، قالت أم كلثوم:

لا يمكن لأحد أن يصف مدى اعتزازي عندما ذهبت إلى باريس، وقفت في قلب أوروبا وصدحت بصوتي باسم مصر.

استمرت أم كلثوم على هذا المنوال حتى عام 1970، لكنها رحلت عام 1975 بسبب الفشل الكلوي. وبحسب ما ورد، سار في موكب جنازتها 4 ملايين مصري، استولى بعضهم بصعوبة على التابوت من المسؤولين وحملوه لساعات عبر الشوارع.

ما زالت أم كلثوم تظهر بانتظام في وسائل الإعلام المصرية، لطالما ينجذب المحبطون من الشعور بالضيق الحالي في البلاد إلى العصر الذهبي الذي تمثله. وقد عُرضت أم كلثوم وموسيقاها باستخدام تقنية الهولوغرام في المملكة العربية السعودية، حتى منتجو الموسيقى البديلة يتذوقون كلماتها ويعتبرونها مصدر إلهام، حالهم كحال المغنيين الذين يؤدون ذخيرتها الموسيقية، بما في ذلك سناء نبيل، حفيدة أختها الكبرى البالغة من العمر 17 عامًا، والتي ستظهر في مسرحية ويست إند الموسيقية بعد أدائها المذهل في برنامج آرابز جوت تالنت. تعتقد سناء أن موسيقى قريبتها ما زالت شديدة الصلة بالحاضر اليوم، “لم تكن موسيقى أم كلثوم للماضي فقط.. أغانيها قديمة لكنها تبدو جديدة دائمًا، إنها خارج إطار الزمن”.

اشتكى البعض من أن التواجد الإعلامي الكثيف لأم كلثوم قد أحبط المواهب الأخرى، وآخرون غير مرتاحين لصراحة خطابها القومي. تتحدى أغانيها التي تستمر لمدة ساعة موسيقى البوب ​​لمدة ثلاث دقائق. تقول الخنساء، فنانة لبنانية صنعت نسخة إلكترونية من أغنيتها قصة الأمس: “يجد الكثير من الناس صعوبة في فهم اللغة العربية الفصحى، لذلك لا يستمعون إليها، خاصةً لأغانيها القديمة والصعبة”.

كانت هناك أيضًا محاولات لطرح أسئلة أكثر تحديًا حول سيرة حياتها، أفسدت أم كلثوم المعايير الجنسانية في مصر في منتصف القرن من خلال صفقاتها التجارية الصعبة، ومشاركتها النشطة في الحياة العامة، ومقاومة التخلي عن حياتها المهنية من أجل الحياة الأسرية. كان لديها زواجان، لم يكن أي منهما تقليديًا: تم إلغاء الأول خلال أيام، والثاني كان لرجل أصغر منها سنًا مع أطفال من زوجة سابقة.

يقول موسى الشديدي ، كاتب عراقي مقيم في الأردن: “نحن لا نتطرق لأم كلثوم كامرأة قوية أو ذكورية في تاريخنا.. نحن نتحدث عنها كفنانة فقط“. وعندما كتب مقالاً لمجلة أردنية عن المثليين يستكشف رفض أم كلثوم لأدوار الجنسين التقليدية، أدرج هذا الاقتباس للمثقف الفلسطيني البارز إدوارد سعيد: “خلال حياتها، كان هناك حديث عن ما إذا كانت مثلية أم لا، لكن قوة أدائها للموسيقى المرتفعة التي تفوق السرد الكلاسيكي تجاوزت مثل هذه الشائعات“.

مجرد الإشارة إلى السحاق المحتمل لأم كلثوم تسبب في فضيحة وحظرت الحكومة الأردنية موقع في الواقع، قد تكون هذه الادعاءات صحيحة. تقول دانيلسون: إن أم كلثوم كانت محاطةً باستمرار بنساء معينات لم يكن يبدين اهتمامًا كبيرًا بالرجال. ويخشى الشديدي من إعادة إثارة هذه الشكوك قائلًا: “لا أرى كيف أن حفر قبور الموتى سيصلح مجتمعنا اليوم.. ولكن يمكننا أن نسأل: إذا كانت مثلية، فهل سيغير ذلك كيف نراها؟ قد يساعد هذا الناس على إعادة النظر في كيفية تعاملهم مع هذه المحرمات“.

يُظهر هذا الضجيج مدى حماية الناس بشدة لأم كلثوم بعد نصف قرن تقريبًا من وفاتها، هذا الفضل ليس فقط لأحبالها الصوتية، ولكن أيضًا لكونها حريصة على تكوين شخصية عامة. كانت أم كلثوم حذرة من الصحافة وتأكدت من رواية قصتها من قبل صحفيين ومصورين محددين. قامت بصناعة روايتها العامة، موازنة بذكاء بين شخصية والدها المسلم المتدين وفتاة الريف الفلاحة والمدافعة عن اللغة العربية ورمز المصرية. يمكن أن تمثل أم كلثوم أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين بإتقان، وكما كتبت دانيلسون: “لقد حاولت جاهدة وبشكل ثابت بناء صوت يتبناه الملايين كصوت لهم“.

في واحدة من مقابلات الفيديو النادرة التي أجرتها الفنانة في باريس عام 1967، كانت أم كلثوم مستعدة بشكل رائع، حيث تفوقت على الصحفي المتوتر بنظرتها الثابتة، وإجاباتها المقتضبة، وتعابير وجهها اللطيفة، محللةً النص الضمني لكل سؤال ومغتنمةً كل فرصة لتحسين صورتها العامة. عندما سُئلت عن النصب التذكاري الذي تزوره أكثر في باريس، استشهدت بمسلة الأقصر في ساحة الكونكورد والتي تم نقلها من مصر إلى باريس عام 1833. وعندما سأل الصحفي عن السبب، قالت ببساطة: “إنها لنا”. مطمئنة جمهورها في كل منازل مصر -ببراعة- بأن أداءها في فرنسا لن يجعلها تكون شخصًا آخر غير مصري.

تقول دانيلسون في كتابها: “من الواضح أن شخصيتها العامة كانت بناءة، لكنها لم تكن مصطنعة ولا مزيفة. تعلمت أم كلثوم ببساطة أن تقدم نفسها بالطريقة التي تريد أن يتذكرها الناس بها”. ولفهم أم كلثوم حقًا ليس فقط كمغنية ولكن كظاهرة اجتماعية تستمر في التوهج، تقول دانيلسون: “يجب علينا إدراك ليس فقط الحياة وراء الأسطورة، ولكن الأسطورة في قلب الحياة“.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *