وديع عزيز يكتب: قصة متعاف من فيروس كورونا (الجزء الرابع )
ركبت سيارة الإسعاف إلى الفندق وكانت على متنها أيضأ سيدة ضاعنة في السن يقارب عمرها الثمانين سنة،كانت أيضا من الشبه المتعافين. فور وصولنا إلى الفندق أعطوني مفتاح الغرفة، صعدت لوحدي، فتحت الباب،فكان كل شيئ يوحي بالفخامةوالرقي.
بدأت رحلة العلاج الثانية من الحجر الصحي، هاته المرة دون دواء، كل ما في الأمر أنك تؤخد وجباتك الثلاث،ولك كامل الحرية في شغل وقتك بما تراه مناسبا. بالنسبة لي، كنت ألازم “بلكونة”، الفندق الذي كان قريبا شيئا ما من الشاطئ،ومع العلو كنت أتأمل لحظة غروب الشمس الرائعة، كنت أقول في قرارة نفسي: يجب أن أستفيد من كل لحظة منحني الله إياها من جديد.
في بعض الأحيان كنت أرى عامل نظافة أو حارس الأمن الخاص بموقف السيارات بالفندق وأغبطهم على حريتهم وأنا الذي أسكن بغرفة جميلة ولكن سجين مرضي ولا أستطيع تخطي باب غرفتي.
أكثر ما حيرني اليومين الأولين هو أنني كلما أردت أن أستحم أملأ حوض الإستحمام بالماء وأصب الشامبوان لكن ليست هناك رغوة؟
كنت أحلم أن أصنع حوض سباحة كالذي في الأفلام، رغوة كثيفة وعصير ليمون بجانبي، وموسيقى (فريديريك شوبان الهادئة) كل شيء متوفر إلا (الكشكوشة) ليست هنا.
بعد يومين سألت أخي بحكم تعامله مع الفنادق وأخبرني أنه يلزمني (bain douche ) إن أنا أردت الكشكوشة والرغوة.
بعد مرور أسبوع أخذوا لي مرة أخرى عينة من أنفي وهي عينات اليومين الرابع والخامس عشر ( 14j/15j).
بينما أنتظر نتائج تحاليلي كان الغذ هو الأول من رمضان،إتصلت بالطبيب هناك بالفندق وأخبرته أن يتركني أصوم لأنني أشعر أني في كامل صحتي البدنية، نهاني عن الصوم وأخبرني أن جسدي يحتاج إلى مناعة قوية وهاته المناعة يجب أن أكتسبها من الأكل، على الأقل وجبة كل ثماني ساعات، صباح الأول من رمضان أحظروا لي فطور الصباح، أخدته مرغما وإحساس غريب أنني لأول مرة في حياتي لن أصوم أول أيام رمضان، عند وصول الساعة الحادية عشرة صباحا رن هاتف غرفتي وإذا بالطبيبة تخاطبني:
-ألو سي عزيز هذا؟
-وي لالة هو هذا شكون معايا؟
-معاك الدكتورة، بغيت غير نقوليك أسي عزيز نتا راك في اللائحة خصك تخرج لبارح تمشي لداركم راه الحمد لله نتائج التحاليل النهائية ديالك خرجوا مزيانين وتقدر صافي تمشي فحالك…
-الله يا دكتورة خصني نخرج لبارح وماقلتوهاش ليا خليتوني شحطت النهار الأول في رمضان؟!!
إحساسي بضياع اليوم الأول من رمضان غطى عن فرحتي بخروجي إلى بيتي، جمعت أغراضي وأخدت دش وارتحت قليلا عند الرابعة بعد الزوال ودعت غرفتي ونزلت من أجل المغادرة، سيدة الاستقبال ضحكت من تصرفي حينما لاحظت أنني أحمل حقيبتي وقالت لي:
-فين غادي بهاداكشي الشريف؟
-كيفاش فين غادي بهادشي؟ هادو حوايجي أختي…
-ههههه لا أخويا راه ممنوع تخرج معاك شي حاجة، كلشي هادشي غادي يتحرق شوف لهيه شحال ديال الحقائب والمانطات ديال ناس مشاو بلا بيهم.
-وايلي اختي راه غادي نمشي لدارنا نحط كلشي في الكاراج على شهر عاد ننزل ناخدهم ونصبنهم بالماء سخون.
-وااالو وتقول أخويا، غادي تخرج طويل ونتا براسك غادي نعقموك كامل عاد تخرخ.
بعد جهد جهيد استطعت إقناعهم بترك المصحف الكريم الذي رافقني طوال مدة علاجي، عقمته بنفسي خوفا عليه من البلل، ودعت الفندق غير مؤسوف عليه رغم رقيه ورغم أنه أعجب خالي الذي أرسلت له فيديو من داخل غرفتي والراحة المتوفرة هناك فقال لي: الله يا ولد ختي خلي ليا غير المانطة لي في داركم كنتي كاتتغطى بيها ملي كنتي مريض نمشي نتمرمد فيها شوية نجي حتى انا ندوز شي جوج سيمانات في هاد لوطيل..هههه.
خطوت أول خطوة لي خارج الفندق ونظرت إلى السماء، نسيم عليل هذا الذي استنشقه، نظرت يمنة ويسرة شاهدت سيارة للقوات المساعدة رابضة أمام الفندق، ابتسمت لهم ابتسامة المنتصر، ما إن عبرت الشارع حتى وجدت حديقة، وضعت المصحف الذي أحمله فوق كرسي، خلعت (صندالتي) وصليت أعذب صلاة عصر في حياتي. بقيت جالسا في تلك الحديقة أكثر من ساعة وأنا أشاهد المارة والسيارات وكأنني من كوكب آخر، نفسي الأمارة بالسوء تقول لي: لو لم تنج من هذا الفيروس، كنت لتكون الآن في قبرك تتحلل، هل سيغير غيابي شيئا من هذا الكون؟ هل أستحق فرصة ثانية من رب العالمين؟ إقترب موعد الإفطار، الكل يسرع الخطوات، إلا أنا (شاحط رمضان) أتمشى على قدمي وهائم في شرح معنى الحياة، بعد برهة أوقفت سيارة أجرة وركبت في المقاعد الخلفية على غير عادتي، أخرجت خمسون درهما وعقمتها جيدا لأمنحها للسائق خالية من كل شبهة فيروس، طوال الطريق أفكر كيف سيستقبلني أهلي وهم لا يدرون أنني قادم إلى البيت؟ طلبت من سائق سيارة الأجرة أن ينزلني بعيدا عن الحي وترجلت، كنت انتظر ردة فعل أبناء الحي والجيران، كان أول من شاهدني(عبد الله) شاب قست عليه الحياة، إرتمى علي ليعانقني حاولت جاهدا منعه ولكنه قال لي: واتا عنقني راه ملي شفت الفيديو ديالك بكيت وديما كاندعي معاك ترجع لينا أخويا عزيز.
إتصلت بأخي لأخبره أنني أمام المنزل وطلبت منه أن ينزل لي ملابس جديدة وأن لا يخبر أمي أنني أتيت، كان لا يزال لآذان المغرب ربع ساعة، غيرت ملابسي في الطابق السفلي وصعدت خلسة لأدخل على أمي بالمطبخ، ما إن شاهدتني حتى صاحت بأعلى صوتها :
وليييييييدي رمت ما بيدها وارتمت عني تحظنني بقوة عجيبة، أحسست بروحي تعود إلى جسدي، عانقتها لا شعوريا رغم أنه يتوجب علي أن أبقى مبتعدا عنهم ولكني وجدت أن لا شيء في هذا العالم يمكن أن يمنعني من حضن أمي، عانقتها وارتميت على رجليها أقبلها والدموع تنهمر من عيون الجميع.
على سلامتك أوليدي كانخمم كيفاش غادي يدوز فطوري بلا بيك… نحمدك يا سيدي ربي ونشكرك، كانت أمسية جد رائعة، صلينا المغرب جماعة في البيت وكانت صلاة حمد وشكر لرب العالمين بجمع شملي مع عائلتي.
انتهى.. نتمنى الشفاء لجميع المرضى