محمد بوبكري
يجمع المتتبعون للشأن الجزائري على أن الجزائر تعيش فراغا سياسيا مهولا، لأن الجنرالات لا يرغبون في وجود فضاء عام في البلاد، بل إنهم يرفضون وجوده حتى داخل النظام السياسي ذاته، لأنهم ضد الحرية والمدنية والحداثة والديمقراطية، وما تقتضيه من مؤسسات وقوانين وعلاقات. فمنذ 1962 والنظام السياسي الجزائري متكلس لم يعرف أي تطور أو تغيير، انسجاما مع التحولات الفكرية التي عرفها العالم. ويعود ذلك إلى الجمود الفكري للنظام العسكري الذي ما يزال يجثم على صدر الشعب الجزائري، ما جعله يكون منغلقا على ذاته يرفض الانفتاح، حيث صار متمركزا حول مصالحه، ولا يرى إلا ذاته، ولا ينصت إلى الآخرين، بل إن استبداده جعله يتنكر لحقوق الآخرين… لذلك، نجد أن الساحة السياسية في الجزائر فارغة من الأفكار والمشاريع، ما يعني أنها خالية من تنظيمات فعلية، حيث ليس هناك تطور مجتمعي يفضي إلى تعددية سليمة تمكن المجتمع الجزائري من الانخراط في بناء دولة ومجتمع حديثين ديمقراطيين. وهذا ما جعل بعض الفاعلين السياسيين الجزائريين يقولون: إن الجزائر قد تراجعت إلى الخلف مقارنة بما كانت عليه الحركة الوطنية أيام الاستعمار، حيث سادت التعددية داخل هذه الحركة الوطنية.
ونظرا لتحجر عقليه الجنرالات الناجم عن تكلس ثقافتها، فقد ظلوا دائما ضد الشعب الذي ما يزال يسعى إلى فتح صفحة جديدة من تاريخ البلاد ذات أفق مدني ديمقراطي. فليست لدولة العسكر أية شرعية، بل إن شرعيتها تنهض على الكذب والتحايل، لأنهم يقدمون أنفسهم بكونهم استمرارا لحركة التحرير التي جاءت بالاستقلال، كما أنهم يزعمون أن هناك مؤامرة خارجية تتهدد الجزائر. لكن الشعب الجزائري يعي اليوم أن أغلب هؤلاء الجنرالات كانوا مجرد ضباط صف في صفوف الجيش الفرنسي، ما يعني أنهم حملوا السلاح ضد حركة التحرير التي كانت تقاوم الاستعمار الفرنسي، الأمر الذي يفيد أن كذبهم قد انكشف، وأن دعايتهم لذواتهم مجرد كذب وبهتان، وأن ما يفترونه على الخارج مجرد وهم، هدفه تلميع صورتهم، ومنح أنفسهم قداسة معينة، الأمر الذي يدل على أن ثقافتهم موغلة في التقليد، لأن المجتمعات البدائية هي التي تقدس أصحاب اللحى البيض. ويدل هذا على أن هؤلاء يجهلون المصادر الحديثة للشرعية، حيث إنها تنهض على الإبداع والإنجاز في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويبدو للشعب الجزائري أنه ليس لهؤلاء الجنرالات أي إبداع، أو إنتاج، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما جعل هذا الشعب ينتفض ضدهم بدافع الرغبة في الإصلاح والتغيير… وهذا أدى بهؤلاء الجنرال إلى الدخول في مواجهة مع المجتمع، حيث أبدع الشعب الجزائري حراكا كبيرا قد يؤدي إلى انهيارهم. لذلك يشكل الحراك الشعبي احتجاجا على سياسة الجنرالات، حيث يؤمن الشعب الجزائري بأن الجزائر تزخر بكل الإمكانيات التي يمكن أن تجعل من هذا البلد مزدهرا يعيش في الرخاء، لكن فساد الجنرالات وسوء تدبيرهم، ورفضهم إشراك الشعب في تدبير شؤونه العامة هو جعل الجزائر من أفقر البلدان المصدرة للبترول والغاز. ونظرا لرفض الجنرالات للحريات بشتى أنواعها، فإن الشعب الجزائري صار يجهر برفضه القاطع للتدبير السياسي للقضاء في الجزائر.
وإذا كان خطاب الجنرالات يسعى إلى التعبير عن هلعه من الحراك عبر ترويج فكرة مفادها أن هذا الحراك هو من تدبير بعض الأفراد الذين تحركهم جهات خارجية، فإنهم يتجاهلون أن كلا من الرأي العام الجزائري والدولي يعيان أن الحراك في الجزائر هو حراك شعبي لا يمكن اختزاله في بضعة أفراد؛ فهو نابع من إرادة شعب بأكمله، وليس من إرادة أشخاص، والدليل على ذلك أن ملايين الجزائريين قد شاركوا فيه، ما يعني أن محاولات الالتفاف عليه من قبل الجنرالات قد باءت كلها بالفشل. فلقد نظم هؤلاء استفتاء على الدستور، لكن مقاطعة هذا الاستفتاء كانت واسعة، ما ينزع أية شرعية عنه. كما أن هؤلاء الجنرالات قد قاموا بتنظيم انتخابات رئاسية، فرد عليها الشعب بالمقاطعة، حيث شاركت فيها أقلية قليلة، فصار “عبد المجيد تبون” بدون شرعية شعبية. لذلك، فإذا كان توقف الحراك الشعبي بإرادة قيادييه، لاعتبارات فرضتها ظروف جائحة “كورونا”، فإن مقاطعة الشعب الجزائري لكل من الاستفتاء على الدستور وما سمي بـ “الانتخابات الرئاسية”، يشكل استمرارا للحراك الشعبي، ما يعني عدم منح أي شرعية لحيل النظام العسكري. وللتدليل على تجذر الحراك الشعبي في المجتمع، فقد لاحظ بعض الفاعلين السياسيين أن تلاميذ المدارس قد صاروا يرددون، عن وعي، المطالب السياسية التي عبرت عنها الشعارات التي رفعت في مختلف مظاهرات الحراك الشعبي. هكذا، فإن الحراك يجسد فكرا سياسيا عمقه تغيير النظام العسكري بآخر مدني ديمقراطي. ونظرا لتجدد هذا الحراك الشعبي في المجتمع الجزائري واستمراريته عبر مقاطعة كل ما يدعو إليه العسكر، فإنه قد بات يشكل طلاقا مع العسكر. والجنرالات يسعون إلى تأجيله عبر الدعايات الكاذبة المصحوبة وتخوين المنخرطين فيه، والتلويح بممارسة العنف ضد كل من يشارك فيه.
يرى بعض الفاعلين السياسيين الجزائريين أنه في الوقت الذي تتم فيه قيادات البلدان الديمقراطية بالبحوث والاكتشافات العلمية، والتفكير في تحالفات إستراتيجية من أجل إستراتيجية كبيرة، نجد جنرالات الجزائر منخرطين في مناورات صغيرة لتصفية بعضهم بعضا، ما جعل هؤلاء الفاعلين السياسيين يصفون سلوك الجنرالات هذا بكونه مجرد انحطاط كبير.
وإذا كان الحراك الشعبي سلميا يطالب بالتغيير، فإنه عومل بالعنف والتنكيل والاعتقالات، بل وصل إلى حد الاغتصاب الجنسي الذي تعرض له الطالب “وليد نقيش”، ما كشف الوجه البشع لنظام الجنرالات، الأمر الذي نتجت عنه إدانات دولية لهذا النظام. ويؤكد هذا الحراك الشعبي أن الشعب الجزائري فاقد للثقة في نظام العسكر، الذي يريد أن يستمر عبر الكذب والحيل والمؤامرات؛ فالشارع الجزائري يطالب بدولة مدنية ديمقراطية تمكنه من تدبير شؤونه العامة… وفي الوقت الذي تهتم فيه الدول بالبحث العلمي في مختلف الحقول، وبقضايا التنمية والطاقات المتجددة، نجد “عبد المجيد تبون” يكرس خطابا رسميا للحديث عن وجبة غذائية للتلاميذ في المدارس. وهذا ما اعتبره الفاعلون السياسيون المعارضون قمة الانحطاط.
يرى أغلب المتتبعين أن ما تعانيه دولة العسكر من ضعف وهشاشة هو ما جعلها تبحث عن دعم جهات أجنبية، حيث إن الرئيس ماكرون عبر عن استعداده لدعم “عبد المجيد تبون”، رغم أنه يعي أن هذا الأخير لا شرعية له وليست له أي سلطة، ما فهم منه بعض قياديي الحراك الشعبي الجزائري أن الرئيس “ماكرون” يتدخل في الشؤون الداخلية الجزائرية، بل إنه منحاز لنظام العسكر الذي فرض تبون رئيسا. كما أن هناك من ذهب بعيدا فاعتبر أن “ماكرون” يسعى إلى تدبير الشؤون الجزائرية عبر العسكر. وهذا ما يتنافى مع فكر الأنوار الذي تنهض عليه الديمقراطية الفرنسية، بل إنه يفيد أن ماكرون يضع مصلحة بلاده فوق الفكر الذي ينهض عليه النظام الديمقراطي الفرنسي. لقد أعلن ماكرون مساندته لـ “تبون” وحده، ولم يعلن مساندته للجزائر. وهذا خطأ كبير، إذ كان جدير به أن يعبر عن مساندته للجزائر من أجل البناء الديمقراطي والتحديث… ويؤكد تصريح “ماكرون” هذا أن النظام العسكري مومن بألا شرعية لـ “تبون”. لذلك، نجد أن هذا الأخير يبحث عن الاعتراف به من قبل جهات أجنبية، حيث يريد أن يقول للشعب الجزائري إن الجنرالات يحكمون باسم فرنسا، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى أنهم مجرد امتداد للاستعمار الفرنسي…
تبعا لكل ذلك، توجد قطيعة بين الحراك الشعبي والنظام العسكري في الجزائر الذي يرفض أن يفهم أن الشعب يريد دولة مدنية ديمقراطية، ما يحتم على هذا النظام الاقتناع بمراجعة ذاته، لأن مقاربته التي تعتمد على العنف لا يمكن أن توفر شروطا للحوار الوطني الحر الذي ينبغي أن يخلص إلى إطار يمهد للانخراط في البناء الديمقراطي للدولة والمجتمع. ويكاد يجمع المراقبون على أن تعنت الجنرالات قد يؤدي حتما إلى ضرب اللحمة الوطنية الجزائرية، ما يعني احتمال تفتت الكيان الجزائري. لذلك
الجنرالات الذين يدعون الوطنية أن يضعوا الوطن فوق ذواتهم وفسادهم، ويفهموا أن العنف قد يؤدي إلى انهيارهم وانهيار الوطن معا. وإذا كان الجنرالات يقدسون ذواتهم على حساب الوطن، فإنهم سيؤكدون مرة أخرى أنهم “لا وطنيون”. وهذا منتهى الخيانة! وأدعوهم إلى الاستفادة من التاريخ الحديث للأنظمة العسكرية في الشرق الأوسط التي انتهت بدمار العسكر والوطن معا…