يونس التايب يكتب: استعجالية عودة نخب الثقافة والفكر لتأطير النقاش العمومي

يونس التايب : استعجالية عودة نخب الثقافة والفكر لتأطير النقاش العمومي

ليس عاديا و لا طبيعيا و لا معقولا أن يعرف مجتمعنا ما يعرفه من سجالات قوية، و من تدافع « تواصلي » فيه شيء كثير من الكلام في السياسة، و تعابير الاجتجاج والقلق من الأفق الذي يقال عنه أنه « غير واضح »، و من استمرار تمدد تيار غاضب يسفه كل شيء و يتحرك بدون تأصيل واضح، و رغم ذلك لا نسمع و لا نرى نخبنا الثقافية و الفكرية الوطنية حاضرة في وسائل الإعلام العمومي والخاص، في اليوم والليلة، مرات و مرات، من زوايا مختلفة و متنوعة.

في بلدنا مفكرون و علماء اجتماع، و فلاسفة و أدباء، وعلماء دين، ومتخصصون في الاقتصاد و التنمية و التهيئة المجالية و التدبير والسياسات العمومية، معترف لهم برسوخ حضورهم العلمي و المعرفي و النزاهة الأخلاقية، و لا مجال هنا لذكر أسماء معينة، كي لا أقترف جريرة نسيان أي منهم و كلهم يستحقون وقفة احترام. لعدد منهم إسهاماتهم وكتاباتهم التي قرأناها و نعود إليها لنفهم معاني الأشياء ونستوعب الظواهر المستجدة بعمق مفاهيمي رصين. و بالتالي، كيف يمكن أن يظل كل هؤلاء على خارج التداول اليومي لقضايا الناس، غير مستمع (بضم الميم!) لرأيهم في نقاش ما يلهب تفكير المواطنين في الواقع وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وسماع تفاعلهم مع كل ذلك وتأطيره بالقدر الكافي من الموضوعية و الحكمة؟

كيف يمكن أن لا يكون هؤلاء المفكرون، الآن و فورا، ضيوف إذاعاتنا وتلفزاتنا، في عدة برامج حوارية، و لا تخلق لهم محطات تواصلية متعددة بمدن وقرى المملكة، بالجامعات و المعاهد و دور الثقافة والقاعات الكبرى، ليحللوا و يشرحوا للناس دلالات هذا الصخب، وأسبابه و منطلقاته و آفاقه المحتملة، ويقدموا بدايات حلول معقولة وممكنة، تعيد ترتيب الأفكار في ذهن كل مواطن، و كذا في ذهن الفاعل العمومي الذي له سلطة القرار؟ أهم غائبون إراديا؟ أم أريد لهم الغياب بشكل متعمد لسبب ما؟ أم أن هنالك، في كل حالة، شيء من هذا وذاك؟

أي شيء يا ترى يمكن أن نخسره لو أعدنا المثقف و المفكر المغربي إلى قلب دائرة النقاش العمومي ليؤطره و يضبطه؟
وعلى فرض أن هنالك احتمال لهذه « الخسارة »، و هو احتمال سوريالي لا يوجد سوى في أذهان من لا تعلو عندهم مصالح الوطن، هل سنخسر بعودة المثقف و المفكر المغربي أكثر مما نحن الآن نخسره بأثر استراتيجي خطير تضعف معه، بشكل متسارع، حظوظ إبقاء التماسك الاجتماعي و النهضة الوطنية و الحق في التقدم و التنمية؟

هل هنالك خطر أكبر من استمرار وضعية الارتباك، و تمدد « الوشوشات الجانبية »، و ترك المجال مفتوحا أمام « فوضى الكلام »، و « الأشكال الجديدة للتعبير عن الاحتجاج » التي تتجدد و تتمدد بشكل غير مضبوط مؤسساتيا، و لا منضبط لأي معيار سوى « الحق في الغضب والتعبير عن الاحتقان »، فلا تحقق غاية و لا تنفع أهلها و لا تخدم الوطن ؟

أعلم أن سلبية مجتمعنا أصبحت طاغية، بل تبدو هيكلية في أذهان بعض من لا تعوزهم الحكمة و الكفاءة، و من بإمكانهم فعل الكثير وتقديم النصح و الرأي السديد، لكن أمام هذا المعطى هل علينا أن نظل هكذا ننتظر تفاعل النار بالهشيم يوما ما، في مكان ما، بسبب جزئية ما؟ أليس من المسؤولية الأخلاقية و السياسية و المجتمعية، بكل أبعادها، أن نمكن العقلاء من العودة إلى ساحة النقاش العمومي، بما يليق بهم وبقيمتهم، ليتحدثوا في وسائل الإعلام الكبرى و الأكثر وقعا، و يحدثوا الناس و يطمئنوهم و ينيروا لهم الطريق، و يحفظوا في وجدان العموم الأمل و التفاؤل، كي لا تختل الرؤية على الكثيرين فيسلكوا سبلا، لا يتصورون أبعادها وحجم الشر الذي توصل إليه، و ربما في الأصل هم لا يريدونها لولا ما بهم من ألم التهميش الاجتماعي و الاقتصادي والثقافي، و ضغطه النفسي و المادي الرهيب؟

من العقل و الواجب أن نعيد فورا الاعتبار لكل المفكرين و كل العقول المغربية الأصيلة و المتعددة الروافد، و نجعل أصحاب الرأي الحقيقيين، و حملة العلم بكل فروعه، يتكلمون و يحتلون المشهد الإعلامي، لعلها تتوارى شيئا ما إلى الوراء، كل « الكراكيز » التي خلقناها منذ مدة، باسم « الإبداع » تارة، و باسم « التجديد و مواكبة العصر » تارة أخرى.
كما على من حاولوا أن « يخلقوا » لتلك « الرموز » أثرا في المجتمع، أن يعترفوا اليوم بحقيقة أن هؤلاء لا يؤثرون بشكل هادف و بناء، و أن « الكراكيز » لا يمكنها أبدا أن تحمي المجتمع في « زمن الفتنة »، ولا أن تعوض في وجدان الناس ما يحدثه خطاب الصدق وإبداع التميز والفكر الأصيل و الكلمة الهادفة.

لذلك رأيي أنه من الممكن جدا، بشرط إسراع الخطى على طريق العودة بالمفكر و المثقف المغربي إلى مكانه الطبيعي في قلب دينامية مجتمعنا، و باستثمار الرصيد الثقافي و الفكري الوطني، أن ننجح في استرداد زمام المبادرة على درب تحصين الذات المجتمعية ضد كل الجراثيم الخطيرة التي تستهدفها من تسفيه و عدمية و تطرف وانحراف و فساد و تخلف و تحلل قيمي و من استهتار بالمسؤولية.

بكل ما سبق، و بإعادة الهيبة للقانون ليعلو على الجميع، و بربط المسؤولية بالمحاسبة، سيكون بإمكاننا تدبير المرحلة بكل تحدياتها الضاغطة، و السير بشكل عقلاني يحفظ المكتسبات و يعززها، و يتيح تصحيح الاختلالات، و يبني مساحات التوافق حول التأهيل الضروري لتدبير شأننا العام الوطني كي تستمر السفينة في إبحارها بهدوء وسكينة، و يستمر الافتخار بالإنتماء لهذا الوطن، و يظل الأمل غالبا على أصوات التشاؤم، و تبقى العزيمة قوية لمواجهة الصعوبات، و تبقى الهمة عالية لتحقيق الحضور التاريخي الذي نأمله و نتطلع إليه، و الذي تستحقه بلادنا بكل ما في مغربيتها من مجد و عراقة.

الأمور واضحة و لا تحتاج جهدا كبيرا لفهمها، و لا داعي للعناد في عدم الاعتراف بالحقائق كما هي: ما ينفع الناس يبقى والزبد إلى زوال مهما علا في مراحل معينة.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *