مقال للذكرى والذاكرة.. « يوم قرر الإسلاميون تحويل الجامعة لشلال دم »

حماد البدوي

حدث في مثل هذا اليوم 25 أكتوبر 1991

عرفت نهاية الثمانينات و مطلع التسعينات من القرن الماضي سلسلة من الإغارات على بعض الجامعات المغربية النشطة نضاليا، قادتها جماعات أصولية كان يصعب يومها تصنيفها جميعها بإستثناء جماعة العدل و الإحسان التي كان بعض عناصرها معروفين للجميع، و التي كانت الأنشط في تدبير المناوشات العنيفة ضد مناضلي الإتحاد الوطني لطلبة المغرب و قواعده، صعوبة التصنيف هاته كانت نتيجة لنهج سلوك الإنغلاق ، الأقرب إلى « الباطنية »، من طرف تلك الجماعات التي لم تتفاعل قط مع المحيط الطلابي، بإستثناء ما كانت تقدم عليه من خطوات مدروسة في إطار نهجها « التدرجي » الهادف إلى التسيّد داخل الجامعة، و ما كانت تقوم به من أنشطة سياسية داخل مساجد الجامعة التي حولتها من أماكن عبادة إلى مقرات حزبية تعلق بداخلها البيانات السياسية و توزع فيها المناشير، و تستعملها ما بين الحين و الآخر كغرف عمليات.

كانت تلك الجماعات قد قضت أكثر من عقد من الزمن متفرغة لبناء تنظيماتها الذاتية بعيدا عن أي إهتمام بكفاح المغاربة من أجل الحياة الكريمة و الديمقراطية و التحرر الوطني، و بعيدا عن كل ما من شأنه أن يدخلها في صراع مع « ولي الأمر »، قد يترتب عنه تعرضها لمضايقاته، أو يحرم بعضها من رعايته لها. فضلا عن أن المستجدات التي طرأت في السياق الإقليمي مثل صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر و حركة النهضة في تونس، و بروز حركة حماس على الساحة الفلسطينية، ثم التداعيات التي ترتبت عن سقوط الإتحاد السوفياتي، جعلتها تقدر أن ساعة الإعلان عن الذات قد حلت.

لكن الإعلان عن الذات لم يتم عبر نهج التصادم مع النظام المغربي، بقدر ما تم عبر محاولة إجتثات فصائل اليسار التقدمي من الجامعة « لأخونتها »، و السطو على فضائها و مفاصلها، في أفق إستعمالها في نشاطها السياسي المستقبلي بالنظر لما تقدمه الجامعة في تلك اللحظة التاريخية من فرص للإشعاع السياسي و الثقافي و الإيديولوجي…

في تلك اللحظة كانت سجون المغرب تعج بالمعتقلين السياسيين من قياديي الإتحاد الوطني لطلبة المغرب و مناضليه (وجدة، فاس، مكناس، مراكش، سجن آسفي….)، بعض هؤلاء كان قد قد إعتقل منذ إنتفاضة 1984 (رفاق الشهيدين بلهواري و الدريدي)، و بعضهم إعتقل سنة 1986، 1987، 1988، و البعض الآخر إعتقل سنة 1989 في غمرة الإعتقالات التي إستهدفت المناضلين القاعديين في الجامعات التي خاضت مقاطعة إمتحانات سنة 1989. و كانت قبضة الأمن لا ترحم من إقترب إلى فصائل اليسار بالتعاطف أو الإنتماء، و كانت آلته القمعية لا تتوقف عن المداهمات، و الإعتقال التعسفي، و التعذيب الوحشي، و البطش و التنكيل بشباب الجامعة النشطين في إطار اوطم.

كان نشاط تلك الجماعات ينحصر في إعداد الإغارات العنيفة، مرة تلو الأخرى، والتي كانت تسبقها و ترافقها حملات تكفيرية تروج لتلفيقات و إشاعات عارية عن الصحة، من قبيل تدنيس مساجد الجامعة أو تدنيس المصحف أو الإعتداء على الطالبات المحجبات …، فضلا عن ضرب الحصار على مساكن المناضلين في أحياء المدينة مثلما كان قد حدث مع منزل الشهيد بنعيسى نفسه سنتين قبل إغتياله.

لكن يجب الإقرار أن تلك الإغارات كانت تفشل مرة تلو الأخرى، و كان ينقلب السحر دائما على الساحر، مع أنها كانت تهدر طاقة النقابة الطلابية و مناضليها في معارك مستنزِفة ، و كانت تفلح في تشويه صورة الفصائل التقدمية بتقديمها كمجرد طرف من طرفي صراع طلابي داخلي..

إرتفعت حدة التوتر في بداية موسم 1990 – 1991 بسبب إغارات متتالية على جامعتي وجدة و فاس إستنزفت طاقات الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، و صرفت مؤقتا جهد المناضلين للتصدي لتلك المحاولات اليائسة باليقظة و التعبئة المستمرتين.

لكن اكبر إغارة على الإطلاق هي تلك التي حدثت فجر يوم 25 أكتوبر من سنة 1991 على جامعة فاس، التي كانت تعتبرها تلك الحركات بمثابة الحلقة الرئيسية الواجب كسرها ليسهل الإنقضاض على باقي الجامعات. كانت تطلق عليها « ألبانيا » في إشارة إلى آخر بلد في أوربا الشرقية يسقط نظامه في سياق الإنهيارات المتتالية التي شهدتها أنظمة أوربا الشرقية ما بين 1989 و 1991.

لكن أهم ما ميز تلك الإغارة هي تواطؤ قوات الأمن . و هذا ليس تقديرا فرضيا، و لا دعاية رخيصة بل نتيجة لمعاينة شخصية لكل تفاصيل تلك الأحداث.

إنطلق الموسم الجامعي في أكتوبر سنة 1991 بزيارات إستطلاعية لرحاب جامعة ظهر المهراز (تستحق جامعة فاس إسم ظهر المهراز بدل إسم محمد بن عبد الله ) من طرف عناصر لا تبدو على هيئتها أية صلة بالجامعة، ثم تأكد لاحقا رصد وصول عناصر منتمية لجماعات أصولية إلى محطة الحافلات قادمة من مدن مغربية مختلفة. شاع خبر الهجوم في أوساط الطلبة، و راجت الإشاعات عن عدد المهاجمين، و ساد الترقب الممزوج بالخوف على مصير الجامعة و مصير مناضليها، سيما و أن الحديث لم ينقطع حينئذ عن وجود لائحة بأسماء ممن صدرت في حقهم فتاوي بتنفيذ حكم الإعدام فيهم.

في خضم ذلك الجو المحتقن الذي رافقته حملة من التعبئة المستمرة في أوساط قواعد الإتحاد الوطني لطلبة المغرب بهدف إفشال أهداف الإغارة المنتظر وقوعها، حضرت لجنة الجامعة حوارا مع مدير الحي الجامعي (وكنت ضمن المشاركين فيه) لإستجلاء موقف الإدارة (كممثلة للسلطة) مما يتم الإعداد له. لم يخف المدير علمه بترتيبات الهجوم، و لا تظاهر بجهله لمعطياته. كان يعرف يوم و ساعة تنفيذه.

في ليلة الخميس 24 أكتوبر أحكمت لجان اليقظة إغلاق أبواب جناح الطلبة، و بقينا بداخله ننتظر مالذي سيحدث معنا. في تمام الساعة السادسة صباحا غادرت فجأة سيارات الأمن مداخل الجامعة، و هي التي لم يسبق أن أبرحت مكانها منذ إنطلاق الدراسة بالجامعة في نهاية شتنبر. و تلك كانت إشارة سيئة، بل بالغة السوء.

بعد أقل من ساعة طرق غرفتي أحد الطلبة ثم دخل مفزوعا و لاهتا، فتوجه إلي قائلا: الرفيق، لقد خرجت لممارسة الرياضة و هناك مجموعات من « الخوانجية » تتجمع في تخوم الجامعة من جهة الخلاء.

إستيقظ كل طلبة الحي الذين كانوا في معظمهم من قواعد و مناضلي الإتحاد الوطني على وقع ذلك النبإ، و هرعوا جميعا خارج جناح السكن حتى لا يسحلوا داخله أو يحرقوا بقنان المولوتوف . لم يكونوا يعرفون حجم القوة التي ستضربهم، و لا درجة العنف الذي سيعاملون به.

إتجهنا نحو المكان الذي إستعلمنا عن وجود المهاجمين به فوجدنا أنفسنا أمام جبهة قتال حقيقية مرصوصة الصفوف، مثل كتيبة رومانية. مئات الملتحين يحملون عصابات على جباههم. لكن لم تكن تلك هي الجبهة الوحيدة، بل تلك كانت واحدة من خمسة أو ستة.

إنتظروا ساعة الصفر ثم إنقضوا علينا وسط أصوات التكبير. تراجعنا إلى وسط الحي، فوجدنا جموع طلابية أخرى تركض في كل الإتجاهات و السكاكين و السيوف تفتك بلحمها، و القضبان الحديدية تسحق عظامها. بعد أقل من نصف ساعة كانت رحاب الحي الجامعي قد سقطت في أيدي الغرباء الذين كان البعض منهم طلبة بجامعة فاس أو بجامعات أخرى، و البعض الآخر لم تكن لهم أية علاقة بالجامعة، و كان طلبة الحي قد تشتتوا في الأحياء الشعبية المحاذية للجامعة.

مرت الساعات، و إستجمعت الأنفاس، و أعيد تشكيل معطيات المواجهة و خططها، و كان لا بد لأهل الحي الجامعي أن يعودوا لحيهم، و للغرباء أن يرحلوا عنه، لأن موازين القوى لم تكن لتقاس بالمعطيات القتالية و الميليشياوية بل بقياسات الشرعية النضالية و الإلتفاف العضوي لقطاعات واسعة من الطلبة من حول الإتحاد الوطني لطلبة المغرب ، و هذا ما لم يفلح في إدراكه المهاجمون. لكن الحصيلة كانت ثقيلة جدا. ففي لحظة تفقد ما أتى عليه عنف الجماعات المهاجمة تبين أن رفيقنا نورالدين جرير، الناطق يومها بإسم فصيل القاعديين ، كان قد تعرض لمحاولة إغتيال، نجى منها بأعجوبة ليوقع به في قبضة البوليس، ثم ليحاكم لاحقا بعشرة سنوات سجنا.

لكن لماذا إنسحب البوليس و ترك المهاجمين ينفذون هجومهم رغم ما سيخلفه من ضحايا؟

في لحظة ما كان النظام قد قرر تشجيع كل ما من شأنه أن يغرق الجامعة في العنف لصرفها عن أي نشاط سياسي و فكري يمكنه أن يزخم النضال الطلابي الذي لم توقفه الأحكام الثقيلة الصادرة في حق نشطائه، و يمكنه أن يرفد النضال الجماهيري التقدمي بالأطر و الأفكار و الإرادة القوية. فوجد في الجماعات الأصولية الأداة لتحقيق ذلك.

لكن لم تكن جامعة ظهر المهراز وحدها التي عرفت قسوة العنف الأصولي، إذ لم يمر أسبوع واحد على « موقعة فاس »، و على فشل إغتيال الرفيق نورالدين جرير، حتى كان دم الشهيد المعطي بوملي قد سفك يوم 31 أكتوبر بحي القدس المحاذي لجامعة وجدة.

هل يمكن إعتبار ذلك العنف الذي مورس في ساعة الفجر على طلبة نائمين عنفا متبادلا؟ لم يكن العنف الذي عرفته الجامعة في تلك المرحلة عنفا متبادلا بل كان مخططا له من طرف الجماعات الأصولية لإحداث إنقلاب في مسار الجامعة، و كان مسموحا به من طرف السلطات لإستئصال اليسار من الجامعة بعد أكثر من ثلاثين سنة من توطنه فيها.

كا لم يكن هناك في الواقع، من جهة، إقصاء لوجود تلك الجماعات بالجامعة كما دأبت أدبياتها على ترديده، بل كان هناك رفض لمحاولات خطفها اللإتحاد الوطني لطلبة المغرب، المنظة الطلابية التقدمية، و تحويلها إلى منظمة تقوم بأدوار تتعارض و مبادئها و تاريخها. كان يمكن لتلك الجماعات أن تلتحق بالإتحاد العام لطلبة المغرب، و هو أقرب إلى مرجعيتها، لكنها لم تفعل. أو لم تلتحق حركة الإصلاح و التوحيد بالحركة الشعبية الدستورية بقيادة عبد الكريم الخطيب؟ بل كان يمكنها أن تؤسس منظمة طلابية بمبادئ تتساوق مع مرجعيتها الإيديولوجية. ألم تفعل ذلك حركة النهضة في تونس؟

فالإتحاد الوطني لطلبة المغرب ليس كرسيا تتداول الأحزاب و التيارات عليه ، بل هو منظمة تقدمية أولا وقبل كل شيء، له تاريخه و تراثه و مبادؤه و منظوره لدور و رسالة الحركة الطلابية المغربية. فهل نستطيع أن نتصور الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدار من طرف جماعات سلفية؟ هل سيدافع السلفيون عن مبدإ المساواة و عن حرية المعتقد كما تنص على ذلك مبادئ الجمعية؟

هناك يومها من إعتبر تلك الإغارة و مثيلاتها التي شملت جامعات أخرى أمرا يخص الجامعة و الفصائل العاملة بداخلها، و بالأخص فصيل الطلبة القاعديين، لكن كان ذلك تقديرا خاطئا. إذ سيطال الأذى لاحقا فضاءات أخرى، حزبية و جمعوية و نقابية و مدنية، بل سيطال المدرسين أنفسهم.

يبقى التأكيد، على مستوى الجامعة على الأقل، على أن أفضل رد على ممارسات قوى التشدد و الإقصاء، مثل تلك التي إستهدفت الجامعة المغربية في تلك المرحلة، أو تلك التي برزت لاحقا بلبوس إديولوجية مختلفة، يمر بالضرورة عبر إرساء أسس تواصل و تنسيق دائمين ما بين مختلف الفصائل التقدمية ، و عبر تسييد الحوار الديمقراطي بينها، و إشراك الجماهير الطلابية في كل الصيرورات التي يترتب عنها تقرير مصير الحركة الطلابية الآن و مستقبلا.

23 اكتوبر2012

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *