عبد النور زياني
هل سرق إرنست همنغواي أفكار صديقه الكاتب الكوبي المغمور إنريكي سِرْپَا Enrique Serpa؟(*)
قد يبدو هذا السؤال غريبًا، وربما وقحًا، بالنظر إلى المكانة الكبيرة التي يحتلها همنغواي ضمن أشهر كتاب القرن العشرين. ولكنَّه سؤال مشروع، بل وملحّ في نظر الأكاديمي الأمريكي أندرو فيلدمان=Andrew Feldman بحكم الأدلة التي قدمها في مقالاته المتعددة حول هذه القضية، وبتفصيلٍ أدق في كتاب له سيصدر في غضون الشهر الجاري (**). فبماذا يدين همنغواي لسِرْپَا تحديدًا؟ وكيف هي حقيقة علاقتهما؟ ومن كان “يستغل” من؟ وهل حقًا نحن أمام سطو موصوف على مجهودات سِرْپَا أم أنَّ الأمر لا يعدو مجرد تأثير متبادل بين الكاتبين؟
تشير أدلة جديدة من كوبا إلى أن إرنست همنغواي كانت تربطه علاقة قوية ودائمة مع إنريكي سِرْپَا المؤلف الكوبي لرواية “كُونْتْرَابَانْدُو”= Contrabando (=التهريب)، بالإضافة إلى قصص قصيرة كـ”لاَ أَگُوخَا=La Aguja،”مَارْلَن = Marlin”، و”أَلِيتَاسْ دِي تِيبُورُن”= Aletas de tiburón (=زعانف القرش).
لقد افتتن إرنست همنغواي بموهبة سِرْپَا الواضحة، لدرجة أن كلًا من روايتي: “أن تملك وألا تملك= To Have and Have Not” و”الشيخ والبحر= The Old Man and the Sea” تُبرزان التأثير الكبير للكاتب الكوبي سِرْپَا على أسلوب همنغواي كما يوضح ذلك فيلدمان الذي أمضى أكثر من عامين من البحث والتنقيب في متحف ومكتبة إقامة همنغواي في هافانا، الشيء الذي مكنَّه من اكتشاف غير مسبوق لأرشيف مهم عن حياة، وإنتاجات، وعلاقات همنغواي في كوبا.
إن ما يعيبه فيلدمان على العديد من الباحثين في كتابات إرنست همنغواي هو جهلهم أو تجاهلهم المقصود لحضور الأدب الكوبي في كتاباته، حيث يكتفون بمناقشة -وعلى نحو متكرر- التأثير الذي كان لمجموعة من الكتاب على حياته وكتاباته، مثل: سكوت فيتزجيرالد، ودوس پَاسوس، وجيمس جويس، وإزرا پَاوند، وغِرْتْرُودْ شْتَايَن. دون الانتباه إلى ما هو أهم من ذلك بكثير، ألا وهو تأثير الأدب الكوبي على رؤية همنغواي الأدبية للعالم وعلاقته بالبحر، وقوارب الصيد، والأسماك، والحانات، والنساء، والنبيذ.
يحكي الصحفي الكوبي المعروف لُولُو دِي لاَ تُورْيِنْتِي= Lolo De la Torriente والصديق المقرب جدًا من همنغواي وسِرْپَا كيف أن الكاتبين التقيا في عام ١٩٣٤ عندما طلب همنغواي من دِي لاَ تُورْيِنْتِي إحضار سِرْپَا إلى حانة إِلْفْلُورِيدِيتَّا=El Floridita حتى يلتقي به ويتعرف عليه عن قرب. ويذكر دِي لاَ تُورْيِنْتِي أن همنغواي كان قد قرأ مخطوطة “كُنْتْرَابَانْدُو” قبل لقائه بِسِرْپَا، وأن هذا الأخير كان قلقًا بشأن نوع الاستقبال الذي سيلقاه من طرف همنغواي.
في حديثه عن تفاصيل اللقاء الذي حصل بينهما، صرَّح إيملدو ألڤُاريز غارسيا أنَّ ”همنغواي قادهم إلى طاولة داخل المقهى، ثمَّ ألقى نظرة فاحصة على وجه سِرْپَا، وسأله: “اسمع أيها الصديق، لماذا تضيع وقتك في العمل كمراسل صحفي؟” ليرد عليه سِرْپَا قائلًا: “لأنَّهم هنا في كوبا لا يدفعون لي عشرين ألف دولار أمريكي للقصة القصيرة لتحويلها إلى فيلم. كما يجب علي أنا وعائلتي أن نعيش”. ثمَّ أضاف همنغواي قائلًا لِسِرْپَا: “يا رجل، أنت أفضل روائي في أمريكا اللاتينية، ويجب أن تنسى كل شيء آخر و أن تكتب الروايات فقط”.
استمرت الصَّداقة التي بدأت في حانة إِلْفْلُورِيدِيتَّا عام ١٩٣٤ جنبًا إلى جنب مع مارتا گيلهورن الكاتبة والمراسلة الحربية والزوجة الثالثة لهمنغواي، والتي اتخذ بصحبتها الخطوة الأولى نحو جعل كوبا مقر إقامتهما الدائمة باستئجار “فينكا ڨيجيا= Finca Vigia” في ربيع عام ١٩٣٢، وهو المنزل الذي اشْتَرَيَاهُ في العام الموالي لزفافهما.
يصرح أندرو فلدمان أنَّه عثر على نسخ من كتب موقعة من طرف سِرْپَا في مكتبة فينكا ڨيجيا= Finca Vigia إلى جانب رسالة غير منشورة موقعة باسم مارتا گيلهورن، بعثت بها نيابة عن إرنست همنغواي إلى صديقه وناشر أعماله ماكسويل بيركنز، تقنعه فيها بمحاولة إيجاد مترجم لأعمال سِرْپَا من الإسبانية إلى الإنجليزية والعمل على نشرها في أمريكا، مشيرةً في رسالتها هاته إلى إيمان همنغواي القوي بعبقرية صديقه سِرْپَا المدهشة.
وهذا نص الرسالة:
_____________________________________
[إلى ماكسويل بيركنز
مدينة نيويورك
عزيزي ماكس:
هل يمكنك أن تعطينا بعض الاقتراحات لكاتب كوبي يدعى إنريكي سِرْپَا، والذي يعتبر وفقًا لـ إرنست همنغواي “كاتبًا بعبقرية مدهشة للغاية”. لقد ألف رواية بعنوان “كُونْتْرَابَانْدُو” حول ركوب البحر هنا في كوبا، والسلع المهربة، والحياة على قوارب الصيد. وهي رواية يعتقد إرنست أنها مثيرة ومكتوبة بشكل رائع. وكل ما أودّ معرفته هو:
(١) من هو أفضل مترجم إلى الإسبانية؟
(٢) أي دار نشر تتوفر على أحد من موظفيها يقرأ بالإسبانية أو سيكون قادرًا على إلقاء نظرة على الكتاب واقتراح مترجم له؟
(٣) هل يتَّجه نيلسون روكفلر المسؤول الخاص عن تعزيز العلاقات الثقافية لأمريكا اللاتينية للنشر، وإذا كان الأمر كذلك فمن هو الشخص الذي يتولى ذلك؟
(٤) هل تعرف عميلًا جيدًا ونشطًا حقًا في نيويورك، قادرًا على التَّعامل مع رواية مكتوبة باللغة الإسبانية؟
من المفروض أن يكون عمر سِرْپَا حوالي ٣٦ عامًا أو نحو ذلك، كما أنَّ له أعمال قيمة أخرى. لا يوجد كاتب لديه فرصة هنا؛ جمهور القراءة صغير جدًا وغير مهتم تمامًا بالكُتَّاب أو بالإنتاجات المحلية.
سيكون من المفيد جدًا لأحد ما معرفته والأخذ به. وهذا هو عنوانه:
إنريكي سِرْپَا
إديسيونيس ألڨاريز بيتا
أورايلي ٣١
هاڨانا، كوبا
سوف يرسل نسخًا من كتابه بالطبع إلى أي شخص سيكون مهتما.]
-توقيع مارتا گيلهورن
الكاتب الكوبي إنريكي سِرْپَا
هناك أدلة أخرى تشير أيضًا إلى أنَّ الصَّداقة بين همنغواي وسِرْپَا استمرت لسنوات عديدة. ومن ضمنها رسالة غير منشورة موجهة من همنغواي إلى سِرْپَا بيعت مؤخرًا إلى أحد جامعي التحف على موقع إيباي=Ebay مقابل ١٣٠٠ دولار. في هذه المذكرة غير الرسميَّة والمؤرخة في ٨ ديسمبر ١٩٥٠، يُذَكِّر همنغواي صديقه بـ”مَهَمَّتِه” لتسليم نسخة من كتابه إلى “ماريو” مع الإشارة إلى “ذكريات مشتركة” تكشف عن ألفة دافئة بينهما.
عندما طلب صحفي من إِلْمُونْدو=El Mundo الإسبانية رأي همنغواي في الأدب الكوبي بعد حصوله على جائزة نوبل في عام ١٩٥٤، لم يتردد في تأييد ومدح أعمال سِرْپَا، قائلًا: “أنا مهتم جدًا بالأدب الكوبي، لكن هناك كتاب يواجهون مشاكل صعبة للغاية، حيث لا يوجد ناشرون، ولا يوجد جمهور. والكاتب المفضل بالنسبة لي هو سِرْپَا، مؤلف رواية “كُونْتْرَابَانْدُو”.”
يبدو أن هناك تأثيرًا كبيرًا لأسلوب سِرْپَا على روايات إرنست همنغواي الكوبية، من قبيل: “أن تملك وألا تملك”و”الشيخ والبحر”. وهو ما يؤكده أندرو فلدمان في قوله: “عندما أتم سِرْپَا كتابة رواية “كُونْتْرَابَانْدُو” في عام ١٩٣٣، حظي همنغواي بقراءة مخطوطة الرواية في عام ١٩٣٤، وهو نفس العام الذي نشر فيه قصة بعنوان”رحلة واحدة عبر” في مجلة كوزموبوليتن عام ١٩٣٤ متبوعة بقصة “عودة التاجر” في مجلة اسكواير=Esquire عام ١٩٣٦. وهما قصتان حولهما فيما بعد إلى رواية بعنوان “أن تملك وألا تملك” والصادرة في عام ١٩٣٧.
يمكن للباحثين العثور على أدلة إضافية على صداقة همنغواي وسِرْپَا على رفوف مكتبة همنغواي في متحف فينكا ڨيجيا، حيث يمتلك إرنست همنغواي نسخة من كل كتاب صدر عن إنريكي سِرْپَا بين عامي ١٩٣٨ و ١٩٥٦.
في رواية “كُونْتْرَابَانْدُو”، يواجه الطاقم الكوبي لقارب الصيد “لاَ بْوِينَا ڤِنْتُورَا= La Buena Ventura” الواقع القاتم المتمثل في انخفاض أسعار الأسماك خلال فترة الكساد الاقتصادي في الثلاثينيات. وعندما اقتنعوا أنَّه ليس هناك أي أمل في كسب عيشهم بشكل شريف وقانوني كصيادين. قام قبطانهم -المدان سابقًا- بإقناع مالك القارب الضعيف بأن تهريب نبيذ الرَّام= Rum إلى فلوريدا سيكون مغامرة أكثر ربحًا ومردوديةً من الصَّيد. كما سيحملون معهم أيضًا رفيقًا لهم هاربًا من السلطات الكوبية يدعى پِيپِي مَارْتِل. ولإنجاح هذه المهمة/ المخاطرة؛ كان يجب على القبطان والطاقم التابع له تأمين الأموال والتهرب من مراقبة الشرطة الاستبدادية.
تتشابه مؤامرات “كُونْتْرَابَانْدُو” و”أن تملك وألا تملك” تمامًا ،حيث يقرر الصيادون -الذين فشلوا في كسب عيشهم بطريقة قانونية- المخاطرة بقواربهم وحرياتهم وحياتهم من أجل تهريب نبيذ الرَّام=Rum والبضائع، والبشر عبر خليج سْتْرِيم. في كلتا الروايتين، تدفع الظروف الظالمة الرجال الشرفاء إلى التصرف خارج القانون.
في مقال له بعنوان “في المياه الزرقاء” نشره بمجلة إسكواير عام ١٩٣٦، يروي لنا همنغواي قصة شيخ صياد حرمه القرش من سمكة مَارْلَن اصطادها بعد عناء كبير. وهي القصة التي ستشكل فكرة روايته “الشيخ والبحر” الصادرة في عام ١٩٥٢. حصل هذا في وقت كان فيه إنريكي سِرْپَا قد نشر بالفعل “مَارْلَن” و”زعانف القرش”، وهما قصتان مدهشتان عن الصيادين الكوبيين. إنَّ صداقة همنغواي مع سِرْپَا ووجود كتب هذا المؤلف الكوبي في مكتبته تشير إلى إلهام آخر ممكن “للشيخ والبحر”.
لم تقتصر الصراعات والمعاناة الأخلاقية التي اكتشفها هذان المؤلفان على ثلاثينيات القرن العشرين. فكما تلاحظ الناقدة سوزان بِيگَلْ، أن رواية همنغواي، تناولت “حقبة الكساد في كوبا التي ميزها تهريب الأجانب غير الشرعيين، ونبيذ الرَّام، والبنادق، والثوريين عبر مضيق فلوريدا”. إنَّها رواية تتَّبع تقليد حكايات القرصنة التي تعود إلى الوقت الذي كانت فيه كِي وِسَت=Key West وكوبا جزءًا من السيادة الإسبانية.وفي إطار تحدي الطابع “المقدّس” للقانون التقليدي وتَوَرُّط،في الوقت نفسه،كلًا من “المسؤولين الحكوميين الفاسدين” و”الرأسمالية وتجاوزاتها”، تطالبنا رواية ”“أن تملك وألا تملك” أن نتساءل عن من هم القراصنة الحقيقيون في مجتمعنا…بالتأكيد لن يكونوا هم الصيادون العاملون…الذين يحافظون على تضامنهم مع بعضهم البعض ”.فأخلاق القراصنة/الشرف بين اللصوص، التي حددتها بِيگَلْ في “أن تملك وألا تملك”ستصف بدقة كذلك طاقم لاَ بْوِينَا ڤُنْتُورَا في“كُونْتْرَابَانْدُو”سِرْپَا.
لقد عايش سِرْپَا وهمنغواي صعود ديكتاتورية باتيستا= Batista في كوبا وشعرا بآثارها مباشرة، إلا أنَّ صداقتهما المطولة وفرت تبادلًا مفيدًا بينهما، حيث عمل كل واحد من جهته على تصوير كفاح الكوبيين والعمال الفقراء في كِي وِسْتْ. كتبا معًا عن مواضيع مماثلة، كصيد الأسماك، والتهريب، والتمرد، واللامساواة، والتضامن، ومضايقات البوليس بأسلوب مماثل. غير أن ما عجز كل المتخصصين في كتابات وحياة همنغواي على اكتشافه، كما يؤكد على ذلك فيلدمان، هو مدى تأثير سِرْپَا على حياة همنغواي وأعماله. وهذا لا يعني أن فيلدمان يتهم همنغواي بـ”الانتحال”، وإنَّما هو يتساءل عن سرِّ التَّقاطع الكبير بين أسلوبه وأسلوب سِرْپَا في الكتابة عن البحر، وقوارب الصيد، والتهريب مؤكدًا في الأخير على أنَّ التحقيق الأولي يُشير إلى أنَّ صداقتهما تستحق المزيد من البحث والتَّحقيق.